الأعظمية تعلّمنا درس الوحدة

أخبار العراق المأساوية، هذه الأيام، «لبنانية» الصدى، وعلينا أن نقرأ فيها النهايات التي يمكن أن تقودنا إليها عمليات الشحن الطائفي التي تجري أمام عيوننا وعلى مدار الساعة، تحت راية التدخل الأجنبي، وأحياناً عبر الاستقواء به على الأخ الشقيق، شريك الماضي والحاضر والمستقبل، توأم الروح، ومن تتقاسم معه الأرض والهواء والشمس والحلم والأمل بغد أفضل.

ها هو التدخل الأجنبي الذي اتخذ صورته الوحشية بالاحتلال العسكري قد دمّر العراق كياناً سياسياً، أي دولة كبرى في إقليمها، ثم مضى يمزق وحدة الشعب العراقي أدياناً وطوائف ومذاهب وأعراقاً وعناصر، وكأنه يعيد غلقها وردها إلى ما قبل الدولة، بل إلى ما قبل العمران... فيؤجج الفتنة ثم يتذرع بالفتنة لتبرير احتلاله، فإذا ما نجح العراقيون في تجاوز خطته الجهنمية لزجهم في اقتتال أهلي بلا نهاية، اتهم بعض جيران العراق ليحرّض فيخيف الجيران الآخرين بحيث يقتتل الجميع وينشغلون عنه، بل ولا بد أن يستعين بعضهم به ضد «أعدائه الجدد»، حتى يغرق الجميع في بحر دمائهم، ولا قضية، بينما يرتاح الاحتلال بتوسيع مساحة هيمنته على الموارد والإرادة والقرار.

ولنا في لبنان تجربة بائسة لا يجوز أن ننساها.. فقبل ثلاث وثلاثين سنة نُسب إلى هذا البلد الصغير المزدحم غالباً بـ«الدول» وحروب مصالحها، مرض لا شفاء منه هو «اللبننة». وكان هذا المرض أحد مظاهر العجز العربي عن حسم الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأحد مظاهر التخلف اللبناني في صياغة نظام سياسي عادل لكل مواطنيه حقوقهم المتساوية في نِعمه!

ولأن الفتنة تعدي، كما الوباء، فإن الاحتلال الأميركي للعراق يحاول الآن نشر «لبننة» من طبيعة مختلفة، إذ هو يحاول «عرقنة» منطقتنا العربية جميعاً، بحيث لا يكون من «مجتمع صحي» فيها إلا إسرائيل!

إن ما يجري في قلب بغداد والمدن والبلدات المجاورة، هذه الأيام، يتجاوز بفظاعته الجريمة الإسرائيلية في فلسطين. إن الاحتلال الأميركي «ينظم» الفتنة، مباشرة، وبالأمر. إنه يسوّر كل حي في بغداد ليعزله عن الآخر. إنه يشق كل انسان الى اثنين، إنه يقسم كل بيت الى خربتين بل الى مجموعة خرائب أو مقابر!

في قلب النهار، وأمام عيون العالم أجمع، وعلى رأسه مجلس الأمن الدولي الذي لا ينام اعضاؤه الكبار الليل لشدة اهتمامهم بسلامة لبنان واللبنانيين... وأمام عيون حشد الملوك والرؤساء الذين تلاقوا في القمة المذهبة في الرياض لكي يتنازلوا عن معظم فلسطين للاحتلال الإسرائيلي، يعمل جيش الاحتلال الأميركي سكينه في تقطيع اوردة القلب المتعب للعراقيين!

الأفظع هو التبرير: يقول إنه يميتهم خنقاً، خلف جدار الفصل المذهبي، حتى لا يسبقه إليهم القتل على الهوية المذهبية، وهو هو من يغذي هذا القتل ويبرره ويحاول تعميمه خارج العراق... فالفتنة هي الحليف الأعظم للاحتلال الأجنبي!

يقول لأهل الأعظمية إنه يريد أن يحجزهم خلف السور حتى لا تأكلهم ذئاب الكاظمية... والكل مقتول!

يقول إنه يريد حمايتهم من مشاعرهم، من أنسابهم، من حقيقة الأصل الواحد. يريد ان يحمي الحفيد من جده، والابن من أمه.

ترفض الحكومة ـ الدمية جدار الفصل المذهبي، فتصر قيادة الاحتلال ومعها عملاؤها على المضي قدماً في شق القلب بالجدار المؤسس لفتنة ينتهي الزمان ولا تنتهي..

تخرج التظاهرات الغاضبة في الأعظمية ومن حولها لتؤكد وحدة العراقيين. ويقول المخوَّفون إنهم لا يخافون اخوتهم. إنهم ولدوا مع فجر التاريخ معاً، وبنوا مراحل مجد عظيمة عبر ذلك التاريخ معاً.. وإنهم باقون إلى نهاية التاريخ معاً. حياتهم واحدة، مآسيهم المعتقة واحدة وأفراحهم الموعودة واحدة، ومطالبهم المؤكدة والموحدة أن تخرج جيوش الاحتلال الأميركي ليستأنفوا حياتهم الواحدة معاً.

لكن العراقيين بحاجة إلى أهلهم. لم يكونوا عبر تاريخهم محتاجين إلى أهلهم كما اليوم. لكن الأهل في شغل شاغل عنهم: مَن هم في القمة يسعون إلى استسلام لا تقبله إسرائيل، فيوسطون الاحتلال الأميركي هناك... والوسيط هناك هو السفاح هنا، فمن أين تأتي النجدة؟! لا نجدة في فلسطين. لا نجدة في العراق. لا نجدة إلا الأهل.

دماء العراقيين، تكاد تصير نهراً ثالثاً. تكاد تصير طوفاناً.

... ومع ذلك فثمة من لا يزال بيننا من يستقوي على أهله بالأجنبي، ولو محتلاً.

مرة أخرى، ها هو الدرس قاطع في وضوحه: الوحدة هي ضمانة الحياة، هي ضمانة الديموقراطية، هي ضمانة الوطن والمستقبل.

ليقرأ اللبنانيون الدرس العراقي جيداً من أجل غدهم..

تعليقات: