كان قد صرخ باكياً: أحرقت لي قلبي يا أمي

محمد الحسيني وشقيقته سكينة قبل ايام في ارزون
محمد الحسيني وشقيقته سكينة قبل ايام في ارزون


في صباح السبت، 12 آب ,2006 احتلت منتصف الصفحة الأولى في «السفير» صورة تبدو في مقدمها المسعفة في الصليب الأحمر الدولي وهي تضم امرأة محجبة باكية، وتقبلها في جبينها. خلفهما كان عنصر دفاع مدني يحمل على ساعده طفلاً باكياً في ما يشبه الصراخ، ناظراً صوب المحجبة، ماداً ساعده نحوها.

المحجبة كانت قد خرجت من سيارة الدفاع المدني قبل لحظات من التقاط الصورة. مشحونة بخوفها، ومربكة من وجوه غريبة كثيرة وعدسات مصورين كانت تحدق فيها وهي ما زالت في الجزء الخلفي من سيارة الدفاع المدني، انفجرت هذه السيدة بالبكاء حين فتح الباب ووقعت عيناها على المسعفة الأوروبية. اجتاحت الأخيرة عاطفة ما جعلتها تندفع صوب المرأة وتضمها وتمشي بها. في هذه اللحظة علا صراخ الطفل وبكاؤه وصراخه: «يمّي.. ليش عم تبكي. يا تقربيني.. حرقتيلي قلبي يمّي».

كان المراسلون اللبنانيون والعرب والأجانب مصلوبين لساعات في شمس قرية معروب بالقرب من صور. خرجوا صباحاً خلف الصليب الأحمر في مهمة كئيبة: تغطية انتشال جثث عائلة خليل موسى، أطفاله الثلاثة وزوجته، من تحت ركام مبرة للأيتام سوّاها الطيران قبل ثلاثة أيام بالأرض. كان التعب والإحباط قد نال من الجميع، لأن ركام الأبنية بدا مستحيل الاختراق. ومع أن الصليب الأحمر الدولي أخذ مسبقاً موافقة الإسرائيليين على رحلته، كان لا بد من العودة الى صور. مجيء سيارتي الدفاع المدني بنازحين من أرزون قلب المشهد رأساً على عقب.

وقع الحدث البسيط صاعقاً على الجميع. الحرب شارفت على النهاية. هؤلاء المراسلون كانوا يتعاطون ببرودة شديدة مع صورة الجثة الممزقة أشلاء. مصورو الوكالات يلتقطون صوراً للموت من زوايا كثيرة، كي تقل دموية الصور وتجد طريقاً إلى النشر. البحث عن الخبر كان ضارياً. صورة بكاء الطفل وأمه والمسعفة مجرد لقطة إنسانية أخرى. التقطتها العدسات، لكن عبارات هذا الطفل وصراخه إلى أمه، أنهى كل مقاومة مهنية لهؤلاء المحترفين. سحبهم خلفه. أحاطوا به. كانوا يصورونه وبعضهم يبكي. تحلقوا حوله وأمه في المسجد الملاصق. كانت تمرغ وجهها بوجهه. وظل يبكي. حين انتبه مصور الوكالة الفرنسية الأسباني إلى خوف الطفل وصراخه من عدسة الكاميرا المسلطة على وجهه، أنزلها، ثم اقترب منه، ووضع أغلى ما يملك في يديه الصغيرتين كي يهدأ. هكذا كان. أخذت الكاميرا كل حواسّه. إنقلب مزاجه إلى عكسه. نحكي عن طفل في الرابعة. لا ننتظر منه غير هذا.

إسمه محمد الحسيني. لديه شقيقة اسمها سكينة. تكبره بثلاثة أعوام. راحت تحضن المراسلات بحب. تضع خدها على خدودهن. تمسد شعورهن. تفرح بالغرباء. هؤلاء الذين أمضوا معظم الحرب يرصدون الجثث ويتصيّدون لقطات الطيارات والدخان، كانوا يخضعون هذه المرة للتأثير الهائل الذي يتركه أهل القرى في الجنوب اللبناني. يخضعون لسحر عائلة جنوبية مجهولة تماماً.

إنتهت الحرب بعد يومين على هروب هذه العائلة. نزوح قصير عادت بعده إلى بيتها. زار البيت في أوقات متفرقة لبنانيون آخرون رأوا على التلفزيون أو قرأوا حكاية محمد. في ارزون، عرف بصبي التلفزيون. وبعد سنة، حين ستتوقف سيارة امام البيت، سيبدأ وشقيقته بالقفز والرقص والركض هنا وهناك: «إجوا الصحافيي.. إجوا الصحافيي».

الطفل نفسه الذي بعث في هواء معروب قبل سنة كل ذاك الحزن، يكاد فرحه يمنعه من وضع قدميه على الأرض. أدهشته السيارة وقفز الى داخلها يحرك مقودها. أدهشته آلة التسجيل وكان مستحيلاً تحريرها من يديه أو جذب انتباهه عنها. لعبة لا يصدق أنها في متناوله. طاقته على الفرح هائلة. هي البساطة الشديدة لهذه العائلة، تجعل آلة التسجيل كما الزوار، حدثاً كبيراً.

في البيت الأرضي المؤلف من غرفة واحدة، الأثاث القديم نفسه للجلوس نهاراً وللنوم ليلاً. أثاث متقشف يكتفي بأقل الضروري. حصيرة القش وسريران، وبضعة أغراض أخرى. هذه عائلة متواضعة الحال بحرب أو بدونها. في موسم الحراثة، يعمل الاب، علي الحسيني، في حراثة أراضي الغير على حمارين يملكهما، وكانا سبباً في تأخره كل هذا الوقت عن الهروب بعائلته من القرية لولا أن اشتد القصف في الأيام الأخيرة. الحماران رأس المال الوحيد لهذه العائلة، ما كان باستطاعته تركهما ينفقان.

حين ينتهي الموسم، يصير علي عاملاً مياوماً يقتلع الأعشاب الضارة من الحدائق والأراضي، وينال أجره. حياة للقوت اليومي. رب العائلة الغارق في الخجل يقول إن السنة مرت كما غيرها. يضع محمد في حضنه ليهدأ قليلاً. يقول عنه إنه ذكي في المدرسة. سكينى تحضن زائرتها وتضع خدها على خدها.. ثم ترفع كفيها وتخبئ وجهها وهي تتلو استظهاراً تحفظه.

مشهد الأم وابنها في الحرب ليس حقيقياً. كان مشهداً مؤثراً لكنه عابر. هذا المشهد هو الحقيقي. مشهد طفل يلهو بأي شيء عن كل شيء. مشهد طفل بالكاد يفهم معنى كلمة حرب. هذا مشهد أكثر صدقاً..

لن يحكي محمد ولن يتذكر. عبارة واحدة تُسرق منه. نسأله عن الصورة المعلقة على جدار البيت. يقول: هيدا نبيه بري.

نغادر بالزفة نفسها التي استقبلنا بها الطفلان القادران على كل هذا الفرح. ليس الرئيس نبيه بري في الصورة. هو السيد حسن نصر الله. محمد الحسيني لم يتعرف بعد على «السيد».

.. وفي 11 آب الفائت مع أمه بعد نزوح العائلة الى قرية معروب (علي علوش)
.. وفي 11 آب الفائت مع أمه بعد نزوح العائلة الى قرية معروب (علي علوش)


تعليقات: