قضاء تحت الطلب
قطعت سوريا أمس شك فريق الرئيس سعد الحريري بيقين مذكّرات توقيف غيابية لم تستثنِ أحداً في قريطم سوى آل الحريري أنفسهم. فدمشق أعلنت أنها لن تهادن من حاربها طوال سنوات خمس، ولا يزال رافضاً دفع الكفّارة السياسية، ومصرّاً على رمي كرة النار في وجه أقرب حلفائها ليها
... وصار كل فريق رئيس الحكومة الأمني والقضائي والإعلامي مطلوباً للعدالة السورية. فبعد أكثر من عام على بدء الملاحقة القضائية التي باشرها اللواء جميل السيد ضد شهود الزور و«كل من يظهره التحقيق شريكاً لهم ومحرضاً»، أصدر القضاء السوري مذكرات توقيف بحق سياسيين وقضاة وأمنيين وإعلاميين لبنانيين وسوريين. ورغم أن شظايا المذكرات وصلت إلى برلين، حيث ديتليف ميليس ومساعده غيرهارد ليمان، وإلى الكويت حيث رئيس تحرير صحيفة السياسة الكويتية، أحمد الجار الله، فإنّ الواضح أن الهدف الأول، إن لم يكن الوحيد، لسهام هذه المذكرات ليس سوى ساكن السرايا في وسط بيروت، رئيس الحكومة سعد الحريري.
ورغم أن اللواء جميل السيد يصرّ على وضع المذكرات في إطارها القانوني، فإنّ بَين المتردّدين الدائمين إلى دمشق من يؤكّد أن هذه الخطوة تعني، إضافةً إلى بعدها القانوني، أن المطلوب من سعد الحريري السير في ملفات شهود الزور والتحقيق المسيّس والمحكمة الدولية إلى النهاية، «وهذه المذكرات لم تصدر إلا بعدما لمست دمشق عدم التزام مَن تعهّد أمامها بتعهداته». وتضيف المصادر ذاتها إن «العلاقة بين لبنان وسوريا عادت لتنتظم بالشكل المطلوب، إلا أن القضاء اللبناني تلكّأ عن متابعة ملف شهود الزور». ويرفض المطّلعون على أجواء القيادة السورية النظر إلى مذكرات التوقيف كإعلان بوجود توجّه جاد لدى القيادة السورية لمحاسبة مرحلة السنوات الخمس الماضية، مع ما يقتضيه هذا التوجه من محاسبة لرجال الدولة التي قامت على أنقاض الانسحاب السوري من لبنان. «لكن ما ينبغي منعه هو تكرار تجربة الاتهام المسيّس. فأشرف ريفي ووسام الحسن وغيرهما يعلنون أنهم، منذ عام 2006، كانوا يعلمون بأن حزب الله قتل رفيق الحريري. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة: إذا كانوا كذلك، فلماذا استمروا في اتهام سوريا؟ ألا يعني ذلك أننا يجب ألا نثق بهم لا في الاتهام الأول ولا في الاتهام الثاني؟».
وماذا عن السعودية؟ هل الخطوة منسّقة مع قيادتها؟ تجيب المصادر ذاتها إن العلاقة بين البلدين «قائمة وجيّدة جداً على صعيد العلاقة بين جلالة الملك والرئيس بشار الأسد. لكن اللبنانيين المقربين من المملكة لم ينفذوا ما تعهدوا به. وعدم التزامهم يؤدي إلى إخراج الملف اللبناني من على رأس أولويات العلاقة بين دمشق والرياض». وفي رأي المصادر ذاتها، فإن إصدار المذكرات لا يحتاج إلى أي تشاور مع القيادة السعودية، فـ«الفرصة التي طُلِبَت وأخِذَت منذ 30 تموز 2010 (تاريخ القمّة الثلاثيّة في بعبدا) لم تؤدِّ إلى أي نتيجة إيجابية حتى اليوم».
في المقابل، بدا بعض المقربين من رئيس الحكومة كمن ضُرِب على رأسه، فيما جهد البعض الآخر لإخفاء صدمته مما جرى. فطوال الأشهر التي تلت الزيارة الأولى للرئيس سعد الحريري إلى دمشق، كان جزء كبير من فريق عمله يراهن على العلاقة المستجدة «بين قصر الشعب وبيت الوسط لحماية مسيرة دولة الرئيس وإبعاد أذى حلفاء سوريا عنه». أما البعض الآخر، فأوغل في التفاؤل إلى حد اقتناعه بأن سوريا ابتعدت عن إيران لتقترب يوماً بعد آخر من التضحية برأس حليفها حزب الله كرمى لعيون الملك السعودي والشيخ سعد ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. وعندما كانوا يسمعون خلاف ذلك، كانوا يردّونه إلى «المتضررين من العلاقة الناجحة بين الرئيس السوري ورئيس الحكومة اللبنانية». استمروا على هذا المنوال إلى أن صرّح السفير السوري في بيروت علي عبد الكريم علي قبل أسبوعين، قائلاً إن ما أدلى به الرئيس الحريري لصحيفة «الشرق الأوسط» بحاجة إلى خطوات عملية لاستكماله. لكن رهان المقربين من الحريري على خطب ودّ الشام استمر حتى بعد ظهر أمس، فتغيرت لهجتهم.
أحد هؤلاء (ممّن شملتهم مذكرات التوقيف)، يرى أن الخطوة السوريّة «تظهر أن القيادة في دمشق لا تزال تقرأ في كتاب مضى عليه الزمن، يعود إلى ما قبل الانسحاب السوري من لبنان». وفي رأيه، فإن «صدقيّة القضاء السوري معروفة عالمياً، وبالتالي، ثمة من يريد توجيه رسالة مفادها أنه لا يريد علاقة من النوع الذي نطرحه عليه. نحن طرحنا علاقة ندّية، لكن ثمة من يريد التعامل بمنطق الأسياد والعبيد، وهذا ما لا نرضى به. وهذه الخطوة تتجاهل أن الطرف السوري هو من يحتاج إلى التعاون مع الحريري لإنهاء حالة العداء التي بُنيت خلال السنوات الخمس الماضية مع شريحة كبيرة من اللبنانيين، وليس الحريري من يحتاج إلى هذا التعاون». أما النتيجة العملية للمذكرات، فلا يرى المصدر فيها سوى قرار «بمنع أشرف ريفي ووسام الحسن من دخول دمشق. وبالأصل، هما لم يذهبا عن طيب خاطر، بل تطلّب الأمر منهما جهداً لتخطّي الحاجز النفسي». أما تحويل المذكرات إلى الأنتربول، «فلن يأتي بأي نتيجة» بحسب المصدر، الذي يضيف إن منظمة الشرطة العالمية «لن تقبل مذكرات لتوقيف أركان الدولة اللبنانية». ورغم ذلك، فإن المقرب من رئيس الحكومة لا يرى أن مذكرات التوقيف ستؤدي إلى قطيعة بين القيادة السورية ورئيس الحكومة اللبنانية. «فمنذ تحريك الملف، كنا نتوقع أن يصل إلى هذه النتيجة، من دون أن يوقف ذلك تقدم العلاقة وقيام دولة الرئيس بغير زيارة شخصية ورسمية إلى دمشق. وكل ما يُقال له اليوم هو أنهم لا يريدون لوسام الحسن أن يؤدّي دوراً إيجابياً في تقريب العلاقة بين الطرفين أو في بعض الملفات الأمنية».
وفي السياق ذاته، يرى أحد المقربين من الحريري (غير مشمول بمذكرات التوقيف) أن الخطوة السورية أتت خارج السياق لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهي خارج كل الحسابات. والمفاجأة، بحسب المصدر، أنهم هجموا على الرئيس الحريري عندما أطلق موقفه في جريدة «الشرق الأوسط». وعشية طرح ملف شهود الزور في مجلس الوزراء، صدرت مذكرات التوقيف في دمشق، حتى بدا الأمر كأنّ ثمّة من لا يريد لملف شهود الزور أن يصل إلى خواتيمه، بل يُراد استخدامه كقميص عثمان».
بدوره، وضع مقرب ثالث من رئيس الحكومة المذكرات السورية في إطار «استكمال الحصار على السعودية التي تحاول عرقلة الاتفاق الأميركي ـــــ الإيراني ـــــ السوري في العراق». وبرأي المصدر ذاته، فإن «السعودية محاصرة من اليمن والبحرين والكويت والعراق، وأتت مذكرات التوقيف في محاولة لإضافة لبنان إلى هذه الساحات».
وفي مقابل الكلام السياسي، يحرص اللواء جميل السيد، الذي أعلن مكتبه الإعلامي خبر صدور مذكرات التوقيف، على حصر الخطوة السورية في المجال القانوني. المدير العام السابق للأمن العام يُذكّر سائليه بأنه حذّر رئيس الحكومة يوم 12 أيلول الماضي من خطوة مماثلة إذا لم يبادر إلى التسريع في فتح ملف شهود الزور. وقبل ذلك، بدأت الدعوى أمام القضاء السوري قبل نحو عام. وأرسل قاضي التحقيق الأول في دمشق التبليغات أربع مرات، إما مباشرةً أو عبر الطرق الدبلوماسية. وكان آخر هذه التبليغات مذكرتان وصلتا إلى دائرة قاضي التحقيق الأول في بيروت، الرئيس غسان عويدات، وفقاً لما تنص عليه الاتفاقية المعمول بها بين البلدين. وبعد استفسار وكيل السيد لدى عويدات، قال له الأخير إنه لن ينفذ التبليغات، ولن يردّ المذكرة إلى نظيره السوري. أمام هذا الواقع، يضيف السيد، بعثنا بمذكرة إلى القاضي السوري يوم 21 أيلول 2010، طلبنا فيها منع هسام هسام من الإدلاء بتصريحات صحافية حرصاً على سرية التحقيق. كذكك طلبنا منه السير في إجراءات الدعوى غيابياً، وفقاً للقوانين المتّبعة في سوريا، علماً بأن هذه الطريقة متّبعة في لبنان وفرنسا على سبيل المثال. إذ إن القاضي، عندما يشعر بأن ثمة من يستهتر بالمحكمة عبر التهرب من تبلغ أوراق الدعوة، يسير بالدعوى غيابياً». وأكد السيد أن المذكرات أرسلت إلى المفرزة الجنائية في دمشق لتعميمها على المفارز الحدودية والأنتربول. وفي رأي مصدر قانوني متابع للقضية، فإن منظمة الشرطة العالمية ملزمة.
مقرّبون من الحريري: ثمّة من يريد التعامل بمنطق الأسياد والعبيد
السيّد: المذكّرات صدرت بعد 4 تبليغات استهتر بها القضاء اللبناني
بتعميم هذه المذكرات على كل الدول الأعضاء، ليبقى على عاتق هذه الدول تنفيذ المذكرات وتسليم المطلوبين إلى سوريا أو عدمه.
يُذكر أن المطلوبين بمذكرات التوقيف السورية هم: النائب السابق للرئيس السوري عبد الحليم خدام، الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية الألماني ديتليف ميليس ومساعده غيرهارد ليمان، النائب مروان حمادة، الوزيران السابقان حسن عكيف السبع وشارل رزق، النائب السابق الياس عطا الله، المدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا، المحقق العدلي الأخير في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري (مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية) القاضي صقر صقر، القاضي إلياس عيد (المحقق العدلي الثاني في اغتيال الحريري)، المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، رئيس فرع المعلومات العقيد وسام الحسن، الرئيس السابق لفرع المعلومات العقيد سمير شحادة، رئيس غرفة العمليات في قوى الأمن الداخلي العقيد حسام التنوخي، الضابط في فرع المعلومات الرائد خالد حمود، العميد المتقاعد محمد فرشوخ (المساعد الثاني الأسبق لمدير استخبارات الجيش اللبناني منتصف التسعينيات)، السفير السابق جوني عبده، مساعد الرئيس الراحل رفيق الحريري عدنان البابا، المستشار الإعلامي للرئيس سعد الحريري هاني حمود، مدير قناة أخبار المستقبل نديم الملا، والصحافيون: فارس خشان، عمر حرقوص، عبد السلام موسى، أيمن شروف، حسن صبرا، حميد الغريافي، أحمد الجار الله ونهاد الغادري، والمشتبه في أنهم شهود زور: أحمد مرعي، إبراهيم جرجورة، أكرم شكيب مراد، زهير محمد الصديق وعبد الباسط بني عودة.
أما «الشاهد» هسام هسام، فقد أعادت مصادر معنيّة بالملف عدم توقيفه لأنه قد مثل أمام قاضي التحقيق الأول في دمشق أكثر من مرة، وأخلي سبيله بسند إقامة بانتظار مثول الآخرين، تمهيداً لاتخاذ القرار المناسب بحقه، علماً بأنه عملياً في عهدة السلطات السورية، وبالتالي، بالإمكان استدعاؤه فور السير في الدعوى.
صقر يستنفر الدولة في مواجهة المذكرات
وصف النائب عقاب صقر صدور مذكرات التوقيف السورية بحق «مسؤولين سياسيّين وقضائيّين وأمنيّين وإعلاميّين لبنانيين» بـ«الخطوة المؤسفة الصادمة للعلاقات المؤسساتيّة والسياسيّة المتواصلة والمستمرة بين رئيس الحكومة سعد الحريري والقيادة السورية على طريق بناء الثقة الكاملة بين البلدين». وبحسب مقربين من رئيس الحكومة، فإن صقر تشاور مع الرئيس سعد الحريري قبل إصدار البيان، الذي دعا فيه «رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بوصفه المؤتمن على الدستور والحريات، (إلى) أن يضع يده على هذه القضية، وأن يكون لمجلس الوزراء ودولة الرئيس سعد الحريري موقف حازم وحاسم حيال هذا الموضوع». ودعا صقر الرئيس نبيه بري إلى عقد جلسة لمجلس النواب أو إنشاء لجنة برلمانية للتعامل مع مذكرة توقيف صادرة بحق نائب لبناني يحظى بتأييد الشعب اللبناني والحصانة البرلمانية». كذلك رأى «ضرورة أن يتحرك مجلس القضاء الأعلى اللبناني قانونياً، باعتبار أن هناك قضاة وجّهت إليهم مذكرات توقيف في سابقة غير معهودة من الجانب السوري»، متمنياً أيضاً على وزير الداخلية «أن يتخذ موقفاً مناسباً حيال مذكرات توقيف صادرة بحق ضباط كبار في قوى الأمن الداخلي»، وآملاً من نقابتي الصحافة والمحررين «عقد اجتماع مشترك واتخاذ الخطوات الآيلة إلى حماية الإعلاميين والحريات الإعلامية في لبنان، وكل ذلك بما ينسجم مع القوانين اللبنانية والأنظمة المرعية، ومع كل التقاليد والأعراف لإبعاد كأس التشنج والكيدية في التعاطي مع هذا الملف الحساس والمهم، لكي تبقى كلمة القانون هي العليا».
وفي السياق ذاته، عبّر رئيس حزب الكتائب أمين الجميل عن «الخشية من أن تكون هذه مذكرة توقيف للعلاقات السورية ـــــ اللبنانية أكثر من مذكرة توقيف للبنانيين»، مشيراً إلى أنها «لا تساعد إطلاقاً على تطوير العلاقات اللبنانية ـــــ السورية إيجاباً كما نتمناها».
تعليقات: