غرنيكا الخيام- جدارية الوطن المشاغب + VIDEO محترف عن الخيام 2005

الدكتور يوسف غزاوي خلال أحد الأ نشطة الفنية في الخيام
الدكتور يوسف غزاوي خلال أحد الأ نشطة الفنية في الخيام


مساهمة منا في الإضاءة على بعض جوانب تاريخ بلدتنا الخيام، وما تنبض به قلوبنا من محبّة لها ولجمالات أيامها السالفة، أحببنا أن نساهم في هذه الأسطر التي تشكّل جزءاً من كتابنا المنوي طباعته(عندما تسمح لنا ظروفنا بإيجاد ناشر له)، مع الإشارة إلى أنّ نصّ هذا الكتاب قد أقفلنا عليه الباب منذ عامين بعد الانتهاء من تحريره الذي استمرّ سنوات عدّة. هذا الكتاب يخمل عنوان "غرنيكا الخيام- جدارية الوطن المشاغب" (هو سيرة ذاتية). وما ننشره هذنا هو جزء يسير منه مفعم حبّاً بالخيام والوطن والعلم والفن. مع محبّتنا لكلّ من يساهم في الإضاءة على أمور البلدة ومشاكلها وإشكالياتها... علنا نتّعظ...

...

د. يوسف غزاوي

..

النصّ:

لمحة عامة (التسمية):

لا نعرف بالضبط مصدر اسم البلدة. فثمة فرضيات وأقوال كثيرة؛ لقد سمعنا عن خيام عبس وخيام وليد!؟ وهناك مصادر ومراجع كثيرة تحدّثت بمعظمها عن أنّ أصل التسمية يعود إلى مفرد خيمة وخيم. ونحن نعتقد أنّ هذا التفسير, الذي لا نستطيع تأكيده, يعود إلى مرجع واحد؛ فقد ذكر محمد قبيسي في كتابه "جنوب لبنان"(1) أنه "جاء في التوراة أن يعقوب نقل أهله وماشيته إلى شمالي فلسطين وأقام في سهلٍ في الخيام. ويرجّح أن يكون الاسم أطلق على البلدة منذ أن أقام فيها يعقوب في خيام. مساحتها مع المشاع التابع لها 150كلم2. لكن ما نستطيع قوله أنّ الخيام ليست حديثة العهد, بل هي تضرب في التاريخ عميقاً, كانت مسكونة منذ وقت طويل؛ فالشيخ إبراهيم يحيى العاملي يُرجع تاريخها إلى ما يزيد عن الستّة قرون, حسب ما أشارت إليه إحدى مخطوطاته, حين ذكر أحد ساكنيها عام 750 هجريّة (أي النصف الثاني من القرن الرابع عشرالميلادي). أمّا القس حنا حردان خوري(2) فيذكر القرن السادس عشر كبداية للسكن في الخيام. ويذكر الأب بطرس ضو في كتابه "تاريخ الموارنة" أن الخيام مسكونة منذ ما يزيد على ثلاثمئة سنة. ومراجع أخرى ذكرت تاريخاً

1- محمد قبيسي, جنوب لبنان, دليل عام لمدنه وقراه, مؤسّسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر, بيروت 1995, ص 598.

2- حنا حردان خوري, الأخبار الشهيّة عن العيال المرجعيونيّة والتيميّة, بيروت 1956, ص 639

سابقاً لهذا, يدلّ على وجود ساكنين في الخيام قبل ذلك التاريخ, ككتاب السيّد محسن الأمين " خطط جبل عامل " حين يذكر اسم " تقي الدين الخيامي" الذي سكن الخيام منذ ما يزيد على ستّمئة عام. وفي إحدى المخطوطات القديمة التي حققها المحامي سليمان تقي الدين (دار إرشادات 1999) ذكر اسم "كوكب بن الفود" الذي سكن الخيام منذ أكثر من ألف ومئة عام. وفي كتاب "المجهول والمهمل" ليوسف الحوراني انحدر اسم الخيام من كلمة "خيان" الملك الهكسوسي الكبير, ممّا يعني أنّ تاريخ البلدة يعود إلى ثلاثة آلاف عام. ويرى "عبد الأمير علي مهنا" (شؤون جنوبيّة, العدد 13, بيروت 2004) أنّ عمر الخيام يعود إلى اثنتي عشرة ألف سنة, حسب ما جاء في كتاب "الألوهيّة والزراعة" للباحث "جاك كوفان" أثناء تناوله للعصر النيولوتي ما قبل الفخار بحديثه عمّا يُسمّى "نبال الخيام" والـ "الخيامي"....

وفي الخيام آثار تدلّ على عراقتها كالمعالم التاريخيّة والمقامات الدينيّة كمقام "ناصر ابو نُصير" وسط البلدة, وبقايا آثار سكنية ومدافن ومغاور ومكتشفات قديمة في التل القريب من نبع الدردارة والمطلّ عليها, المسمّى بـ "رأس الملوك"...

جاء على موقع الأنترنت wikimapia.org بخصوص تاريخ الخيام وتسميّتها, ومنها أمور أصبحت معروفة لكثرة تداولها بين الأهالي. أورد الموقع ما يلي: "لقد جاء في التوراة أنّ يعقوب نقل ماشيته وأهله إلى شمال فلسطين, وأقام في سهل في خيام, وأجدادنا القدماء كانوا يقولون: إنّ الخياميين الأوائل سكنوا الناحية الشرقية من مرج الخيام فهاجمهم النمل الطيار المعروف بالنمل الفارسيّ وآذاهم فهجروا بيوتهم وأقاموا في المرتفعات الشرقيّة – موقع الخيام الحاليّ- ونصبوا هناك خياماً أقاموا فيها, وعبر الزمن تصدّعت بيوتهم البدائية وخربت, فأصبح ذلك المكان يُعرف منذ ذلك الحين إلى الآن بالخرايب, وعُرف المكان الجديد الذي انتقلوا إليه في المرتفعات باسم الخيام. ومعلوم أنّ موقع الخيام اليوم, والمواقع المجاورة للخرايب على امتداد السهل, كان قديماً مسرحاً لأحداث تاريخيّة وحروباً كثيرة... وتعاقبت عليه شعوب وقبائل وجماعات وجيوش متعدّدة في حقب تاريخية مختلفة, فربما يكون قد خيّم بعضها, أو أكثرها, هناك لسبب من الأسباب فاشتهر المكان باسم الخيام, ثمّ تداوله الناس على مرّ الزمن, فاتخذه الخياميّون الأوائل اسماً لمكان سكناهم. ومن الدلائل على ما نقول, ما ورد في كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لعبد الرحمن اسماعيل المقدسي, المتوفي سنة 665 هجري (1266م) في حديثه عن اجتماع الفرنج مدة مقام السلطان صلاح الدين الأيوبي على مرج عيون لمحاصرة شقيف أرنون.. يقول الكاتب في أكثر من موضع في كتابه... ووصل الخبر إلى المسلمين فأدركوهم, ووقفوا على الشهداء وقبروهم, وجاؤوا إلى أيبك – أحد مماليك السلطان وقواده – فوجدوا فيه الروح, فنقلوه إلى الخيام... وفي مكان آخر يقول: ... رحل السلطان إلى بانياس ومنها إلى مرج عيون فخيّم به... وأمر بتحويل الخيم إلى ظهر الجبل بسبب وخم المرج... ويقول في مكان آخر: عندما نزل السلطان على تلّ القاضي وخيّم على سطح الجبل أخذ يحث جنده على الجهاد وينادي فيهم بالإسلام... فركب الناس وباعوا أنفسهم الجنة... فانحدروا إلى المرج وساروا حتى أشرفوا على الفرنج. وهذا يدلّ على أنّ الموقع الذي اتخذه الخياميون الأوائل اسماً لبلدتهم, كان قديماً مكاناً للتخييم, وهذا ما نودّ الإشارة إليه, والتأكيد عليه".

ويضيف المؤلف: "ونحن لا نعلم بالتحديد نشأة الخيام الأولى كبلدة, ومتى كان تاريخ الإقامة فيها بالضّبط, لكن, من مطالعتنا, نعرف أنّ الخيام كانت مسكونة منذ سنة 1349م. والدليل على ذلك إشارة تلميذ الشهيد الأول المقداد السيوري إلى أنّ تقي الدين الخياميّ ارتدّ عن مذهب الإمامية في زمن الشهيد الأول محمد بن مكي العامليّ. والشهيد الأول متوفي سنة 1384م كما جاء في كتاب خطط جبل عامل في الحديث عن بلدة الخيام.

ونقرأ أيضاً أنّ الخيام كانت مسكونة قبلاً, أي منذ 649 سنة, والدليل على ذلك ما ورد في إحدى مخطوطات العلامة الشيخ ابراهيم يحيى العامليّ....".

الموقع:

تقع الخيام في الجهة الجنوبيّة الشرقيّة من لبنان. تشكل المعقل الأخير لقرى وبلدات الجنوب, حيث يفصل بينها وبين الحدود الفلسطينيّة (جهة الجنوب) الكيلومترات القليلة التي لا تتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة, لذلك ُسمّيت بوّابة جبل عامل. يحدّها من الشمال بلدة إبل السقي وبلدات وقرى قضاء حاصبيا, ومن الغرب سهل الخيام (أو سهل مرجعيون) وبلدة مرجعيون (مركز القضاء) وبلدة القليعة يحاذيها برج الملوك (الخربة سابقاً). أمّا من الشرق, فسهل الوطى ونهر الوزّاني وقرية عرب الوزّاني وقرى وبلدات العرقوب المتواجدة على خاصرة جبل الشيخ (حرمون) ككفرحمام, الماري, الهبّارية, راشيا الفخّار وكفرشوبا وما بينهما مزارع حلتا والمجيديّة. ويحدّها من الأسفل أرض صلبة معطاء وترابٌ زكيّّ, ومن الأعلى سماء تتلوّن بحسب الفصول, تخرقها الطائرات الإسرائيليّة بمحركاتها وأشكالها الكالحة المميتة.

ُتعتبر الخيام أكبر بلدات قضاء مرجعيون, إلا أنّ هذا الشيء لم يشفع لها بأن تتحوّل إلى مركز القضاء الذي استوطن جديدة مرجعيون لأسباب سياسيّة. يتألف هذا القضاء من مجموعة من البلدات والقرى والمزارع نذكر منها:

إبل السقي, برج الملوك ( الخربة ), بلاط , بليدا, بني حيّان, مزرعة البويضة, تولين, جديدة مرجعيون, جرين, حولا, الخلوات, خريبة, دبّين, دوبيه, دير سريان, ديرميماس, رب ثلاثين, زقيّة, سردة, شوني, صوانة, طلّوسة, الطيبة, عدشيت القصير, عديسة, عين عرب, علمان, مزرعة عمرة, قبريخا, قليعة, قنطرة, قصير, كفركلا, مجدل سلم, محيبيب, مركبا, ميس الجبل, الهباريّة, هورة, وزّاني...

عرفت الخيام على مرّ التاريخ أحداثاً ومعارك مختلفة نتيجة موقعها العسكري؛ مدخلها الشمالي يسمّى الجلاحيّة نسبة إلى إحدى المعارك التي حصلت إبان الحرب العالميّة بين الجيوش المتحالفة وحكومة فيشي عام 1941. ويوجد أيضاً في سهلها الغربي ما يسمّى بالخرايب التي يوجد على مقربة منها مشفى عسكري بناه الإنكليز تحت الأرض وهو محصّن بشكل غير اعتياديّ, رُمّم حديثاً لاستقبال الزوار كمعلم سياحي. كذلك بنى الإنكليز مطاراً عسكريّاً ما تزال آثاره بادية للعيّان. أمّا الفرنسيّون فقد بنوا الثكنة العسكريّة في أعلى نقطة من بلدة الخيام التي تحوّلت الى سجن الخيام الشهير. توجد أيضاً على تخوم الخيام تحصينات عسكريّة ودشم و"ركائز" وخنادق ما تزال شاهدة على ذلك التاريخ . وفي مجال آخر, فقد خصّص محمد جابر آل صفا في كتابه "تاريخ جبل عامل" (دار النهار للنشر) صفحات عدّة للحديث عن "حادثة الخيام" المشهورة إبان الاحتلال العثماني لمنطقتنا؛ تلك الحادثة, التي لن ندخل في تفاصيلها, لو لم يتمّ تداركها بالشكل المناسب لكانت أدّت إلى معارك وأحداث طائفيّة لا تبقي ولا تذر في هذا البلد الهشّ, بلد الحروب المتواترة!

تبعد الخيام عن العاصمة بيروت حوالى المئة كلم, على ذمّة عدّاد السياّرة. مدخلها الرئيسي من جهة الشمال ُيمكن الوصول إليه عبر حاصبيا وإبل السقي وعبر جديدة مرجعيون. أمّا المداخل الأخرى فتكون عبر سهلها مروراً بالقليعة من جهة الغرب, وحالياً هناك المدخل الفرعي من جهة الشرق ناحية سهل الوطى عبر الماري وغيرها من القرى.

يمكن الوصول إلى الخيام عبر الطريق الساحلي مروراً ببيروت وصيدا ثمّ طريق النبطية- كفرتبنيت (أو كفررمان- سهل المئذنة- الجرمق)- القليعة (أو جديدة مرجعيون)- الخيام. وبقاعاً عبر شتورا- مفرق المصنع- كفرمشكي- الحاصباني- كوكبا- الخيام. وعبر مدينة صور مروراً بقضاء بنت جبيل- مركبا- العديسة (أو الطيبة- العديسة)- كفركلا- برج الملوك- الخيام.

وهناك طرق أخرى تعرفها جيّداً الطائرات والقذائف الإسرائيليّة..

الخيام مدينة جميلة بشهادة زائرها. ترقدُ على رابية ترتفع عن سطح البحر سبعمئة وخمسين متراً. محاطة بالسهول الخضراء والروابي والأنهر والينابيع. تذكر بعض المصادر أنّ عدد أسرها حوالي 12500 أسرة, وعدد سكانها حوالي أربعين ألف نسمة حالياً (والبعض الآخر يقارب العدد من الستين ألفاً, مقيمين وغير مقيمين). إلا أنّ تعداد سكانها في السبعينيّات, وحسب بعض الاحصاءات غير الرسمية, بلغ ثلاثين ألف نسمة. يربو عدد بيوتها على الأربعة آلاف بيت, وذلك قبل بدء الورشة الأخيرة بعد التحريرالتي طاولت جهاتها الأربع, ممّا يزيد عدد بيوتها على هذا العدد ليصل إلى ما يقارب الأربعة آلاف وخمسمئة بيت أو منزل. في حين أنّ عدد منازلها عام 1932 كان 506 منازل حسب ما ذكرأوسابيوس في كتابه "دليل لبنان" الصادرعام 1955. يوجد فيها حاليا ما يقارب الستّة عشر ألف صوت انتخابيّ. يتوزّع سكانها بين مسلمين شيعة بنسبة كبيرة, ونسبة أقل من المسيحيين من مختلف الطوائف: أرثوذكس, بروتستانت, كاثوليك وموارنة.... يذكر وديع نقولا حنا أنّ عدد سكّان الخيام عام 1927هو 2125 منهم 94 موارنة, 5 سنة, 1736 شيعة, 184 روم, 44 كاثوليك, 61 بروتستانت و9 ملل مختلفة (1) . لكلّ طائفة منها كنيستها الخاصة بها. عرفت تعايشا قلّ نظيره حتى لتحسب أنّ في الخيام طائفة واحدة. طقسها معتدل على امتداد الفصول الأربعة التي تمرّ عليها بجودها وخيرها. فللربيع منها ألوان نسجتها أجنحة الفراشات. وللشتاء مزن وأنهار تولد ينابيع على مدى أشهر السنة تكحّل العين بلؤلؤها وتطرب الأذن بخريرها. وللخريف نكهة خاصة ولذة أين منها ارتعاشات نشوة المحبين. وللصيف, آهٍ من الصيف! أطياف وأحلاف ودغدغة وسهرات وصولات للنسيم العليل النفس, وخيرات كثمار الجنّة تنوّعاً وطعماً, وسماء صافية لا نعرف لزرقتها شِبْهاً في غير جنة الخلد أو الحلم.

على هذه الأرض, وفي تلك الأمكنة كان تفتّحي على الفنّ واللون والشكل.

أمّا عائلاتها فكثيرة, تصل الى نحو المئتين. يندر أن تجد في الحروف الأبجديّة حرفاً لا يشتمل على عدد كبير من العائلات التي يبدأ اسمها به. وهناك عائلات تجدها موزّعة في لبنان على طوائف أخرى كالعبدالله وغزاوي وهاشم ورحيّم وسعد وعقيل وغيرها...

اعتمد أهاليها في الماضي بشكل رئيس على الزراعة المتنوّعة من خضار, بشكل أساسيّ, وبعض الفاكهة. أمّا حاليا فتشكّل الوظيفة الرسميّة الظاهرة الأبرز في مجتمعها لا سيّما سلكا التربية والجيش, إضافة الى نسبة عالية من حملة الشهادات العليا والألقاب الرسميّة وغير الرسميّة.

تتميّز الخيام بالعدد الهائل من المثقّفين والمفكّرين والشعراء والصحافيين والأطبّاء والمهندسين والفنّانين والموظّفين في القطاعات العامّة والخاصّة, ولهذا أسبابه الكثيرة والمنوّعة من سياسيّة واجتماعيّة وتاريخيّة. بالطبع هي لا تنفرد بهذا الشيء بل تسير على منوالها معظم مناطق الجنوب وقراه ومدنه, وكأنّ ابن هذه المنطقة, المحرومة تاريخيّاً من الخدمات والتقديمات المنوّعة التي تعود أسبابها إلى السياسة والطائفية, يريد التعويض عن هذا الحرمان بشغف كبير لا مثيل له في التاريخ الإنسانيّ..

سكّانها طيّبون كرماء مضيافون, محبّون, اجتماعيّون, لا طائفيّين, طامحون, حالمون, يعملون بكدّ لغدهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم ووطنهم المشاغب باستمرار...

-------------------------------------------------------------------------------------------

1- وديع نقولا حنا, قاموس لبنان, مطبعة السلام, بيروت 1927, ص ص 98 – 99

نزق الطفولة

"عندما لم نعد أطفالاً نُصبح موتى"

برانكوزي

"وُلدتُ شيخاً, وأموت طفلاً"

حسين مروّة

في تلك البلدة ُولدتُ ونشأتُ وترعرعتُ. ولدتُ في أوّل شهر تشرين الثاني, في عيد جميع القدّيسين. لكني لستُ قدّيساً, بل فناناً يحمل رسالة أودعها الله داخله عبر موهبة الفنّ. فمن هذا المنظور نرى أنّ القداسة والفنّ صنوان لا يتباعدان أو يفترقان بل يتعانقان. والفنّ عبادة استثنائية من نوع خاصّ, إن لم نقل أنّه أكثر قرباً إلى الخالق من القداسة أو أكبر منزلة منها لأنّه لا ينتمي إلى طائفة أو دين معيّن بل هو لكل الأديان والأزمان والأمكنة والناس. ثمّ أنّ الفنان يخلق من اللاشيء شيئاً. فالخالق هو من قال لشيء لم يكن "كن" فيكون. هذا ما يفعله الفنّان بوسيلة وبقدرة من الخالق تُدعى "موهبة". فالفنّان عند الشعوب المتحضّرة شيء استثنائيّ ومميّز وليس مخلوقاً خارجاً عن قانون المجتمعات المتخلفة والعادات والأفكار المنحوتة على صخر الوهم. حُكِيَ أنّ وزيراً فرنسياً زار الرئيس الفرنسيّ الأسبق "شارل ديغول" أحد الأيام مُعاتباً إيّاه على فعل معايدته للفنان "موريس شوفالييه" أثناء مرضه, في حين أنه لم يقم بهذا الشيء معه أثناء مرضه! أجابه الرئيس الفرنسيّ, بروحه وفكره العملاق المتألّق: "إنّ مرسوم تعيين الوزراء هو رئاسيّ, أما مرسوم تعيين الفنّانين فهو إلهيّ"... فليتّعظ القيّمون والمسؤولون في بلدنا, عن أمور السياسة والفنّ والثقافة والناس, من هؤلاء الكبار في فكرهم وتطلعهم...

قبل الغوص في أمور الفنّ والحياة لنقف على بدايات طفولتي وما بعد الطفولة في بعض مراحلها وفتراتها ومحطّاتها...

أعود الى ذكرياتي الطفوليّة على أرضها المعطاء. لقد عرفت طفولتي أريجها ومداها في هذه الأرض, وعليها صالت تلك الطفولة وجالت محمومة الحركات, ذاهبة تعدو على مداها متوثبة, تنام متوسّدة الغيوم والحجارة والأشجار, وتصحو ملتصقة بها, راقصة معها, مرتوية بقطر الندى المبلّل. لقد عرفت حاراتها وبيوتها مجوننا ولعبنا الطفولي وشقاوتنا الحادة. ولست هنا بصدد سرد طفولتي بقدر ما أودّ عرض حبّنا للأرض وجمالاتها, والوقوف على ذكريات لم يبقَ منها إلا ما ندوّنه ونسرده إذا ما أسعفتنا تلك الذاكرة المقهورة.

عشتُ القسم الأكبر من طفولتي في ربوع الحدائق والبساتين وكروم العنب والتين والزيتون, ولا سيّما أثناء العطلة الصيفيّة, حيث يعمد الأهل لاستئجار "كرم تين" (بستان) في منطقة المرج لنقوم باستثماره ببيع غلّته عبر إرسالها إلى أسواق بيروت. كان هذاالكرم يتطلّب رعاية وحراسة من عبث العابثين وسرقاتهم وحمايته من أنياب قطعان الغنم والماعز والبقر, التي كانت كثيرة آنذاك قبل أن تتحوّل الخيام الى مدينة في وقتنا الحالي. نحفر أسماءنا على جذوع الشجر الذي يبكي ألماً أبيض لفراقنا, فتختلط الأسماء المتكاثرة؛ أسماء صبية وأحبة عاشقين بسهامهم التي تخترق القلوب المرسومة على هذه الجذوع الباكية الدامعة الموشاة بعلامات الزمن وأخاديد الآلات الحادة.

كنا نذهب إلى منطقة المرج سيراً على الأقدام, وفي أحيان كثيرة كنتُ أقطع تلك المسافة, التي تعدّ بمئات الأمتار, ركضا كالسهم المنطلق أو كدولاب تدحرج من أعلى تلة نحو الأسفل, بل كنتُ أشبه بحيوان "الكنغر" الذي يقفز بخفّة ومهارة على قائمتيه الخلفيّتين للتنقل السريع, فلا يلامس الأرض بقدر ما يلامس الفضاء والهواء. لم أكن أحسّ بالتعب أو ببعد المسافة, كنتُ أتأمل رجليّ اللتين تتطايران في الفضاء كعصفورين فرحين متحابّين يلعبان لعبة السباق. كان شعوراً جميلاً, وكثيراً ما لازمني هذا الشعور في منامي حين كنتُ أحلم بأني أجلس على مخدّة وأطير فوق المرتفعات والسهول كالسجادة الطائرة في بعض الحكايات العربية القديمة. كم كنتُ أفرح بتلك اللحظات البريئة المنعشة!

كنتُ أقضي قسطاً من النهار في السباحة في بركة الدردارة أو في القناة المتفرّعة عنها التي كنا نسمّيها "القنا" الممتدة على طول سهل المرج بعد أن نحقن المياه, أنا وأترابي, في أحد الأمكنة, فيرتفع مستواها ونقوم بالسباحة منتعشين بحلاوتها وبهذا المستوى للمياه الذي يسمح لنا بالغوص دون أن تلسعنا برودتها التي تتحملها أجسادنا الغضّة الطريّة والعارية كلياً. كنا نقفز في الماء فتتطاير شظاياه وأصوات الارتطام فوق العشب المجاور. نرمي بأنفسنا في أحضان الماء الذي يتلقفنا كحبيبة مشتاقة, فيتعالى صراخنا الممزوج بالضحك الصاخب. ما زالت رائحة الماء الزكية, المختلطة برائحة الأعشاب المنوّعة التي تغطي ضفاف القناة التي يطغى عليها الحبق البرّي ذو الرائحة المميّزة, لا تغادر أنفي أبداً. إنها لحظات يمكن أن نحياها ونعيشها في الجنّة التي وُعِدَ بها المتّقون.

وأحياناً أخرى, كنا نصطاد الأسماك بوسائل بدائيّة وهي أسماك صغيرة الحجم نقوم بتربيتها, ثم لا تلبث أن تموت بعد بضعة أيام لأننا لم نكن نعرف سبيلاً الى رعايتها وإطعامها ومدّها بالأوكسجين اللازم من خلال التغيير المستمر للماء الذي تسبح فيه وتسكنه في وعاء بالكاد يسمح لها بالحركة. ولم يكن الأمر يختلف مع العصافير التي كنا نقوم بالتقاطها واصطيادها بواسطة "الفخ", بعد أن نغني لها أناشيد خاصة, نحرص أشد الحرص على لحنها وإيقاعها وعدم النشاز في إدائها, لم أعد أذكر منها سوى النزر القليل, فنستدرج تلك العصافير إلى الفخ المصنوع من شريط حديديّ, وكم كنا نرقص أو نتراكض راقصين عند رؤية "فعرة" الفخ حيث يتعالى التراب برذاذه عندما ينقر العصفور الطعم الموجود في الفخ المخبّأ في التراب, وغالباً ما يكون الطعم عبارة عن "مدود" أو "دويدة" نأخذها من قصب الذرة أو ما شابهها مما يتكاثر في المرج أو تحت "جب" أخضر من الحشائش. أما العصافير التي كانت تقع ضحية هذا الفخ أو "النقيفة", التي كنا نجيد الرمي بها بحذق ومهارة, فكانت متنوعة: منها "العضيض" ومنها "الرمّودي" ومنها "أبو الحن" و"الكرّج" و "البوبانة" و "القبّرة" و"الصندل" و"الطرطاق"... وغير ذلك ممّا يتنوّع ويختلف حسب الفصول. عند الإمساك بها كنا نعمد إلى ذبحها بعد تلاوة الصلاة عليها من خلال جملة واحدة كنا نحفظها عن ظهر قلب. هذا في حالة العصفور الذي كان يفارق الحياة لتوّه. أمّا الحيّ منه, فكنا ننزع بعض الريش من جناحيه ونودعه القفص أو الغرفة في البيت للّهو به ثمّ ما يلبث أن يفارق الحياة بعد أيام عدّة نتيجة جرح تعرض له أثناء الأسر, لم نقوَ على علاجه, أو بسبب عدم تحمّله قساوة السجن الذي لا يليق به بعد الحريّة التي اعتادها في البراري والأجواء المفتوحة على جمالاتها. كنا نرى الصيد أمراً مشرّعاً, شرّعه الكبار بقولهم أنّ اصطياد العصافير وأكلها حلال, فانفلت الأمر من عقاله, وكانت لنا صولات وجولات مع تلك المخلوقات الصغيرة الضعيفة الجميلة.

كنا نثور أيضاً على التقاليد, ونتحدّى قوانين المجتمع والأهل كمعظم صبية ومراهقي العالم ولو كان هذا المنع لصالحنا وذوداً عن صحّتنا ومستقبلنا؛ كنا نعمد إلى صنع السجائر الضخمة عبر لفّ وريقات شجر التين والعريش اليابس الحارّ في أوراق أكياس الترابة وأوراق (الكرافت) التي كانت تُصنع منها الأكياس الورقية قبل أن تستفحل المواد الكيميائية في صناعة أكياس النايلون على اختلافها. كانت أفواهنا الصغيرة عصيّة على هذه السيجارة, أو بالأحرى السيجار العملاق, بإحاطتها قبل أن نقوم بإشعالها لتدخينها, فكان دخانها يعبق من أفواهنا ليملأ المكان ويحجبه مصحوباً بسعال متواصل وألم في العيون التي نحسّها خرجت من محاجرها كثديين منتفخين, ناهيك من الوجع الذي نحسه في ألسنتنا بسبب لذع حرارة الحشوة له, والهدف من كل ذلك تقليد الكبار ضحايا تلك الآفة, آفة التدخين, وشتان ما بين تدخين وتدخين!

كانت الأشجار المثمرة مشاعاً لنا كصبية في البلدة, ولا سيّما أننا نسكن وسط البلدة في منزل لا تحيط به الأشجار, ولا توجد فيه حديقة مزروعة بالأشجار المثمرة. فكان هذا الشيء محرّضاً لنا على انتهاج الغزو للتعويض عن هذا النقص. كنتُ أعمد إلى انتظار الليل للتسلل إلى أشجار الجنارك والخوخ والدرّاق والأكدنيا والتوت في الأحياء المجاورة لقطف ما طاب لي من ثمارها قبل أن يعمد أصحابها إلى قطفها عند نضوجها. فكنتُ مضطراً إلى قطفها وأكلها غير ناضجة غير آبه بانتظار أصحابها آوان قطافها للتلذذ بطعمها بعد سنوات من زرعها وسقيها والاعتناء بها. أعتقد أني نلتُ الكثير من السباب بسبب حرمان أصحابها من لذة طعمها بالكميات الكافية. كنتُ أتسلق الأشجار ليلاً وقلبي يخفق فزعاً من اكتشافي متلبّساً بالجرم المشهود. كنتُ أحبّ كثيراً طعم فاكهة التوت, ولمّا أزل. كانت هناك شجرة توت ضخمة عند الجيران, محاذية لمنزلنا, كنتُ أعربش عليها, كبقية الصبية نهاراً, وعلى مرأى من الجيران الذين لم يبدوا إزعاجاً أو تذمّراً, للتلذذ بثمارها البيضاء الشهيّة, ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كنتُ أعمد إلى اصطياد العصافير الموسمية التي كانت تغزوها في ذلك الموسم لمنعها من منافستنا طعمها, وللتلذذ بأكلها مشبعة بفاكهة التوت (عصفوران بحجر واحد, كما يقول المثل). وفي موازاة ذلك, كان لدينا كرم, يطل على منطقة "الوطى", قمنا بتشجيره ببعض الأشجار المثمرة كاللوز والزيتون والتين والمشمش التي لم نذق طعمها بسبب غزوات الصبية الآخرين لها كما كنا نفعل بدورنا! إنها شريعة الصبية والطفولة والقرى في ذلك الزمن, وفي أزمنة أخرى...

يقودنا حديثنا عن الطبيعة وجمالاتها إلى الشتاء وثلجه؛ هذا الثلج الذي أصبح نادراً كالسلام في بلادنا, الذي كان سبباً في تسمية جبل الشيخ (حرمون) باسمه بفضل بياضه الذي يكلل قممه كعمامة الشيخ. لم يبخل الجبل بتوزيع ما فاض منه من ثلج على المناطق المحاذية له من قرى وسهول ومرتفعات. هذا الأبيض الذي يحلو الحديث عنه وعن أوقاته الممتعة التي قضيناها معه لهواً ورشقاً وشقاوة وفرحاً. لهف نفسي عليه وعلى أيامه. كان يداهمنا ليلاً, فننهض باكراً لنصطدم ببياضه وتراكماته التي عربشت على كل موجودات الطبيعة, وأمسكت بها جيداً كحبيب يلقح حبيبته, وعلى الأبواب, لتغطي جزءاً منها لا بأس به, وقد يمكننا المبالغة بالقول حتى منتصفها في بعض السنوات. كان يأتي كثيراً ومتراكماً كفرحنا به لعباً وغياباً عن المدرسة؛ هذا الغياب, الذي تسبّب به القطن الأبيض, زاد من حبّي له. كنا نطلق ضحكاتنا الصافية كصفاء السجادة البيضاء. نتقاذف كرات الثلج, ونتعارك فوق فراشه الذي يتحوّل إلى لحاف يغطّي ثيابنا وأجسادنا فتحمرّ معها خدودنا وأيادينا التي تتورّم وجعاً ليبدأ النفخ عليها بأنفاسنا الدافئة علّها تطفىء شيئاً من وجعها. أما الطيور, فكنا نغتنم الفرصة لاصطيادها في مرج الخيام دون صعوبات, لا سيما عصافير الشتاء ذات الألوان البديعة المنوّعة وطائر السمّن وديكه, وقد يصل الأمر إلى الإمساك بها بأيدينا لعدم تمكنها من الفرار بسبب البرد.

كان الثلج جميلاً كعادته. كان يزورنا سنوياً وباستمرار. لكنه أبطل عادته بعد أن تركْنا قرانا وأمكنتنا التي وُلدنا فيها لنعفنَ في المدينة ونموتَ فيها برداً.

أنقر هنا لمشاهدة الجزء الأول من فيلم الفيديو "المحترف" الذي أنتجه المهندس رضا قشمر عام 2005 عن الخيام .. الجزئين التاليين سيعرضان تباعاً على الموقع في وقت لاحق.

الفنانان.. الدكتور يوسف غزاوي والسيدة عقيلته
الفنانان.. الدكتور يوسف غزاوي والسيدة عقيلته


تعليقات: