العائدون من هجرتهم يصدمهم الواقع فيهاجرون ثانية بلا عودة-

اللبنانيون يطلبون الهجرة للعمل... حتى في العراق-

يخبو موضوع الهجرة حينا ويظهر احيانا، اذ يتذكر المسؤولون بين الحين والآخر ان ثمة قضية عالقة منذ عشرات السنين اسمها الهجرة، علما انها حركة مستمرة في ذاتها، بمعزل عن تنبه المسؤولين اليها او اغفالها. الموضوع ليس جديدا. وبعد جيل او اكثر ستثار القضية مجددا كما كانت تثار قبل جيلين او اكثر. واذا كان ثمة جديد يمكن الحديث عنه اليوم فقد يكون تحت عنوان الهجرة في جزئها الثاني، وهي تطال عمليا الاشخاص الذين هاجروا ثم عادوا الى الوطن ليستقروا فيه، ثم ما لبثوا ان اكتشفوا عدم صوابية خيارهم فهاجروا مجدداً.

في كل موسم سياسي، ومع احتدام الازمات المتنوعة، يطل موضوع الهجرة برأسه بوصفه مؤشرا الى تدهور الاوضاع العامة في البلاد. يستخدمه كل طرف سياسي في خطابه ليحمّل الطرف الآخر مسؤولية سلوك الشباب درب الهجرة. وقلما يبدي السياسيون اهتماما في رصد اسباب هذه الظاهرة التي لم تعد في الواقع مجرد ظاهرة، بل اصبحت جزءا من تركيبة المجتمع اللبناني وتكاد تكون احد مكوناته الرئيسية. يتحدثون عن الهجرة. يحذرون من اخطارها. ينعون البلاد التي تخسر طاقاتها الشبابية بسبب تصديرها الى الخارج. ولكن لا احد ممن يعنيهم الامر يحاول ان يجاهر او يقر بالدوافع الفعلية التي ادت الى تجذر الهجرة في عمق النسيج اللبناني.

صحيح ان الاجابة على سؤال "لماذا يهاجر اللبنانيون؟" ليست واحدة، ولكن الاسباب التي حدت باللبنانيين الى الهجرة قبل قرنين لا تختلف في جوهرها كثيرا عن تلك التي تدفعهم اليوم الى الوقوف صفوف طويلة امام ابواب السفارات. انها الرغبة في الحصول على حياة كريمة يتوافر فيها الحد الادنى من مقومات العيش التي يمكن اختصارها بالغذاء والعلم والطبابة وضمان الشيخوخة، وهو ما لم يعد مدرجا في قائمة البديهيات الوطنية، بل يكاد يكون عملة صعبة يرتفع ثمنها عاما بعد عام. واذا كان ثمة تباين في دوافع الهجرة بين اليوم والامس، فهو لا يخرج عن الاطار الاقتصادي. ففي السابق كان اللبنانيون يهاجرون بهدف تحقيق ثروة، في حين باتوا اليوم اكثر قناعة وتواضعا ويكفيهم ان يجدوا بلدا لا ينحتون فيه طوال الليل والنهار كما يفعلون في وطنهم من اجل تأمين مقومات العيش الاساسية من دون ان يفلحوا في ذلك بالضرورة. ولا شك في ان اللبنانيين تأقلموا مع الظروف الصعبة واعتادوا عليها، وخصوصا انهم لم يختبروا ما هو افضل منها، مما يجعلهم في بعض الاحيان غير واعين او متجاهلين عن قصد حجم التدهور الخدماتي والاجتماعي والاقتصادي الذي يحيون في ظله.

ولكن الصورة تختلف عند الذين قرروا العودة الى لبنان بعد غياب طويل عنه، اذ ان صدمتهم على هذا المستوى لا توصف. تقول طبيبة اطفال عاشت في الولايات المتحدة الاميركية اكثر من خمسة عشر عاما انها حين قررت العودة الى لبنان قبل نحو عام، كانت تدرك تماما انها ليست في طريقها الى الجنة، وان نوعية الحياة تختلف بين مكان اقامتها ووطنها. ولكن ما عايشته في لبنان فاق كل توقعاتها وقدرتها على التحمل، ما دفعها الى اتخاذ قرارها بسلوك درب الهجرة مجددا. وتضيف الطبيبة انها كانت تفاجئها في بادئ الامر نظرات الناس اليها حين يعلمون انها تخلت عن الولايات المتحدة الاميركية وعادت لتستقر في بيروت. "كنت اشعر بأنهم يشفقون علي، واحيانا يشكون في قدراتي العقلية، واكتشفت اخيرا انهم كانوا على حق. فهل يعقل ان يترك عاقل الطبابة المجانية وتعليم اولاده المجاني ايضا والتسهيلات الحياتية وضمان الشيخوخة ويعود الى بلد يشعر فيه بأنه مهدد بالموت جوعا في كل لحظة؟" ليس هذا ما يكاد يطيح بعقلها فحسب، بل هناك الذهنية المتحكمة في الطبقة المسؤولة عن ادارة البلاد التي فرضت على المواطنين ان يدفعوا ثمن حقوقهم ، فكل معاملة في الدولة تحتاج الى دفع رشوة من اجل انجازها. هذا ما حصل معها في الميكانيك وفي الضمان الاجتماعي على سبيل المثال حيث كلفها انجاز معاملة بسيطة خمسين الف ليرة اضطرت لدفعها للحصول على توقيع المسؤول. فما كان يحتاج الى بضعة ايام وربما اسابيع لانجازه بسبب الروتين الاداري، او بالاحرى بسبب عدم رغبة المعنيين القيام بواجباتهم من دون مقابل، انتهى ببضع دقائق حين سقط المال في درج المسؤول! والمفارقة ان هذا المنطق فرض نفسه على المواطنين انفسهم الذين يتعاطون مع بعضهم البعض وفق شروطه. فالفساد، في رأيها، لم يعد محصورا بالطبقة الحاكمة، بل انسحب على المواطنين، وهذا يعني ان لا امل في الشفاء من هذا المرض، اذ ليس هناك من يبدي ادنى استعداد لمحاربته. فبدلا من ان يثور المواطنون على هذا الوضع أصبحوا جزءا منه. وتضيف الطبيبة ان شروط بقائها في لبنان باتت شبه مستحيلة، فهي تحتاج الى راتب لا يقل عن سبعة آلاف دولار شهريا لتستأجر مقراً لعيادتها وبيتا لائقا، وتؤمن تعليم اولادها في المدارس الخاصة، وتضمن لهم استشفاء لا يعرض حياتهم للخطر، وتدفع الضرائب المتوجبة عليها التي لا تحصل في مقابلها على اي خدمات، وتدفع ايضا نصيبها في الرشوة لتسهيل انهاء المعاملات الرسمية. وهي تصر على انها لا تبالغ اطلاقا في الرقم. والفواتير التي دفعتها خلال مدة اقامتها في لبنان تؤكد ذلك. وتختم حديثها بالقول ان "الهجرة الثانية أصعب من الهجرة الاولى، لانها تعني ببساطة ان العودة مجددا للاقامة في الوطن باتت امرا شبه مستحيل. فالمؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين".

الهجرة الثانية

ولعله التطور الجديد الذي طرأ على موضوع الهجرة منذ ان وضعت الحرب أوزارها. فكثيرون ممن غادروا لبنان اثناء الحرب الى اصقاع العالم الاربعة قرروا العودة اليه مع دخول البلاد في مرحلة ما بعد الحرب، او بالاحرى السلم المفترض. كانت وعود الربيع كثيرة: استقرار امني وازدهار ونمو وتطور اقتصادي وفرص عمل... صدق البعض هذه الوعود ولبوا نداء العودة. اشتروا بيوتا واسسوا مصالح او افتتحوا اعمالا خاصة ليشاركوا في نهضة البلاد. انتظروا عاما واثنين وثلاثة اعوام. ومنهم من اعطى نفسه فرصة اطول وانتظر عقدا كاملا ليكتشف ان الاموال التي جمعها في غربته الطويلة تبخرت في لبنان، والمشاريع التي خطط لها اياما طويلة تعود عليه بالخسارة. ويروي مهندس مدني كان يقيم في كندا انه عاد الى لبنان مع انتهاء الحرب عام 1990. اشترى بيتا في منطقة المشرف وافتتح مكتبا هندسيا خاصا باعتبار ان البلاد مقبلة على ورشة انماء واعمار كبيرة. باختصار استثمر كل ما جمعه من اموال في الخارج لينتهي به الامر بعد بضعة اعوام موظفا في شركة هندسية. فالبلد، كما يقول، "مكون من مجموعة مافيات. ولكل قطاع مافياه الخاصة التي تسيطر على السوق وتحول دون دخول الافراد اصحاب المشاريع الخاصة اليه". اقفل هذا المهندس مكتبه بعد حين وتحول موظفا في احدى الشركات ومن ثم وجد نفسه يبحث عن عمل في دول الخليج لقاء راتب زهيد. لم يتأخر عندها في حسم قراره. فحزم حقائبه وعاد الى كندا، واسقط نهائيا فكرة العودة الى لبنان، ولا حتى في موسم الصيف للسياحة والاستجمام. لقد قطع كل صلة له بهذا البلد لانه لا يريد ان يخوض اولاده التجربة المريرة التي اشبعته دروسا وعبراً.

وتشكل قصة هذا المهندس نموذجا يختصر عشرات الحالات المشابهة في سائر قطاعات المهن الحرة. ويروي طبيب جلد اقام في فرنسا نحو عشرين عاما انه قرر" في ليلة ما فيها ضو قمر"، كما يقول، العودة الى لبنان، علما انه يحمل الجنسية الفرنسية، ولأنه لم يكن يرغب في ان ينهي حياته في الغربة. فتح عيادة في زحلة واخرى في بيروت، ظنا منه ان كل ما يحتاج اليه الطبيب في لبنان هو عيادة وكفاية علمية وضمير مهني. وسرعان ما اكتشف ان هذه العملة منتهية الصلاحية، وعليه ان يكون متفوقا في العلاقات العامة وماهرا في عقد الصفقات مع مراكز التجميل وشركات الادوية على حساب المريض. وكما جاء الى لبنان، "غادره في ليلة ما فيها ضو قمر"!

صديقه جرّاح اصر على البقاء في لبنان، علما انه يحمل ايضا جواز سفر اجنبيا، وقرر التأقلم قدر المستطاع مع ظروف البلاد الغريبة العجيبة، فانتهى به الامر حيث يجري عمليات جراحية باسماء اطباء آخرين. هو يعمل وهم يكسبون الشهرة والمال. رفض في بادئ الامر وعاند فوجد نفسه مهددا بالبطالة بعدما حاصره زملاؤه في المهنة ومنعوا المستشفيات في المنطقة التي يقيم فيها من ان توقع معه عقد عمل، فخضع اخيرا لرغبتهم ولا يزال يراهن على ان الامور ستتغير يوما ما (؟)!

اطلب العمل ولو في العراق

يحاول السياسيون اليوم ان يحصروا اسباب الهجرة بعدم الاستقرار السياسي في البلاد، لان ذلك يتيح لهم امكان التنصل من المسؤوليات المترتبة عليهم. فالتأزم السياسي في المنطق اللبناني هو دائما من فعل طرف خارجي، او في احسن الاحوال ناتج عن سوء تصرف طرف داخلي وليس كل الاطراف، مما يوسع هامش اتهام "الآخر" والتبرؤ الكامل من مسؤولية التسبب في الازمة والبحث عن حل جدي. وبما ان المنطق يقول انه لا بد للمسؤول او المتسبب بحدوث ازمة من ان يجد الحل لها، فإن لا احد يبدي اي استعداد للاعتراف بمسؤوليته، مما يدفع بالازمة نحو مزيد من التفاقم الذي ينعكس تصاعدا في ارقام المهاجرين، علما ان الاحصاءات لا تشمل الراغبين في الهجرة والطامحين اليها الذين يشكلون عمليا السواد الاعظم من اللبنانيين. لا شك في ان التأزم السياسي الذي تعيشه البلاد منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عزّز الرغبة في الهجرة عند فئة كبيرة من اللبنانيين من دون ان يشكل سببا كافيا لدفعهم الى حزم الحقائب. فالقرار يحتاج دائما الى سبب مباشر يهدد وجودهم. ولعل احد ابرز هذه الاسباب التي يعاني منها اللبنانيون حاليا هي اقتصادية في الدرجة الاولى، علما ان المواطنين لم يكونوا يعيشون في نعيم اقتصادي انقلب فجأة الى جحيم اضطرهم الى لعب ورقة الهجرة مجددا، ولكنهم اكتشفوا متأخرين ان رهانهم على تحسن الاوضاع الاقتصادية كان مجرد وهم، وان اي ازمة مهما بدت بسيطة او عابرة، محلية او خارجية، تترك بصمات دامغة على اوضاعهم الاقتصادية.

يستعد شاب في عقده الثالث للذهاب الى العراق ليعمل مترجما مع الصحافيين الاجانب لقاء الف دولار في اليوم الواحد، اي ما يعادل راتبه في شهرين. يهزأ هذا الشاب حين يسمع التحليل الذي يربط ما بين الهجرة والوضع السياسي المتأزم، فيقول: "قد يصح هذا الكلام حين يختار عدد من الشباب اللبناني وجهة غير العراق للعمل فيها". ويضيف انه "ذاهب الى هناك من دون ان يضمن العودة سالما بالضرورة ولكن حجم ديونه في لبنان تجاوز العشرة آلاف دولار. وهو رقم لا يعجز عن سداده فحسب، بل مرشح لأن يتضاعف في ظل راتبه المتواضع".

تشكلت الحكومة ام لم تتشكل، أُقرت المحكمة الدولية ام لم تُقر، استأنف الرئيس نبيه بري حواره مع النائب سعد الحريري ام لم يستأنفه، تصالح السيد حسن نصرالله مع النائب وليد جنبلاط ام لم يتصالحا، تعانق النائب ميشال عون مع رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع ام لم يتعانقا... هذه كلها من آخر هموم اللبنانيين، وعدم حصولها لا يعني انهم سيهاجرون اعتراضا على هذا النوع من المسائل الثانوية بالنسبة اليهم. فالمهم امران: الامن والغذاء وما يتفرع عنهما. وكل ما عدا ذلك تفصيل. هذا ما يؤكده خريج جامعي يحمل حاليا صفة عاطل عن العمل، مشيرا الى ان التأزم السياسي ربما يثير فيه القرف ولكن في إمكانه ان يتجاوز هذا الشعور لو كان يملك وظيفة تؤمن له دخلا يعادل كلفة الشهادة التي يحملها. فهو لا يزال حتى الآن مدينا للجامعة بمبلع من المال ما دفع ادارتها الى عدم منحه الشهادة في انتظار سداد الموجبات المالية المستحقة عليه! ويسأل الشاب الذي لا يمانع في الذهاب للعمل في اي بلد في العالم،"بماذا يمكن ان تفيده المصالحة بين ابناء الطبقة السياسية واي ضرر يلحقه به الخصام؟" ويختم حديثه بالقول: "لو كنت املك وظيفة تؤمن لي مقومات الحياة الأساسية، لن افكر لحظة واحدة في الهجرة حتى ولو امضى السياسيون في لبنان ما تبقى من حياتهم في التراشق والتناحر، علما ان المشهد يبدو مسليا احيانا لمن لا شغلة لديه ولا عملة!".

لهذه الاسباب الاقتصادية يهاجر اللبنانيون. وللبيان حرر.

تعليقات: