الأستاذ زياد عبد الصمد المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية
هي لحظة صعبة أن يقف الإنسان مؤبناً من أحب،
لحظة الفراق تطول دهراً، خاصة إذا كان الغائبُ هو هاني.
عرفته عام 1986 لدى التحاقي بجمعية النجدة الشعبية اللبنانية، لانضم الى فريق عملها. فكان لي شرف إن ابدأ مسيرتي إلى جانب المناضل الخلاق، والمجموعة المتفانية التي عمل معها، في سبيل تطوير مفهوم الخدمة العامة ومبادئ العمل الأهلي بشكل عام.
لم يكن هاني مسؤولا عن جمعية، لا بل كان حاملا هم شعب ووطن. فسعى الى تطوير العمل الاجتماعي والعمل الحقوقي والتنموي بامتياز. لم تقتصر رؤيته على عمل الجمعية الداخلي وتطوير خداماتها كما ونوعا فحسب، لا بل خطط لتوسيع دائرة عملها لتطال رقعة الوطن بتنوعه فادخلها إلى كل المناطق، ودخل معها خارقا الحواجز ومتحديا خطوط التماس المصطنعة التي رسمها ساسة أنانيون لا يرون إلا مصالحهم فوق مصالح الوطن. خلال سنوات محدودة تحولت الجمعية إلى حالة تضم أكثر من 3000 عضوا في 23 فرعا يديرون أكثر من 27 مؤسسة صحية وتربوية ورعائية. هي النجدة التي خطط لها هاني ورفاقه فحولوها الى مؤسسة ديمقراطية تعقد مؤتمرات وطنية وتتداول السلطة وتجدد قياداتها في الفروع وفي المركز. افتتحوا المراكز انطلاقا من بيروت والضاحية الجنوبية والاشرفية الى النبطية والعباسية ومرجعيون والى صوفر وبكفيا والمروج وجبيل وجديتا وبعلبك وحلبا والمينا، واللائحة تطول وتطول.
نظر الى العمل الاهلي أداة لتغيير الواقع الاجتماعي فسار في طريق التنسيق مع سائر الجمعيات الاهلية، حيث حلّ قياديا بارزا في هيئة تنسيق المستوصفات وفي التنسيقات الإنمائية الاجتماعية والتي انبثق عنها لاحقا تجمع الهيئات الأهلية التطوعية في لبنان فكان من بين أبرز مؤسسيه الأوائل عام 1992. وكان من المخططين الذين ساهموا في تحويله إلى احد أكثر المؤسسات تمثيلا، معترف به شعبيا وحكوميا، فاحتل موقعا في المجلس الاقتصادي والاجتماعي تعبيرا عن هذا الواقع.
خطط وساهم في تنظيم المؤتمر الوطني الأول للعمل الأهلي عام 1999 في قصر الانسكو، فكان محطة بارزة من محطات تطوير المجتمع المدني اللبناني في مرحلة إعادة الاعمار وترسيخ السلم الأهلي، وساهم في تطوير فكرة المشاركة لمواجهة التحديات الوطنية تخطيطا وتنفيذا وتقييما.
تخطت رؤيته حدود الوطن، فكان إن حول ورفاقُه علاقات الجمعية الدولية إلى مشروع للتضامن مع الشعب اللبناني وقضاياه المحقة. فتحولت معهم علاقات الجمعية الخارجية وخاصة في اوروبا، من فرنسا، وبلجيكا، واسبانيا، واليونان، وايطاليا، والمانيا والنروج الى حاضنة تساهم في حمل الهم الوطني وتدعم المجتمع المدني بلا حدود. فكانت أول مساهمة ميدانية في تطوير مفهوم "المنح والمساعدات" إلى عامل للتضامن الاجتماعي وبناء الشراكات.
تحدى الواقع العربي فانطلق في رحاب المنطقة ليساهم في تنظيم اول لقاء عربي لمنظمات المجتمع المدني عام 1994، فكانت اللبنة الأولى في تأسيس شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية التي شهدت النور لاول مرة عام 1997، وما زالت مستمرة في وحي من رؤيته السديدة.
حمل هم الشباب اللبناني، فنظم اللقاءات والمنتديات، والمخيمات الشبابية الهادفة. سعى الى تأسيس مدينة شبابية لم يمهله القدر فرصة تحقيقها، فكانت يده أسرع من طموح هاني في الإيفاء بما حلم به للشباب، لتكون ربما المرة الاولى التي لا يتمكن فيها من تنفيذ ما صمم عليه.
من منا لا يذكر هاني الذي واظب على العمل حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وبنفس المستوى من العطاء والتفاني والجدية والالتزام الى حد انه تناسى مرضه لسنوات. فكان لي شرف مواكبته عندما كان يتنقل بين متابعة القضايا اليومية لشؤون المنطقة التي احبها، ساعيا إلى توفير احتياجات أبنائها. فساهم في دعم النوادي والجمعيات المحلية ومراكز التدريب ومعامل تعبئة زيت الزيتون ومراكز الخدمات الاجتماعية الأخرى. ولكني شهدت أيضا كيف أن هذا الاهتمام بالشؤون المحلية لم يثنه عن مواكبة القضايا الوطنية لاسيما الحملات الوطنية من خلال الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي والتحالف اللبناني لمراقبة الانتخابات. بالإضافة إلى متابعة شؤون الشراكة الأوروبية المتوسطية من خلال المنبر المدني الذي أعطاه وقته واهتمامه ليطمأن إلى إن الأمور تسير بالاتجاهات الصحيحة.
أينما حل كان حضوره لافتا، كان قياديا متفانيا لا يأبه بالمواقع ولكن رؤيته الثاقبة وتصميمه الذي لا يلين جعلا المناصب صغيرة إمام طموحه اللا محدود، وحولا اهتمامه نحو القضايا الكبرى، كالتضامن والتغيير الاجتماعيين والعدالة والمساواة والتنمية البشرية.
كبيرا كان، لا يلتفت الى الصغائر، جبارا لا تعيقه الصعاب، كريمَ النفس يهزأ بالمناصب، آمن بمبادئه متجاوزا حرتقات الصغار، صادقا في نواياه وأهدافه لا يحيد أمام سوء نوايا الآخرين، صاحب قرار لا يلين متجاوزا مواقف الانتهازيين.
كان يحسن التعامل مع مختلف الأجيال بأسلوبه الخلاق، فيزيل عقبة فارق السن ويعطي لكل إنسان حقه بتواضع لافت وبقناعة راسخة. يجالس الكبار فيقنعهم، ويحادث الشباب فيشجعهم. هو يخفي خلف قساوته وحدة طروحاته حنانا انسانيا دافئا وذكاء فطريا أكيدا. هو عنيد صلب، ولكنه مرن لا يساوم على المبادئ، مناور ذكي، وفيّ لصداقاته ومتفاني في سبيل معتقده. مناضل لا يعرف الكلل، وقائد يمتاز بتواضع ومواظب لا يعرف الملل.
تنقل في مواقع المسؤولية فكان قائدا اينما حل، تجاهل حسد الحساد وتعالى فوق الحقد والضغينة والبغضاء. قلبه الكبير انقلب على الكراهية، عقله المستنير احتقر الجهالة ونفسه المتسامحة همشت كل الإساءات.
في الذكرى الأربعين لغيابه، نستذكر هاني المناضل، وهاني القائد الميداني ذو النظر الثاقب والإرادة الحديدية والكبير الصامت، الخطيب المتفوه، المتحدث اللبق، والمحاور الذكي. ونستحضر معه المجتمع المدني الذي ساهم في تطوير فكره منذ إن كان في الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية ومن ثم في اتحاد الشباب الديمقراطي مرورا بالنجدة الشعبية اللبنانية والشبكة العربية وانتهاء بمنتدى التنمية اللبناني. ولكن وقبل كل شيء، نستذكر هاني الإنسان الحنون والكريم والصادق والمخلص والمعطاء والمقدام.
هي لحظة للذكرى فلنحولها إلى عهد ووفاء باستكمال المسيرة في سبيل قضية أعطى لها عمره وإمكانياته حتى الرمق الأخير من حياته ولم يبخل بدم ومال من اجلها،
هي وقفة ضمير أمام ضمير حي لا يغيب، هي لحظة تأمل في عقل ثاقب لا يستكين، هي عهد إلى من أحب الوطن فصار اسمه رديفا للمواطنية المخلصة، هي كلمة حق تقال في هاني
زياد عبد الصمد
*المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية
(كلمة ألقيت في الخيام في تأبين هاني عساف)
...
كلمة زياد عبد الصمد في تأبين الراحل هاني عساف في الخيام
كلمة سعيد الضاوي في تأبين الراحل هاني عساف في الخيام
كلمة صباح أبو عباس في تأبين الراحل هاني عساف في الخيام
المزيد من صور حفل تأبين الراحل هاني عساف في الخيام
حفل تأبين هاني عساف
تعليقات: