لا أمل إلا بالعروبة ولا خلاص إلا بالعروبة

الأستاذ طلال سلمان
الأستاذ طلال سلمان


رغب الي الصديق الأديب الحبيب الصادق أن أتولى بالنيابة عنه وعن هذا المجلس الكريم وعن شعب لبنان العظيم، وعن الأمة العربية الخالدة، ان أنعي اليكم والى الناس الأنظمة والمنظمات جميعاً عبر الحديث عن المشهد العربي الذي يغيب عنه الفرح والأمل بينما ينزل البهجة والغبطة على قلوب الأعداء والخصوم، اميركيين وإسرائيليين ومستعربين متصهينين وعرباً مستغربين.

واثق هو هذا الحبيب الصادق أنني لن أجد في واقعنا الراهن او في طلائع أيامنا المقبلة ما يمكن ان اعرضه متباهياً أو ما يمكن ان استكشفه مزهواً... فليس في الأفق غير السواد وغير اختلال المفاهيم والموازين والقيم واغتراب الأسماء بعيداً عن المسميات. فالتهدئة هي الإنذار بالحرب الأهلية، والتسوية هي تمويه الخيانة على الناس، والتوافق يعني الصفقات التي تلغي السياسة لحساب الطوائف والمذاهب، والكيانات المستولدة هي الثمرة المحرمة لعمليات تدمير الوحدات الوطنية.

ليراجع كل منا نفسه، وليسترجع من ذاكرته أسماء الزعامات والثورات والتنظيمات والأحزاب والهيئات التي عاصرها فعصرته حتى استهلكت زمانه، ثم بقيت تسد الشارع على الجديد المنتظر او المرتجى لتغيير واقع الحال او الحال الواقع علينا وعلى أبنائنا من بعدنا.

ليسترجع كذلك مواقع الدول، العربية أساسا، ثم الأجنبية، والمعسكرات ذات الأسماء التاريخية الواعدة، المعسكر الاشتراكي العظيم، دول عدم الانحياز، جبهة الصمود والتصدي، دول الطوق، ثم الجبهات الوطنية والقومية والتقدمية، والهيئات، والاتحادات سياسية محلية وعربية ودولية، نقابية وعمالية وفلاحية وشبابية وطلابية الخ..

فإذا فعل احدكم ذلك فهل تتبقى عنده شهوة للكلام؟

هل تبدو الطريق مقفلة بالركام؟

لكن الحبيب الصادق لا يحب الوقوف على الأطلال، وأنا مثله، برغم ان اسمي متضمن فيها... فلنتسامر إذن!

سأستعين في حديثي هذا ببعض ما سبق ان كتبت او ناقشت او تحدثت به في مناسبات عزاء مشابهة لهذه التي نودع بها عامنا المثقل بالخيبات لنستقبل العام الحديد الذي لا يبدو مبشراً بانتصارات.

ـ 2ـ

لقد اختلف الزمان، لكننا ما نزال نمارس الخطابة بلغتنا القديمة التي لا يفهمها حتى أبناؤنا.

أظن أن كلاً منا يعاني مشكلة مع أبنائه، ومشكلة أعظم مع أحفاده. انهم يسمعونه يتحدث عن العروبة، عن الاشتراكية، عن الوطن، عن الأحزاب، عن النقابات، عن ساحات النضال، بوصفها وقائع حياته ومصدر امله في شبابه. لكنهم في الشارع، في الجامعة، مع زملائهم في المقهى لا يأتون على ذكر أي شيء من ذلك.

دمرت العواطف والمشاعر النابعة من الروابط الأخوية ولم يتبق من العلائق الا الحد الأدنى مما تحفظه الطبيعة الإنسانية.

انقرضت الأحزاب العقائدية او تكاد، وهي التي كانت تربط بين الناس في المشرق والمغرب ولو رمزيا. تهاوت الجامعة العربية بعد صدمة الاعتراف بإسرائيل وارتفاع العلم الإسرائيلي فوق مبنى السفارة غير بعيد عن مبنى الجامعة الذي شكل بالدلالات رداً على عصر الاستعمار، اذا كان في موقعها ثكنات لجيش الاحتلال البريطاني.

أكلت السلطة الأحزاب القومية، فجعلتها لافتات تزينيية، واستهلك العجز عن التغيير أحزاب الأمل بالتغيير، إذا انهارت تماما بانهيار المركز في البعيد، وتزايدت الصعوبات أمام إعادة توطين نفسها حيث يحتاجها أهلها بتراثها النضالي، وانتعشت بالمقابل التنظيمات المعبرة عن الطوائف والمذاهب والعناصر، واحتلت الأصوليات بدماء الجماهير موقع التأثير على القرار، فارضة على الأنظمة ارتداء حجاباً إضافيا من القمع والشدة في مواجهة الوطنيين. وهذه مصر لا يكاد يرتفع فيها غير أصوات الأخوان المسلمين وانشقاقاتهم. وهذه تنظيمات القاعدة تخرج من تحت الأرض لتفتك بمن خاصمها من الناس وليس من أهل السلطة كما تدل أحداث اليمن والعراق الجريح.

ان بعضهم لم يصل حتى الى صيدا فكيف بصور وبنت جبيل وحتى جزين،

ـ 3ـ

وبعضهم الآخر لا يعرف طرابلس فكيف ببشري او القبيات في عكار،

والأغلب الأعم لم تأخذه الطريق الى بعلبك، واينك يا الهرمل.. أما دمشق فتبدو للبعض وكأنها خلف بحر الظلمات وأما القاهرة ففي المحيط المتجمد الجنوبي. ذلك لان صورة سوريا او مصر او العراق قد أصابها الشحوب او الذيول، لأسباب سياسية عكست نفسها بصورة رديئة على العلاقات بين الناس... وهم أهل، في حين ظل التاريخ والجغرافيا وصلات الرحم والمصالح في البعيد البعيد.

أما أسطورة دبي فهي الحقيقة الماثلة في مخيلة الجميع.

وبالتالي لا مفاجأة في القول ان ليس في الأحوال العربية القائمة ما يطمئن، وليس في احتمال تطورات الأحداث ما يسمح بالتفاؤل، ومن الواجب أن نستعد للأسوأ. لقد فقدنا البوصلة واضعنا الطريق، ومن المرجح ان يستمر ضياعنا عن هويتنا ومن ثم عن أهدافنا سنوات طويلة، خصوصاً وان العروبة صارت في بعض الأقطار تهمة وفي أقطار أخرى مجرد ذكريات او ربما هي أضغاث أحلام.

هي الردة بحروب عديدة، في الداخل وعلى الداخل، بالخارج ومن الخارج،

لقد أمحت العلامات على خريطة الموزاييك التي كنا نفترضها لوطن واحد فإذا هو مجموعة من الكيانات يعاني كل منها من نقص في التكوين يجعله مهدداً بضغط الخارج او باعتلال الداخل.. والضحية الأولى دائماً هي العروبة، عقيدة تفتقد ركائزها المادية وهوية يخاف أهلها من أعبائها الثقيلة سواء في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي او في مواجهة الهيمنة الاميركية او خاصة في مواجهة طغيان سلطات التخلف في الداخل.

ـ 4ـ

أيها الأصدقاء

نبدأ بلبنان، ومن لبنان نبدأ بهذا المركز الثقافي الذي كان له دوره المميز، فقد مجموعة من الأدباء كتابا وشعراء، علما في الدنيا والدين وبحاثة، ودارسين بفكر متقدم يمكن ان يساعد على نشر النور والمعرفة ويعزز المناخ الوطني ويقدم ارض لقاء للمستنيرين مع الجمهور المتعطش إلى وطن حر لشعب سعيد.

لقد عزت أماكن التلاقي وانشطر هذا الوطن الصغير كانتونات متباعدة حتى في الطروح الفكرية والبحث المشترك عن الغد الواحد.

وبعد دهر الحروب الاهلية التي دمرت في النفوس اكثر مما دمرت في المباني جاءت الجريمة المهولة التي أودت بحياة الرئيس رفيق الحريري.

كانت كارثة وطنية، ولكنها استخدمت لاستيلاد كارثة وطنية وقومية أفظع: جرمت جهات سياسية قبل ان يباشر احد التحقيق، وأدينت قوى وأطراف حليفة وصديقة، وصبغت الجريمة بلون سياسي ليسهل استثمارها في انقلاب سياسي شامل بدأ بإخراج سوريا من لبنان ثم باتهام حزب المقاومة الواقف بسلاحه بعد انجاز التحرير واخراج المحتل الاسرائيلي من أرضنا.

كانت الفتنة هي الهدف، لا الحقيقة، ولا الثأر للشهيد الذي هو شهيدنا جميعا، نحن الذين نقترب من ان نكون ضحايا مثله، لأن من قتله انما استهدفنا كلنا. لقد تم اغتياله بشاحنة ناسفة وها نحن نسقط او نكاد ضحايا فتنة ناسفة لا تبقى ولا تذر، أولها في لبنان وآخرها في العراق، مروراً بالخليج وانتهاء باليمن او العكس.

ـ5ـ

نحن أهل الشهيد، لا الادعاء الدولي الذي كاد يديننا من قبل التحقيق ثم عبره، ولا المحكمة الدولية التي لا يمكن ان تكون محجة للعدالة والقيم عليها اميركي والمناخ المحيط بها معاد للعرب عموما والمسلمين خاصة، حتى لا نقول انه اسرائيلي.. وابسط دليل استبعاد اسرائيل عن مجرد الظن او الشبهة برغم انها المستفيد الأعظم.

اننا في قلب المحنة. وكان ضرورياً ان يتحول لبنان من نموذج للمقاومة التي تأخذه إلى الوحدة والمنعة وتؤكد هويته وتعزز دولته، إلى أرض خراب بذريعة ان المقاومة قد كلفته أكثر من طاقته، فأبعدت عنه أهل النظام العربي وجعلته موضع غضبة الاميركيين خصوصا والغربيين عموماً.

وها نحن فيها.. شوارعنا مقفلة دون الوطنيين والتقدميين والشباب عدة التغيير، وقانوننا الانتخابي رجعي، ودولتنا مشلولة..

كأنما أريد بتأديبنا ان يكون درساً رادعاً للعرب عن المقاومة وللدولة ان تكون لشعبها،

لكأن المناضلين قد أحيلوا الى التقاعد المبكر.. وأخليت الساحة للطائفيين والمذهبيين.. والمحكمة الدولية لمن عصا، والاتهام بإثارة الفتنة لمن شكك في القرار الدولي سواء أكان رقمه 1559 او 1701 أو كل تلك التي أخضعت لبنان (وسوريا إلى حد كبير) للمحاكمة الدولية.

ـ 6ـ

أيها الأصدقاء،

هل من الضروري ان نعمق الجرح فنقول ان دول الشمال الأفريقي العربية تسابق دول المشرق والخليج في العودة الى بيت الطاعة الغربي، بقيادة أميركا الآن، راضية مرضية، وقد أعادت هويتها العربية الى المتحف... فالجوع كافر، والعروبة لا تطعم خبزاً.

أما المغرب فله عين على أوروبا وأخرى على أميركا عبر الأطلسي وتكاد علاقاته العربية ان تكون بروتوكولية. حتى حركته الشعبية التي مدت في الخمسينات والستينات جسوراً الى المشرق عبر مصر عبد الناصر والأحزاب القومية في سوريا والعراق ولبنان، ورفعت فلسطين راية للتحرر، تهاوت عبر النكسات والهزائم حتى لتكاد تندثر. لم نعرف وريثاً سياسياً لعلال الفاسي ولا لقياديي الاتحاد الاشتراكي او الاتحاد المغربي للشغل: المهدي بن بركه، عبدالله إبراهيم، الصديق المحجوب.

وأما تونس فقد أبعدت نفسها دائماً عن مشاكل المشارقة. مرة واحدة جاء الحبيب بورقيبة يعرض مشروعاً اعتبر مدخلاً الى الخيانة، فهوجم بالبيض والبندورة، فعاد الى بلاده الخضراء وأغلقها، ولم يقبل بعدها عربياً إلا كلاجىء: جامعة الدول العربية بعدما أخرجتها من القاهرة زيارة العار التي ارتكبها الرئيس المصري الراحل أنور السادات الى الكيان الصهيوني في خريف 1977، ثم المقاومة الفلسطينية بعدما أخرجها الاجتياح الإسرائيلي من لبنان في صيف العام 1982.

وها هي تونس الآن يصادم شعبها نظامه الدكتاتوري فلا يجد الا محطتين خليجيتين لنقل اخباره التي تكاد تكسر جدار الصمت ثم يعيد بناءه اليأس: سيتعبون، وسيجري "الزين" تعديلاً وزارياً ويعدم بعض اهل الشغب الذين لن يجدوا نصيرا! ثم تختفي اخبار تونس عربياً حتى انتفاضة جديدة نقرأ عنها في صحف فرنسا.

-7-

وأما ليبيا فحكايتها اغرب من الخيال: من ثورة كانت " القدس" كلمة السر فيها، الى عدد غير متناه من مشاريع الوحدة والاتحاد، مع مصر وسوريا والسودان، مع تونس ومع الجزائر، فإلى الاتحاد المغاربي... فإلى الاتحاد الأفريقي الذي جعل من الثائر القومي الفتى معمر القذافي ملك ملوك افريقيا. ومن " طزطز في اميركا" الى السعي الحثيث الى مصالحتها بأي ثمن، حتى تم المراد باستقبال كونداليزا رايس في مبنى مجلس قيادة الثورة المهدم بالقصف الاميركي عام 1981... وأمامه الخيمة الدالة على الاصالة ولبس عباءة وتقر عيني.

هل نكمل الصورة بالسودان؟

بعد ثورة مايو 1969 التي قادها الجيش ( جعفر نميري) بالتحالف مع الحزب الشيوعي والاتحاد العام لنقابات العمال في السودان، وكان له زخم شعبي محترم، أقيم على عجل – وكتقليد أعمى لما هو قائم في مصر- تنظيم مماثل للاتحاد الاشتراكي، وتقرر ان يعد دستور جديد لجمهورية السودان الديمقراطية.

ولقد قدر لي ان اشهد جلسة للجمعية التأسيسية للتنظيم المستحدث على عجل مخصصة لمناقشة مشروع الدستور الجديد.

اعترف أنني صدمت حين دخلت الى القاعة الكبرى التي بناها الصينيون والتي تتسع لمئات المندوبين: كانت نسبة أصحاب الوجوه السمراء بل الزنوج، أكثر مما أتوقع بكثير، وان كانت تمثل فعلاً جزءاً أساسيا من شعب السودان.

بدأ الخلاف مع الكلمة الأولى لمن افتتح الجلسة: وقف من يطالب باعتماد الإنكليزية الى جانب العربية، لان حوالي أربعين في المائة من الأعضاء لا يفهمون العربية، ثم جاءت المفاجأة الثانية مع الاعتراض الثاني: وقف من يرفض النص على أن السودان جزء لا يتجزأ من الأمة العربية! وبعد جدال موجع احتدم حتى كاد يصل الى اشتباك، ابتدع احد الدهاة حلاً وسطاً بالقول: السودان جزء لا يتجزأ من الأمتين العربية والأفريقية..

والحقيقة ان شعب السودان شعوب، وان الدولة فيه دول، وان لكل دولة فيه دولاً في الغرب ترعاها وتحميها.

-8-

ولست هنا لأنفي عروبة السودان، لكن لألفت ان علينا التنبه الى طبيعة التكوين حيث العروبة وحدها لا تحدد هويته.

وها هو السودان يتمزق أمام عيوننا فلا يستهجن احد، ولا يسأل احد عن الأسباب، ولا يجد نظامه من يحاسبه، لان الأنظمة الأخرى ليست اكثر وحدوية منه ولا هي ارحم بشعوبها من مشيره..

-9-

أما في مصر فإن أهلها كانوا يعتبرون العرب عبئاً عليهم. وكانوا يفترضون ان عبد الناصر قد بدد ثروة مصر في الإنفاق على العرب والأفارقة من دون ان يتوقفوا عند المكانة الممتازة التي بلغتها مصر في عهده، عربياُ وبين دول عدم الانحياز، وفي العالم كله: إحنا عايزين نعيش يا بيه! مش عايزين أمجاد!

لم تكن للعروبة في نسختها الرسمية آثار طيبة على حياته، فانطوى في مصريته ينظر الى العرب بشيء من النفور، خصوصاً وهو يرى " نخبهم" في القاهرة تعيش حياة هانئة بين الفنادق الفخمة والعوامات وعلب الليل في شارع الهرم، وعلى حسابه غالباً ( ايام ان كان المناضلون في المشرق لاجئين سياسيين في القاهرة.)

أيها الأصدقاء،

البداية فلسطين. زماننا فلسطين، نتقدم في اتجاهها فيكون لنا او نتقهقر مهزومين فنخرج منه الى التيه.

قبل الهزيمة في فلسطين كانت العروبة شعراً يمتزج فيه التبشير بمستقبل زاهر مع المفاخرة بماض وصلتنا منه نتف من تراث ناله شيء من التشويه وصفحات متناثرة من مراحل تاريخية موغلة في القدم بحيث لا تفيدنا كثيراً في مستقبلنا.

وأهم مقياس للتراجع العربي هو القضية الفلسطينية.

يكفي ان نتأمل ما أصاب هذه القضية الجامعة بشعاراتها ولادة الفجر ومؤسساتها فتتوفر لنا محصلة مأساوية:

-10-

وقعت الهزيمة بينما العرب ، أقله في المشرق موزعون على كيانات سياسية مبتدعة حديثاً، قسمت ما كان موحداً بالطبيعة فصار بر الشام خمس دول ليس لاي منها سابق معرفة بالدولة، ولا هي تملك ان تكون دولة مستقلة. وهكذا فقد جاء رد فعلهم " بدويا" الى حد كبير ! هل نتحدث عن الجيوش، حينذاك عن المؤسسات، عن الإدارة، عن الجامعات؟! لا شيء إلا الحماسة، والا الشعور بالقهر والا الرغبة بالرد ولو على طريقة " يا فلسطين جينالك.."

أما العروبة! التي كان بدأ الجهد لبلورتها فكرياً كمشروع سياسي له مرتكزاته النظرية، فضلاً عن معطيات التاريخ والجغرافيا والمصالح، فكان عليها ان تباشر صراعاً مع الأنظمة المستولدة قيصرياً على حساب شعار الوحدة والطموح اليها.

ولقد أسقطت الهزيمة أهم الأنظمة المعنية بالصراع: في سوريا ثم في مصر، لكن ضعف المشروع القومي حول الأمر الى صراعات داخلية على السلطة، لا صلة لها بالعروبة حتى كشعار.

صارت فلسطين مبرر التغيير، لكن إسرائيل ظلت- بامكاناتها الهائلة وشبكة تحالفاتها الدولية- خارج التصور..

-11-

أيها الأصدقاء،

انتهت حرب تشرين المجيدة، في خريف 1973، بنصر عسكري لم يقدر له الاكتمال، وهزيمة سياسية ساحقة، أخرجت مصر من دورها العربي الذي لا يعوضه احد. ولم يفد القرار العربي في قمة الرباط باعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطينيين في تعويض غياب مصر التي اندفع رئيسها الراحل أنور السادات الى ما هو ابعد من الاعتراف فصالح إسرائيل ماسحاً عنها صورة العدو، وهو ما ستدفع منظمة التحرير ثمنه غالياً... وبين الهزيمة العسكرية والصلح مع العدو تفجرت الحرب الأهلية طاحنة في لبنان، وهي في بعض وجوهها لبنانية ولكنها في وجوهها الأخرى لبنانية – فلسطينية، وفي الحالتين: حرب أهلية عربية وحرب دولية على فلسطين وعلى النخب الوطنية والقومية والتقدمية في لبنان وعلى العرب في فلسطين.

قبل ذلك بسنتين كان صدام حسين قد اتخذ قراراً معززاً بتأييد عربي- دولي واضح بشن الحرب على ايران التي كانت الثورة الإسلامية قد أسقطت فيها الشاه وأعلنت الجمهورية بقيادة الإمام الخميني.

لم يكن صدام حسين وحده في تلك الحرب التي أعطاها اسم القادسية تمويهاً لطبيعتها، بل كانت خلفه قوى دولية كبرى تتصدرها الإدارة الاميركية ومعظم الغرب، أما التمويل فكان عربياً بامتياز...

وضعت العروبة، الآن، في مواجهة الإسلام وكان طبيعياً ان تكون "الدول" الغربية، وإسرائيل بالذات، هي المستفيد الأكبر من هذا الصدام الخطير الذي حاولوا عبره إيقاظ الفتنة الكبرى.

-12-

بالمقابل، فقد أفادت إسرائيل من هذا الانقسام العربي- الإسلامي المدمر فاجتاحت لبنان في صيف 1982 لطرد المقاومة الفلسطينية منه، وهي لم تجد بعده مأوى الا في تونس، بعيداً جداً عن فلسطين وعن مركز الاهتمام..فصارت لاجئاً سياسياً في المنفى البعيد، جنباً الى جنب مع جامعة الدول العربية التي استبقتها الهزيمة لتكون دار التلاقي بين العجزة مجدداً. وهو ما كان بعد حين!

وهنا كانت العروبة توضع في مواجهة الوطنية الفلسطينية وبالعكس، وكان الطرفان المتكاملان من حيث المبدأ يدفعان الثمن افتراقاً بالدم.

سقطت العروبة بالضربة القاضية بعدما صارت القضية الفلسطينية في عهدة الاحتلال الإسرائيلي، وبعدما فرضت عليها مواجهة غير مبررة مع الإسلام السياسي ممثلاً في ايران الثورة، لا شك ان المستفيد الأول منها كان مشروع الهيمنة الاميركية على المنطقة الذي سوف يتكامل مع الاحتلال الاميركي للعراق وتمزيق وحدة شعبه وأرضه وتحطيم كيانه السياسي في العام 2003.

.. وبعد احتلال العراق لم تعد دنيا العرب أرضا لأمة واحدة: تشظت وافترقت أقطارها وتقطعت الأواصر التي كانت تربطها، فإذا المغرب مغارب، والمشرق مشارق، أما الجزائر والخليج فقارة أخرى في البعيد يفصلها عن فقراء العرب أسوار من ذهب مدجج بالأساطيل الاميركية.

وعلى هامش آخر القمم العربية، التي تحولت الى صورة تذكارية جامدة يذهب الجهد من أجل عقدها بمضمونها المفترض، تصدى لي مسؤول كبير في دولة خليجية استولدت في قلب الذهب الأسود، ليقول لي بحدة:

- انتهى الأمر يا صديقي، لكم فلسطينكم ولنا فلسطيننا.. فهذه الجزر الثلاث هي فلسطيننا، تساندوننا فيها بداية فنساندكم هناك، فان امتنعتم فاذهبوا انتم وربكم واتركونا نبحث عمن يحمينا..

أيها الأصدقاء

لنعترف أن العرب هم أكثر من استهلك اوطاناً ودولاً ومنظمات تحرير بشعارات ثورية،

ولنعترف ان بعض من حملوا رايات الحركة الثورية العربية كانوا أشد على العرب من أعدائهم.

-13-

ولنعترف ان بعض التنظيمات التقدمية قد قاتلت العروبة طويلاً فلما اهتدت اليها كان لقاء المتعوس مع خائب الرجاء.

والآن، نجلس متوترين ونحن نرى العروبة تتحول الى سبة، بينما تتوزع الجماهير على طوائفها ومذاهبها، وينشق المسلمون عن الإسلام بالتطرف الأصولي ويأخذهم الحول السياسي الى قتال العروبة والوطنية فتخلو الساحة لإسرائيل والهيمنة الاميركية ترفرف براياتها فوق إمارات الطوائف.

أيها الأصدقاء،

لقد أتعبتكم وأتعبتموني، لذا اختم فأقول: لا أمل الا بالعروبة، لا خلاص الا بالعروبة، في لبنان كما في مصر، في اليمن المهددة وحدته، وفي السودان المشطر دولاً بين القبائل، وفي المغرب العربي حيث تأخذ الأصوليات الى -التمزيق العرقي، وفي العراق تحت الاحتلال الاميركي الذي يكاد يفقد مع الكيان

-14-

السياسي هويته العربية القادرة والمؤهلة على أنصاف الأقليات، عرقية كانت او طائفية.

وعبر التجربة الفذة للمقاومة المجاهدة في لبنان فان المواجهة ممكنة والنصر مؤكد، إذا ما احترمت كرامة الإنسان العربي، وإذا ما سمح له بأن يبذل جهده وقدراته وصولاً الى حياته في سبيل حرية أرضه وتأكيد هويتها العربية بدمائه.

إن العروبة هي الحل لفلسطين اولاً التي تكاد هويتها الوطنية تندثر، وكلما شحبت فلسطين تهاوت العروبة كعقيدة وبوابة للمستقبل واكتسب المشروع الإسرائيلي مزيداً من القوة والمشروعية العملية بسبب تهاوي المشروع الأصلي لأصحاب الأرض والماضي والحاضر والمستقبل، لو أنهم حفظوه...

والعروبة هي الحل لمصر التي لا يعوض غيابها احد، والتي أخذتها الغربة عن العروبة بعيداً حتى بات يصعب التعرف اليها، وهي الدولة – الأم التي يتهدد مستقبلها من دون العرب كما يفقد العرب توازنهم في غيابها.

والعروبة هي الحل في سوريا وفي الأردن وفي لبنان، فهي الرباط المقدس بين هذه الأقوام التي ان هي تاهت عن هويتها عادت عشائر وقبائل ببطون وأفخاذ مقتتلة، بما يسهل على أية قوة وافدة ان تأخذ العرب بالمفرق الى هاوية النسيان.

والعروبة ليست خطابات حماسية وأناشيد للمناسبات، ولكنها مشروع حضاري معاصر لا بد ان تتوفر على وضعه النخب الدارسة والعارفة من أبناء هذه الأمة ممن استوعبوا التجارب الغنية التي عاشتها في قلب الصراع مع الذات ومع العدو ومع قوى الهيمنة.

وهناك محاولات جادة لإنجاز هذا المشروع يعمل عليها نخبة من المفكرين المثقلين بهم المستقبل، والذين استوعبوا دروس الماضي، من دون ان يسقطوا في اسر السلطان او تبهرهم حتى تعميهم الديمقراطية كما نراها في الغرب، والتي هي نتاج مجتمعات أخرى تختلف عن مجتمعاتنا في كل شيء، وكان من حسن حظها أنها أنجزت ثوراتها بينما العالم البعيد في شغل شاغل عنها بينما هو يشغلنا في بيوتنا حتى عن أبنائنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

..

طلال سـلمان

..

كلمة ألقاها في اللقاء الحواري في المجلس الثقـافي للبنان الجنوبي في 30 ك1 2010

تعليقات: