لبنانيون احتضنوا لبنانيين: ما تبقى من صور في كسروان وجبيل

نازحات خلال الحرب (م.ع.م)
نازحات خلال الحرب (م.ع.م)


جبيل :

يحمل بطرس مرعي شتلة بندورة بين يديه ويقول ضاحكا «هذه جنوبية من آل حرب، سأغرسها في أرضي هنا في حراجل. وسنرى كيف ستنمو النصبة الجنوبية في التربة الكسروانية»...

زادت تجربة الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز الماضي الكثير على ما خبرته سنوات العم بطرس السبعين، «فقدت بعضا من أسناني وبقي من شعري القليل، غير ان ما عشته السنة الماضية يوازي عمري كلّه».

كثيرون، مثل العمّ بطرس عاشوا تجربة «إنسانية» مختلفة خلال عدوان الصيف الماضي. تعايش فرض نفسه، فكان إيجابيا مفاجئا مرات، وسلبيا لا يعاكس أفكارا مسبقة مرات أخرى. في ما يلي، بعض من تجارب لبنانيين احتضنوا لبنانيين ذات حرب، وقصص يتذكرها أهل جبيل وكسروان، عن لبناني «آخر» تعايشوا معه لأول مرّة.

«صليب وهلال على قبة واحدة»

يجلس العمّ بطرس على كرسي، وخلفه جبال ووديان تتشابك وصولا الى البحر. شكلت قريته الكبيرة وبيته الصغير لسنوات طويلة عالمه وعالم عائلته.

العمل في الأرض صباحا، وسهر وسمر في الليل، وقدّاس يوم الأحد، وصيّة لا يمكن أن تُخالف الا لمرض أليم او خطير. روتين جعل من الرجل «فلاح مكفياً» ينتظر كما غيره من أبناء الوطن سلاما على الأرض اللبنانية، سمح له بالاطمئنان على مستقبل أولاده الخمسة: ليال، وطارق، وماري، وجورج ورواد.

صواريخ تموز زادته قلقا، شعر أنه لو استجاب لدعوة إبن خاله للعيش في ألمانيا، لكان حاله أفضل بكثير...

«لا أفهم في السياسة ولا أريد. ولكن شعرت بنقمة على حزب الله لقيامه بخطف الجنديين الإسرائيليين، لأن عملية الخطف كانت شرارة اندلاع الحرب كما قال اكثر من محلل على التلفزيون...» رافق ذلك الشعور العمّ بطرس لأسبوع، قبل أن يأتيه زوار يطلبون الاستئجار لفترة غير محددة، يحكمها انتهاء العدوان... «يا بنتي أنا رجل مؤمن، ولا يجوز أن أستفيد من قهر غيري لأغتني. البيت السفلي ورثته وأخوتي الثلاثة من أبي، وإيجاره في الصيف يصبح رمزيا إذا قسم علينا. قال أخي فلنستفد من الوضع ولنؤجره بألفي دولار على أساس أن الحزب يدفع عن النازحين. طبعا أنا رفضت».

استقبل مرعي وشقيقاه عائلة نزحت من الضاحية الجنوبية أصلها من النبطية، مؤلفة من جدّ وجدة وأب وأم وعمة وثلاثة أولاد هم مريم، ونائل وجهاد.

«في البداية طلبنا من العائلة مئتي دولار بدل إيجار المنزل المؤلف من غرفة نوم وصالون كبير ومطبخ وحمّام و«سطيحة» فسيحة. وسألتهم ألا يترددوا في طلب أي مساعدة. ولكن أبو نائل لم يكن ليرض بأي مساعدة، حتى ليلة وصولهم متأخرين... رفضه أزعجني وكأنه يترفّع عن قبول مساعدتي».

اقتصرت علاقة العائلتين في الأيام الخمسة الأولى على التحية والسلام. بعدها تكفل الأولاد بخطوة التعارف الأولى فلعبوا وتنزهوا معا.

«دعوت الجدّ مرة لشرب القهوة، فأخبرني عندها عن رحلتهم الصعبة من الضاحية حتى جونيه وصولا الى القرية. شعرت أنهم كعائلة يدفعون ثمنا باهظا... وقررت ان أعيد اليهم بدل إيجار المنزل، ربما تخيلت نفسي وأولادي مشردا ومن دون مأوى، أو ربما هي تربيتي التي لم تسمح لي بتجاهل تلك العائلة وتركها وشأنها كمستأجر غريب».

كان العم بطرس يتابع يوميات عائلة حرب كمسلسل حيّ أمامه «يوم يأتيهم خبر عن استشهاد قريب، وآخر عن دمار حيّهم في قريتهم... كنت أشفق عليهم وأحسدهم في الوقت نفسه على تماسكهم وتفاؤلهم وشكر الله المستديم... يا ربّي كم كان الوقت قاسيا عليهم».

في التجربة يقول إبن السبعين إنه لم يكن قد عرف «عائلة مسلمة» عن قرب هكذا، «من غير ملتنا، وكل مين ع دينو الله يعينو... تربينا على أن الإسلام يختلف عن المسيحية وبالتالي يختلف المسلم عن المسيحي. أنا لم أر ذلك. كنت وأبا نائل نتشارك الهموم نفسها، القلق نفسه الخوف نفسه... تحدثنا في الزواج والأولاد وتربية البنات والتعلّق بالأرض والزراعة... بات يساعدني بالأرض ويحدثني عن أساليب جديدة في تنقية الأشجار والاهتمام بنوعية الفاكهة...».

تجربة مختلفة عاشها العمّ بطرس كما أبو نائل «كنا مسيحي ومسلم تحت سقف واحد، صليب وهلال على قبّة واحدة، قال لي فاجأتني ورديت بالمثل. يا بنتي الإنسان عدّو ما يجهله، ذلك هو المثل الصحيح».

منذ أسبوعين أمضت عائلة مرعي يوما طويلا في الجنوب في ضيافة آل حرب، وقد ذهبوا «محملين بخيرات» وعادوا «محملين بخيرات»، «خيرات من الأرض ومن الإنسان» يختم بطرس مرعي.

الدين وفروقاته

سمعت نجوى أنين طفل يصلها من مدرسة رسمية في جبيل و«ما زلت أسمع الصوت نفسه منذ سنة...».

الطفل يبكي ويئن، وكأن ما من يسمعه أو يمكن ان يستجيب... «هرعت الى المدرسة، استوقفني رجل ملتح «ماذا تريدين؟ ومن تقصدين؟» أخبرت نجوى الرجل أنها يمكن أن تساعد في تهدئة الطفل لأنها أم لشابين وقد اختبرت تربية الأطفال، «ربما أمه لا تعرف كيف تتصرف أو ربما هو بحاجة لحلّ بسيط»...

بعد جدل حاول خلاله الرجل ثنيها عن الدخول، توجهت المرأة الى حيث الصوت. «رأيت أما حافية القدمين، عاقدة الحاجبين، تحاول جاهدة تهدئة مولودها الذي لم يكن قد تجاوز شهره الثالث. أخبرتني أنه بحاجة لحليب وقد تأخروا بجلبه...».

غادرت نجوى مسرعة لتأتي بالحليب. تروي نجوى قائلة «ربما آلمني بكاء الطفل وخوف الأم عليه كثيرا... ولكن ما آلمني أكثر هو أن حليب الأطفال كان موجودا في إحدى مدارس جبيل التي تحولت الى مخزن، كمساعدة من الهيئة العليا للإغاثة، ولكن المسؤولين عن توزيعها لم يحرّكهم طلب الأم، لأن الوقت كان قد تأخر والمسؤول يشعر بالتعب خلف مكتبه...».

لم تكن نجوى تعرف الجنوب وأهله الا من خلال مهجري الحرب الذين «أتوا الى منطقتنا على أساس أنها تمثل توجهاتهم وأهلها من طائفتهم». كما لم تكن تعرف من أرض الجنوب الا مزار سيدة مغدوشة الذي كانت تزوره خلال رحلات تنظمها «أخوية الحبل بلا دنس».

«أيام الحرب الأخيرة تعرّفت الى أشخاص من طائفة أخرى، هم طيبون وقد بدوا متحمسين للتعرف الينا» تقول وهي حتى اليوم ما زالت تعترف بـ «فروقات دنيوية» يفرضها الدين. مع ذلك تأسف لعدم تعرّفها عن كثب بأم الطفل «عدت وزرتها مرارا غير أني لم آخذ رقم هاتفها ولا عنوانها في الجنوب، كي أتواصل معها».

في تجربة نجوى ما بدّل من أفكارها المسبقة عن «آخر» في الطائفة والسياسة. هذه ليست حال وائل.

وائل الذي «قدّر له» كما يقول أن يتعايش مع جيران نازحين، لم يستطيعوا أن يبّدلوا من نظرته إلى «الآخر»، هو أيضا يرى فروقات كثيرة تبدأ في التربية وتنتهي في العلاقات وما يفرضه الدين، «تخيلوا، أرادوا وضع صورة نصر الله وبرّي عند أول الحيّ وبالقوة».

ماذا لو تكررت التجربة؟

في تجارب العمّ بطرس، ونجوى ووائل نماذج ثلاثة لأهل مناطق استضافت النازحين خلال العدوان الإسرائيلي الأخير.

في جبيل وكسروان قصص وروايات كثيرة، منها ما يخبر عن تعايش «لصيق» كتلك التي نسجها أبو جورج مؤكدا انه كان يتقاسم ما يجنيه من دكانه الصغير وجيرانه النازحين. ومنها ما تحيكها أفكار مسبقة، غالبها موروث أباً عن جدّ، «والله وعندو سبع نسوان وخمسة عشر ولدا يلخبط بأسمائهم» كما تقول نزهة التي تسكن قرية جبيلية.

قصص وروايات، أقاويل وحقائق... وفي البال خوف من تكرار التجربة، تجربة لا يريد لها البعض أن تتكرر.

«جارنا يحب الحكيم كثيرا» تخبر نجوى «كان يساعد عائلات كثيرة أيام الحرب، فوضعه المادي يساعده على ذلك. غالبا ما كان يقدمها بطريقة غير مباشرة. اليوم يقول إنه لن يكرر التجربة لأن قوى المعارضة غالبا ما تشتم القائد، وبرأيه يجب الا ندفع ثمن الحرب مرتين».

وائل أيضا لن يرتاح لاستقبال نازحين مرة ثانية «صعب علينا تحمل نازحين مرة أخرى من أي منطقة أتوا، قد يكون نوعا من الردّ السياسي... لا أعرف ربما يتغلب علينا حينها الوضع الإنساني».

أما العمّ بطرس فيقول «هذه المرة، إن تكررت التجربة لا سمح الله، سأسكن النازحين في بيتي. جميل ان نبني صداقات وعلاقات. سأملأ حديقتي من زرع الجنوب. يمكن للبنانيين ان يتعايشوا بأفضل حال لولا تصاريح السياسيين».

ماذا لو تكررت التجربة؟ الجواب باختصار عائد الى ميول أهل جبيل وكسروان السياسية. فالتوافق القائم بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله، يجعل، حتى اللحظة، صدور المناصرين رحبة عند وقوع أي طارئ، بينما يبقى تجاوب من هم خارج التوافق رهن تصاريح أهل المعارضة وخطواتهم السياسية.

حطب: التجربة رهينة السياسة وليس الدين

يعتبر الدكتور في علم الاجتماع زهير حطب أن «اللبنانيين في مختلف المناطق اللبنانية، مرّوا بتجارب غنية خلال حرب تموز الاخيرة، لأنها أضافت الى معارفهم وأفكارهم المسبقة والجاهزة اختبارات وعلاقات، عاشوها على مستويات مختلفة، تجسدت بنواح مادية واجتماعية ومعنوية وطائفية... وكانت تحصل كل هذه العلاقات تحت سقف تعرّض البلد بكامله لعدوان غاشم، ما فتح آفاق التسامح وتقبل الآخر الى أبعد مدى، حتى ولو كانت تتم على حساب أحد الطرفين.

فالأسر التي استقبلت النازحين بكل ترحاب ومهما كانت المدة التي مكثوا خلالها، اعتبرت ان التكافل في هذه المرحلة يتم مع أشقاء وشركاء لهم في الوطن».

اليوم، وبعد انقضاء سنة على هذه التجربة، « طرأت مستجدات متعددة على البلد، اعادت تصنيف الضيوف والمضيفين ووضعتهم ضمن جبهات مختلفة وفي مواجهة بعضهم البعض امام القضايا المطروحة. قد يعيد بعضهم، بناء عليها، قراءة تجاربهم. ولا بدّ ان كثيرين منهم يبدون استعدادا أقل لتكرار التجربة مع أشخاص يخالفونهم في الرأي والسياسة».

هذا الواقع أدى الى ثلاثة استنتاجات، كما يقول حطب: «الضيافة، أولا، لم توحد بين الناس ولم تشكل مناسبة للتخفيف من تطرّف الطرفين. ثانيا، تبين في بلدنا أن الانتماء الى الطائفة والحزب أقوى من شعور المواطنية والإنسانية. وثالثا، النقص في المرونة الذي يمكن أن يؤدي بالبعض الى عدم الاهتمام بالآخر عند وقوع أي طارئ، لا سيما من ينظر اليهم نظرة مشككة».

بالتالي يؤكّد حطب ان البلد انقسم قسمة عمودية، وفي حال وقوع أي طارئ سيتم التعاون بين اللبنانيين على أساس الأحلاف السياسية من دون الاهتمام بالبعدين الإنساني او الوطني، «لقد بنينا كانتونات نفسية وهي أخطر من الكانتونات الجغرافية. في علم التربية الاجتماعية وصلنا الى أبشع حالة، وأي حرب جديدة لا بدّ ان تكشف الهوّة بين اللبنانيين» يختم حطب.

تعليقات: