نشوة نصــــرٍ \"قراءة سياسية في مسار الحرب (2/1)\"

إيهود أولمرت (أرشيف - رويترز)
إيهود أولمرت (أرشيف - رويترز)


عدوان تموز 2006- قراءة في المسار السياسي للحرب يرسم التدقيق في مسار عدوان تموز على لبنان صورة واضحة لحرب متدحرجة تموّج خطها البياني بين الصعود والهبوط ربطاً بالمستجد الميداني والسياسي. من المعالم العامة لهذه الصورة انقسامها إلى أربع مراحل اتّسم كل منها بملامح خاصة، أملتها التطورات السياسية والميدانية، وكوّنت مرتكزاً سببياً بين مرحلة وأخرى، بدءاً بقرار شن العدوان وصولاً إلى إنهائه

شنّت إسرائيل حربها على لبنان وهي تعتقد أنها تقدم على عملية عسكرية واسعة، لكن محدودة، لا تستدعي هيكلة حربية للأطر الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية ذات الصلة. يعود ذلك إلى قناعة سادت أوساط القادة العسكريين، تحديداً رئيس الأركان، دان حالوتس، أن في الإمكان حسم المعركة من الجو في غضون أيام قليلة، من دون الاضطرار إلى تحريك القوات البرية. وتبيّن أن هؤلاء القادة راهنوا على خطط معدّة مسبقاً، مبنيّة على معلومات استخبارية دقيقة وفق اعتقادهم، افترضوا أن تنفيذها كفيل بتحطيم الجزء الأكبر من البنية العسكرية الهجومية لحزب الله في الساعات الأولى من المعركة، وبالتالي لن يقتضي الأمر سوى أيام إضافية بعدها للإجهاز على ما يبقى من قدرات

الحزب.

الإشارات التي ترجّح هذا المنحى من المقاربة عديدة، ليس أظهرها إقرار قادة إسرائيل أنفسهم، سياسيين وعسكريين، بأنهم لم يعوا أن ما يخوضونه في ساحة القتال هو حرب فعلية حتى الأيام الأخيرة منها (بيريتس في اليوم الـ25 للعدوان: «الآن لم يعد الأمر عملية عسكرية، إنها حرب»).

ويمكن أن نضيف مثلاً أن عدة الحرب المتعلقة بتجهيز الجيش والجبهة الداخلية والخطط العلمياتية وبنك الأهداف المرتبط بها لم تكن مُعدّة. فالجيش كان عرضة في السنوات، بل وحتى الأشهر، السابقة على العدوان، لإجراءات لا تفترض أن فتح الجبهة اللبنانية يتطلب إعداداً بحجم الإعداد لحرب من النوع التقليدي. من هذه الإجراءات مثلاً، اقتطاع في الموازنات، تقليص عديد القوات البرية النظامية، تفكيك بعض القيادات والوحدات، إهمال منظومة الاحتياط تدريباً وتجهيزاً، خفض حادّ في عدد المناورات اللوائية والفرقية، وعدم تحديث مخازن الطوارئ. أما الجبهة الداخلية فملاجئها، مثلاً، كانت في أسوأ وضع نتيجة إهمالها لسنوات، فيما الخطط العملياتية وبنوك الأهداف عموماً، مثلما سيتبين لاحقاً، لم تكن تكفي لأكثر من أيام معدودة من بدء الحرب، لتتحول إدارتها بعدها إلى سلسلة مضطربة من الخطوات والقرارات الارتجالية التي أخذت طابع القفز في الهواء من دون رؤية الأرض.

إلا أن عدم جهوزية المنظومات الأهلية والحكومية والعسكرية لحرب، لا يعني أن قرار الرد على عملية الأسر كان ارتجالياً ووليد لحظته. بل يعني أن إسرائيل لم تكن تستشرف حرباً، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، وراء هذا التصعيد، اعتقاداً منها أن المقاومة لن تكون، بعد تعرضها للضربة الجوية الأولى التي يفترض أن تكون قاصمة، قادرة على رد هجومي مؤذ، وستكون في وضع المنازعة إلى حين إعلان استسلامها.

الخلاصة أن حصيلة المؤشرات قبل العدوان تفيد بوجود توجه حاسم لدى قيادة العدو العسكرية والسياسية بعدم إمرار عملية حزب الله المرتقبة من دون ردّ، برغم، كما يظهر، أن طبيعة هذا الرد ارتكزت على فكرة الهجوم الصاعق مع الرهان على أن تكون مفاعيله مصيرية بالنسبة للمقاومة، من دون رسم سيناريوهات استكمالية تفترض فشل هذا الرهان.

المرحلة الأولى: 12/19 تموز ـــــ نشوة النصر:

على الخلفية المذكورة تلقّت قيادة العدو نبأ عملية الأسر. التداعي الماراتوني إلى دراسة الرد، داخل القيادتين العسكرية والسياسية وبينهما، في الثاني عشر من تموز، إنما كان لبحث حجمه ونوعه لا أصله.

وفي سياق هذا البحث، ألقت الخسائر البشرية التي أسفرت عنها العملية (أسيران وثمانية جنود قتلى ودبابة ميركافا تحولت إلى أشلاء) بظلها الثقيل على أجواء النقاشات. كذلك أسهم في الشحن السلبي لهذه الأجواء حصول العملية بعد نحو عشرين يوماً من عملية الأسر التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في «كيريم شالوم»، الأمر الذي مثّل تحدياً فعلياً لجدية الردع الإسرائيلي وأثار علامات استفهام كبيرة حول فاعليته في نظر الأعداء. هذان العاملان أنتجا جنوحاً متشدداً طبع الذهنية العامة في المداولات، التي ترواحت خيارات الرد التي أثيرت فيها بين ثلاث خطط:

أ ‌ـــــ «مياه الأعالي»: اجتياح برّي واسع للبنان هدفه معالجة جذرية لـ«مشكلة» المقاومة.

ب‌ ـــــ «الوزن النوعي»: استهداف حزب الله مباشرة وتدمير ذراعه الصاروخية المتوسطة والبعيدة المدى. وبحسب التقديرات الاستخبارية فإن هذه الخطة تنطوي على منسوب مرتفع من الخسائر البشرية المدنية المفترضة في لبنان (نحو 300) بزعم وجود المنظومة الصاروخية في مناطق مأهولة، وبالتالي كان التقدير أنها ستستدعي رداً من الحزب يطال حيفا.

جـ ‌ـــــ خطة، لم يذكر اسمها، تقتضي استهداف بنى تحتية مدنية، منها الجسور على وجه الخصوص، وإغلاق أحد مدرجات المطار وكذلك قصف منطقة قريبة من قصر بعبدا. الهدف من هذه الخطة كان إيصال رسالة إلى الشارع والسلطة اللبنانيين تُحمّلهم مسؤولية عملية حزب الله، من دون المخاطرة بالتصعيد معه، بحسب تقدير الجيش الإسرائيلي.

مع استبعاد الخطة الأولى لأنها تعني حرباً لم تكن واردة في حسابات اللحظة، وبرغم توصية بعض ضباط الجيش بالثالثة لأنها محدودة العواقب، بحسب تقديره، تحمّس كل من رئيس الأركان، دان حالوتس، ووزير الدفاع، عامير بيريتس، للثانية ومارسا دوراً ترويجياً لها تقاطع مع المزاج الساخن للقيادة السياسية في مقاربة الموضوع.

وهكذا صدر القرار السياسي بالعملية بالإجماع، ولم تشهد مداولات الجلسة الحكومية الأولى (ليل 12/ 13 تموز)، ولا جلسة السباعية الوزارية لاحقاً التي فُوضت إليها إدارة الحرب، سوى تساؤلات لم تبلغ حد الاعتراض من جانب شمعون بيريز وتسيبي ليفني على المرحلة التي تلي رد حزب الله على الهجوم الإسرائيلي وعلى الوقت المحدد للعملية فلم يلقيا جواباً. الأجواء التي سادت الاجتماعين، بحسب الإفادات الإسرائيلية، ولّدت الانطباع لدى المشاركين بأن الأمر يتعلق بعملية جوية صاعقة تمتد ما بين 72 إلى 96 ساعة. أما أهداف هذه العملية، التي سميت «الجزاء المناسب» ثم تحولت إلى «تغيير الاتجاه»، فتم تحديدها في أمر عمليات الجيش الرقم واحد (تغيير الاتجاه 1)، الذي صدر في الثالث عشر من تموز، وبالتالي: ترميم الردع، تدفيع حزب الله الثمن، إيجاد ظرف سياسي داخلي ودولي يمهّد لتطبيق 1559 ولاستعادة الجنديين الأسيرين، تقليص تهديد الحزب للجبهة الداخلية الإسرائيلية، إبعاد حزب الله عن مواقع الحافة الأمامية، الامتناع عن الدخول في حرب برية واسعة (مياه الأعالي)، وأيضاً تجنّب حصول تدهور إقليمي من خلال إبقاء سوريا خارج إطار الحرب.

إلى الممنوعين الأخيرين («مياه الأعالي» وسوريا) أضاف الأميركيون، من خلال الاتصال الذي أجراه أولمرت برايس، مساء 12 تموز، وخلال وقت مستقطع من جلسة الحكومة، ممنوعاً ثالثاً هو التعرض لحكومة السنيورة ومتعلقاتها.

في هذه المرحلة من الحرب، وكذلك في معظم مفاصل المراحل التالية، بدا واضحاً الجنوح الصقوري لكلٍّ من أولمرت وبيريتس، ومن ورائهما حالوتس، وحماستهم الزائدة لخوض الحرب ابتداءً، ولتوسيعها ورفع سقف أهدافها لاحقاً. في تفسير ذلك، لا يمكن القفز فوق الدافع الشخصي لكل منهم. فالحرب بالنسبة لأولمرت وبيريتس مثّلت مناسبة لتفريغ «عقدة النقص الأمنية» التي وصمت سجلهما الشخصي في موقعيهما رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع، وبالتالي مثّلت فرصة ذهبية لتعويم نفسيهما شعبياً وسياسياً، بطلي حرب وقائدين يضاهيان بقية القادة الإسرائيليين من أصحاب التاريخ العسكري والأمني. ويمكن القول، على سبيل المفارقة، إن ما أسهم في تزخيم هذا الجنوح ليس فقط انعدام الخبرة في استخدام القوة العسكرية، بل أيضاً انعدام الخبرة في إدراك حدود هذه القوة. أما بالنسبة لحالوتس، فقد رأى في الحرب فرصة العمر لإثبات نظرية الحسم الجوي التي كان من أشد المنظّرين لها، لا إسرائيليا فحسب، بل على مستوى الكليات العسكرية في العالم. اندفاع الثلاثة إلى «استغلال» فرصة التصعيد قادهم إلى تجاهل توصية رؤساء الأجهزة الاستخبارية (أمان، شاباك، موساد) إلى التريث قليلاً والاستعداد جيداً قبل دخول المواجهة.

السمة البارزة لهذه المرحلة كانت شعور القادة الإسرائيليين عموماً بنشوة النصر وبالقدرة على تحقيق أهداف أبعد من التي تصوروها عند قرارهم بالهجوم. على سبيل المثال، أفادت تقارير إعلامية إسرائيلية، بأن حالوتس اتصل في اليوم الثاني للحرب بأولمرت قائلاً له «لقد انتصرنا» وإن ما بقي فلول سيُقضى عليها بسهولة. من هذه النقطة، بدأ مسار التدحرج الذي خرج لاحقاً عن سيطرة القيادة الإسرائيلية وأفقدها زمام المبادرة. يمكن رصد مجموعة عوامل أسهمت في تولد هذا الزهو المُسكر عند الإسرائيلي:

أولاً: الإنجازات الميدانية المقدرة. فقد اعتقد قادة العسكر أنهم تمكنوا في هجوم الليلة الأولى ـــــ خطة «الوزن النوعي» ـــــ من القضاء على نحو 70 إلى 80% من المنظومة الصاروخية المتوسطة والبعيدة المدى لدى المقاومة. وقد أطلق على هذه الليلة في أدبيات العدوان الإسرائيلية «ليلة الفجر» نسبةً إلى صواريخ «فجر 3» و«فجر 5» التي تألفت منها هذه الترسانة، وفق المصادر الإسرائيلية. في مقابل ذلك، الردود الأولية المحدودة للمقاومة، الناتجة في الحقيقة من محاذرتها التصعيد في البداية، ودخولها وضعية استيعاب الصدمة تمهيداً لخوض مواجهة مطولة، دفعت الإسرائيلي إلى الاعتقاد أنها (المقاومة) في «وضع حرج»، وأغواه ذلك بفكرة استكمال الإجهاز عليها عسكرياً. نعم، يمكن أن نضيف أن قصف حيفا (8 قتلى) واستهداف البارجة (أربعة قتلى) وقاعدة ميرون (قتيلان) في هذه الفترة أنتجا مفعولاً تحفيزياً ثأرياً لدى العدو عزز، بدوره، النزعة نحو التصعيد.

ثانياً: الموقفان الدولي (بيان قمة الثمانية الكبار بروسيا في 16 تموز) والعربي (تصريح المصدر السعودي الرفيع عن «المغامرة» في 14 تموز) اللذان يمكن القول إنهما تجاوزا حد توفير الغطاء للعدوان إلى مباركته والتعويل على نتائجه لصوغ معادلات سياسية جديدة على مستوى المنطقة. يمكن القول، دون خوف الوقوع في المبالغة، إن هذه النقطة مثّلت ذروة التقاطع الذي لم يكن قد تكشف بعد بين البعد «الردّي» للعدوان (استعادة الردع وتدفيع الثمن) والبعد الوظيفي الاستراتيجي.

ثالثاً: الوضع الداخلي الإسرائيلي الذي تبدى في إجماع سياسي مطبق على دعم العدوان، وكذلك في تأييد شعبي جارف عبّر عن نفسه بنسبة 78% في الاستطلاعات.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن قادة العدو قدموا العدوان بأوجه مختلفة أمام كل واحدة من الجبهات الثلاث أعلاه. فقبالة حزب الله (وبقية الأعداء المحتملين والفعليين) قُدم العدوان على أنه رد عسكري لتدفيع الثمن وتعزيز الردع، وقبالة الرأي العام الدولي قُدم على أنه دفاع عن النفس وجزء لا يتجزأ من الحرب على الإرهاب، وأمام الداخل الإسرائيلي قُدم على أنه حرب «اللاخيار» التي فُرض على إسرائيل خوضها لحماية وجودها.

في سكرة النشوة، بدأ الانزياح التوسعي في حدود العدوان، اقترن به انزياح نحو الأعلى في سقف الأهداف المتوقعة والمطلوبة. في جلسة السباعية في 14 تموز طُرح وأُقر قصف المربع الأمني في الضاحية، وفي جلسة 16 تموز طُرح وأُقر دخول القوات البرية لتطهير الحافة الأمامية على الحدود من نقاط المقاومة. وفي اليوم نفسه بعث أولمرت رسالة إلى بوش يطلب فيها غطاءً سياسياً لمدة ستة أسابيع «لتهشيم حزب الله»، فأجابه الأخير أن بإمكانه أن يأخذ ستة أشهر لو تطلب الأمر ذلك. في 17 تموز ألقى أولمرت خطاب «سننتصر» أمام الكنيست، معلناً أن أهداف الحرب هي نزع سلاح حزب الله واستعادة الجنديين المخطوفين. برغم أن ذلك لم يُقر أو يتحدد في أي محفل.

في جلسة السباعية في 19 تموز، شدد أولمرت أمام العسكر على أن الوقت مفتوح أمامهم لتنفيــــــــذ المهمـــــــة، مشيـــــــراً إلــــــى أن الضغط الدولي هو باتجاه تصفية الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، لا وقف العملية. بيريتس، في الجلسة نفسها، تحدث عن ضرورة تصفية كل الهرميات التنظيمية التابعة لحزب الله وخلق وضع جديد في لبنان. الحكومة طلبت من الجيش في هذه الجلسة العمل على وقف الكاتيوشا على العمق الإسرائيلي. الوحيدة التي كانت تغرد خارج السرب كانت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني التي طالبت ببدء تثمير العملية العسكرية سياسياً وعدم الاستغراق فيها طلباً للحسم الميداني.

أما في هيئة الأركان فكان الجو العام مشبعاً بالرضا عن تطور الأحداث: في 15 تموز رأى حالوتس أن مرحلة القضاء على الكاتيوشا بدأت بعدما تم القضاء على الصواريخ الاستراتيجية، وفي 16 أثيرت فكرة الهجوم على بنت جبيل، وفي 18 تمّ تبنّي نظرية العمليات البرية المحدودة التي ستكون العلامة الفارقة للمرحلة الثانية.

جندي إسرائيلي في بيت ياحون<br>خلال الانسحاب بعد نهاية<br>حرب تموز (أرشيف - وائل اللادقي)
جندي إسرائيلي في بيت ياحون
خلال الانسحاب بعد نهاية
حرب تموز (أرشيف - وائل اللادقي)


والدا أحد الجنود الإسرائيليين الثمانية الذين قتلوا<br>في 12 تموز يحيون ذكرى نجلهما (أرشيف - أف ب)
والدا أحد الجنود الإسرائيليين الثمانية الذين قتلوا
في 12 تموز يحيون ذكرى نجلهما (أرشيف - أف ب)


دان حالوتس
دان حالوتس


تعليقات: