الإعلام الهَشّ ..


غنية هي صورة الإعلام سيما المرئي منه, وليس سخرية القول إننا نسجل تقدّماً وتفوّقا من خلال ما تعرضه شاشاتنا الصغيرة من برامج "التنكيت" المبتذلة والتي تخدش ما تبقّى من حياء عام في المجتمع وتسوّق لمفاهيم وإيحاءات جنسيّة رخيصة, كما تروّج بأسلوب الدعابة المصطنعة إلى آفات مسلكية يعاني منها شبابنا وشابّاتنا كآفة المخدرات من خلال تداول مصطلحات "الحشيش والمحشّش" وغيرها مما يوحي بتطبيع واقع الإدمان والتعاطي مع مدمني الحشيش أو تجّاره على أنّهم فاكهة المجتمع وصورته الجميلة المحبّبة .

هذه الفوضى الإعلامية تجري على مرأى ومسمع المجتمع الأهلي المنقسم على نفسه إمّا إلى مؤيّد ومشجّع أو إلى ناقم ومعارض, والمشكلة أنَّ أجهزة الرقابة ومن يفترض بهم أن يكونوا العين الساهرة على تنقية المواد التلفزيونية وفلترتها يقفون موقف الصامت المحايد إن لم يكونوا هم أنفسهم معجبين ومأخوذين بتلك البضاعة البخسة .

ولا عجب أمام هذا التسيّب الإعلامي الفاضح أن نجد أبناءنا وبناتنا يتداولون فيما بينهم في المدارس والجامعات آخر النكات التي تعلموها من برامج التثقيف, أو يتقمّصون صور بعض الشخصيات الهزلية المفرغة من أيِّ مضمون علميّ أو قيمة ثقافية أو أخلاقية ..

وإلى جانب البرامج التهريجية تصطّف قائمة طويلة من المواد الغنائية الإباحية والمسلسلات البعيدة عن الرسالية الإنسانية, والتي لا يصلح توصيفها إلا بكونها استعراضاً لآخر مبتكرات عيادات التجميل ومراكز التصنيع الحديثة ..

هكذا نتجرّع سموم الإعلام التجاريّ على مدار السنة إلى أن نكون في ليلتها الأخيرة على موعد مع الشعوذة والإستخفاف بالعقول, على موعد مع التنبّؤ والمتنبئين من أصحاب الصور والإلهام الحصري, الذين يطلّون علينا كملائكة منزلين يحملون أسرار الكون, ويستشرفون المستقبل, ويحدّدون الأحداث بالتوقيت الدقيق. ويصل الأمر ببعض منهم إلى استخلاص الحالة الصحية التي سيكون عليها بعض المشاهير من الزعماء والملوك ,ويوقتون حياتهم ومماتهم, كما ينبري البعض إلى قراءة الأفلاك والنجوم ويحدّثك بلسان الواثق المطمئن عن انعكاسات الكواكب والأبراج على الحياة والمستقبل والأحوال الزوجية والعائلية و الظروف المالية , وهؤلاء الكسبة مندفعون بدجلهم إمّا لاستخفافهم بوعي النّاس, أو ثقة باستسلامهم وتعبهم وتعلّقهم حتّى بالخرافة خشبة خلاص مما يعانون منه من فقر واهتزاز اقتصاديّ وأمنيّ واجتماعي .

بهذا يكتمل المشهد الإعلامي ظلامية وهشاشة, وتساهم التكنولوجيا الحديثة بتأثيراتها الكبيرة في تجهيل الناس وانحلالهم وتحويلهم إلى جمهور لا يملك إلا الضحك على البذاءة أو التعلّق بالوهم, وأرى أنّ هذا الواقع خطيرٌ جداً وتداعياته السلبية ستكون بارزة على التكوين التربويّ والأخلاقي للجيل الذي نتطلّع إليه بعين الأمل ليكون منقذاً ومجدّداً ومخلّصاً من معاناة الحاضر المعاش, حبّذا لو يشاركنا القيّمون على الإعلام خوفنا وحرصنا ويعملوا على تحويل قنواتهم إلى منابر للتربية والتعليم والثقافة , ويسخّروا إمكانياتهم في سبيل بناء الإنسان وتشييد بناء الحضارة, لتحفظ لهم مساهمتهم الفاعلة في كتابة التاريخ المشرّف والمجد التليد .

بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو

Cheikh_kanso@hotmail.com

تعليقات: