الضلع الثالث في «مثلّث العدوان»: الصحافة في قفص الاتّهام

صحافيون إسرائيليون خلال تغطيتهم لمؤتمر صحافي في القدس المحتلّة (أرشيف - أ ب)
صحافيون إسرائيليون خلال تغطيتهم لمؤتمر صحافي في القدس المحتلّة (أرشيف - أ ب)


احتل أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال العدوان على لبنان، حيزاً واسعاً من النقاش العام داخل إسرائيل، حيث تركز هذا النقاش في محورين متناقضين.ذهب أصحاب المحور الأول إلى وضع وسائل الإعلام الإسرائيلية في قفض الاتهام بحجة أن تغطيتها للحرب كانت تغطية غير وطنية وغير مسؤولة، الأمر الذي شكل، بنظر هؤلاء، خطراً أمنياً مباشراً ومساً بالأمن القومي الإسرائيلي خلال الحرب. أما مؤيدو المحور الثاني، وهم أقلية، فرأوا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تجندت بالكامل في المعركة، الى جانب المستويين السياسي والعسكري، بل إنها وقفت إلى يمين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي من خلال حثها إياهم على استخدام المزيد من القوة والعنف، وأنها تجاوزت دورها وواجبها المهني والأخلاقي من خلال أدائها التحريضي، وتجنّب ترشيد وتوجيه المستويين السياسي والعسكري على حد سواء

مما لا شك فيه أن التغطية الإعلامية للحرب كانت إشكالية جداً بالنسبة إلى الصحافيين الإسرائيليين ووسائلهم، ذلك أنهم وجدوا أنفسهم أمام معضلة التوفيق بين تطبيق المعايير المهنية والأخلاقية والحفاظ على عنصر الصدقية وبالتالي على نسبة المشاهدة من جهة، وبين أداء دور إيجابي في الحرب الدائرة من خلال الدخول فيها طرفاً يتجند للحرب التي تخوضها «الدولة» ضد

أعدائها.

ويمكن القول إن هذه الإشكالية وهذه المعضلة كانت وراء تفجر السجال الحاد في الأوساط الإسرائيلية حول أداء الإعلام إلى درجة دفع البعض إلى تحميل هذا الإعلام مسؤولية الفشل في الحرب، متناسين مسؤولية المستويين العسكري والسياسي، وبالتالي تحويل هذا الإعلام إلى كبش فداء.

وما زاد الطين بلة وفاقم من حدة هذه الإشكالية، هو إجماع المراقبين على أن «حرب لبنان الثانية» كانت حرباً إعلامية بامتياز، بمعنى أن التغطية الإعلامية التي حظيت بها كانت الأوسع والأكبر في تاريخ الحروب التي خاضتها إسرائيل، ما دفع البعض إلى وصفها بأنها «حرب في بث حي».

وانعكست حدة النقاش وأهميته حول أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية، في عدد كبير من الأبحاث والمقالات والتقارير التي تناولت هذا الموضوع، والتي شهدت اتهامات متبادلة بين من يحمّل وسائل الإعلام مسؤولية ما عن الفشل، وبين من يدافع عنها. ومن جملة الاتهامات التي سيقت ضد وسائل الإعلام القول إنها تجاوزت الخطوط الحمراء كلها، وأنها تصرفت بانعدام مسؤولية لامس حد الخيانة، وأنها قدمت إلى العدو خدمات هامة أثناء الحرب، بسبب المعلومات السرية التي كان يحصل عليها حزب الله من تقارير هذه الوسائل، وخاصة أن لدى الحزب «عشرات الأشخاص الذين يجيدون اللغة العبرية، والذين يتنصتون إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية ويترجمون المواد في الوقت المناسب» بحسب تعبير مدير قسم القدس في صحيفة «معاريف»، يوسي ليفي.

وبحسب أصحاب هذه الرؤية، فقد ساهمت وسائل الإعلام أيضاً في تراجع معنويات الإسرائيليين، في مقابل تقديم سلاح إعلامي ودعائي الى حزب الله، وذلك لاعتبارات تتعلق بزيادة نسبة المشاهدين وتحقيق قدر أكبر من الأرباح (شوكي تاوسينغ، مجلة «العين السابعة»، العدد 64).

وثمة من ذهب أبعد من ذلك، عندما حمل وسائل الإعلام المسؤولية المباشرة عن بعض الضربات والخسائر التي تعرض لها الجيش الإسرائيلي، حيث جرت الإشارة بشكل خاص إلى حادثة مستوطنة كفر غلعادي، التي قُتل فيها نحو 12 جندياً إسرائيلياً، وكذلك حادثة إسقاط المروحية الإسرائيلية في جنوب لبنان ومقتل خمسة من طاقمها.

في المقابل، دافع عدد من الصحافيين، ولا سيما المراسلون العسكريون، عن أدائهم وأداء وسائلهم. وفي هذا السياق، قال المعلق العسكري للقناة التلفزيونية الإسرائيلية العاشرة، ألون بن دافيد، «كانت تلك حرباً غير ناجحة؛ وقد عكسناها (كما هي). كانت بكلّ بساطة حرباً غير ناجحة... وأقول إنّ الإعلام عَكَسَ حرباً لم تكن جيدة. وقد خرج الناس بعد 33 يوماً من الملاجئ وهم خائبو الأمل جداً من نتائج الحرب».

ورفض المعلق العسكري للقناة الأولى يوآب ليمور، التهم المشار إليها، قائلاً «نحن الصحافيين نوفر المعلومات، ولسنا من يوجدها. هذه وظيفة وسائل الإعلام في الأنظمة الديموقراطية. نحن نعمل كرسل، وإطلاق النار على الرسول هو حل سيئ. لم نسلم أي معلومات إلى العدو، هذا هراء. المعلومات كلها سُلمت في المؤتمرات الصحافية اليومية، وفي المحادثات مع ضباط كبار. لقد كان العدو مستعداً لمواجهتنا لأنه أجرى مراجعة داخلية واستعد وليس لأنه شاهد أخبار القناة الأولى. أسهل شيء الادعاء أننا لم ننتصر بسبب وسائل الإعلام، لكن الحقيقة المؤسفة هي أننا لم ننتصر بسبب إخفاقات وفشل في المستويين السياسي والعسكري».

بدورها، قالت المراسلة العسكرية للإذاعة الإسرائيلية، كرميلا مناشيه، إنها تعتقد بأن الكثير من الناس بحثوا عن متنفس لمشاعر الإحباط والألم التي تراكمت لديهم بسبب الأحداث الصعبة، وبالتالي حولوا وسائل الإعلام إلى «كيس ملاكمة» وإلى «كبش

فداء».

وبحسب مناشيه، فإن الفشل والإخفاق العسكري لم يحصلا بسبب الصحف، بل بسبب السلوك السياسي والعسكري. وأضافت أن «وسائل الإعلام تُشكل هدفاً سهلاً، ولذلك ثمة من يحاول تحميلها مسؤولية كل

شيء».

وإلى جانب تبادل الاتهامات، برز العديد من الدراسات التي حاولت تقديم مقاربة موضوعية وأكاديمية للأداء الإعلامي خلال الحرب. ومن أهم ما صدر في هذا المجال بحث إسرائيلي مقتضب، نُشر في كانون الثاني 2007، هو الأول في إطار سلسلة خاصة حول «الإعلام في حرب لبنان 2006»، بدأت بنشرها «مدرسة روتشيلد ــــ قيسارية للإعلام في جامعة تل أبيب».

وجاء البحث تحت عنوان «النقد الجماهيري للإعلام الإسرائيلي في حرب لبنان»، وهو يستهدف أساساً، كما يقول مُعدُّه البروفيسور غابي فايمان، تشخيص ملامح بؤر النقد في شأن أداء الإعلام الإسرائيلي إبان تلك الحرب، وذلك من خلال تحليل منابر الخطاب الجماهيري.

يؤكد كاتب البحث، وهو أستاذ في قسم الإعلام في جامعة حيفا ومستشار معتمد للإعلام الجماهيري، أنّ «حرب لبنان الثانية أثارت عاصفة جماهيرية غير مسبوقة. وفي إطار ذلك، وُجّهت إلى الإعلام الإسرائيلي اتهامات كثيرة، من أوساط واسعة بين الجمهور، وكذلك من المؤسسة الأكاديمية والسياسية والعسكرية، ومن وسائل الإعلام نفسها، تُحمله سلسلة من الإخفاقات والقصورات والأخطاء والتجاوزات». ويضيف أنّ المعطيات التي توصّل إليها تشير إلى توافر نقد واسع وعميق وحادّ لأداء الإعلام في أيام الحرب.

وبحسب رأيه، فقد تضافرت عوامل عديدة خلف ذلك. ومن بين هذه العوامل، يخصّ الباحث بالذكر، بدايةً، سلوك الإعلام الإسرائيلي في أثناء الحرب، الذي تميّز أكثر من أيِّ شيء آخر «بإطلاق مقولات غير حذرة وتفاؤل مبالغ فيه وتفصيل زائد عن تحرّكات القوات العسكرية والعمليات الحربية». وتميّز أيضاً بالاعتماد على مُعلقين ذوي معلومات «يعلوها الصدأ»، وليست مُستجدة، وعلى ثرثرة كبيرة استدعتها على ما يبدو ساعات البث الحيّ الطويلة، غير المبرّرة في غالبية الأحيان.

أما العامل الآخر فيتمثل في «حقيقة أن من السهل إظهار الودّ لوسائل إعلام تجلب الأخبار الطيبة، مثلما من السهل مقت وسائل الإعلام التي تكون أنباؤها سيئة، جملة وتفصيلاً. ومن المعروف أنه في الحرب على لبنان، كان الإعلام الإسرائيلي نذيرَ أخبار السوء، سواء عن القتلى والمصابين والأضرار أو عن القصورات والإخفاقات».

وهناك عامل ثالث يقف وراء اتساع دائرة النقد الجماهيري لوسائل الإعلام الإسرائيلية خلال حرب لبنان، هو أنّ «الجمهور الواسع يرى في هذه الوسائل جزءاً من المؤسسة الحاكمة، أي جزءاً من الأجواء الرسمية، من جهة، وكذلك يرى فيها حصن الإجماع ورمزه الفاقع، من جهة أخرى. ولذا، فإنّ خيبة الأمل منها تبقى جزءاً من خيبة الأمل الأهمّ والأعمّ من المؤسسة الحاكمة، التي مُنيت بالفشل الذريع في كل مهماتها».

وثمة عنصر آخر يشير إليه الباحث، بشكل خاص، وهو أن «إسرائيل واجهت في هذه الحرب خصماً إعلامياً ذكياً ومتطوراً ذا قدرات إعلامية وبنية تحتية إعلامية لم تعرف إسرائيل مثيلاً لها في تاريخها». ويؤكد أنّ «حزب الله كان خصماً أشدّ ذكاءً، من جميع الخصوم». ويشير كذلك إلى عامل أخير هو التكنولوجيا الإعلامية المتطورة في السنوات الأخيرة، التي جعلت الحرب في صيف 2006 «الحرب الأشدّ إعلامية» من أية حرب سابقة في تاريخ الدولة العبرية.

كان يمكن للسجال حول الأداء الإعلامي أن يبقى مفتوحاً من دون حسم، بيد أن واقع السجال وحدّته دفعا مجالس الصحافة إلى تأليف لجنة خاصة بعد انتهاء الحرب، في السادس من أيلول، سُميت «لجنة تحديد القواعد الأخلاقية للمهنة خلال الحرب»، ومهمتها بت الاتهامات التي وُجهت إلى وسائل الإعلام.

وتوصلت اللجنة الى نتيجة حاسمة تفيد بـ«براءة» وسائل الإعلام الإسرائيلية من تهمة «الموضوعية والمهنية»، وتؤكد «وطنيتها وعملها ضمن الضوابط» من خلال التأكيد على أنها تعاونت فوق المتوقع مع الرقابة العسكرية.

ويظهر من النتائج التي توصلت إليها اللجنة أنه فيما «كان الجمهور الإسرائيلي يعتقد أن وسائل الإعلام مذنبة أكثر من أي جهة أخرى، تبيّن أن وسائل الإعلام هذه غير مذنبة، ولا حتى بشكل جزئي». والدليل على ذلك موجود في شهادة رئيسة الرقابة العسكرية أمام اللجنة، التي قالت فيها إن «الصحافة تعاونت مع تعليماتها فوق المتوقع، وليس هناك أي أساس للادعاء بأنها نقلت أسراراً عسكرية، أو ساعدت حزب الله على تصويب نيرانه. الانطباع الذي تولد لدى الجمهور كان مغلوطاً وهو يعود إلى حالة السخط لديه».

كما أوردت رئيسة اللجنة، القاضية داليا دورنر، في تقريرها، أنه لا أساس من الصحة للتهم التي وُجهت الى وسائل الإعلام، والتي يعود سببها «إلى نتائج الحرب، وإلى كون الجمهور المُحبط غضب من المبعوث الذي يجلب الأخبار السيئة، وهو وسائل الإعلام».

وتوصلت اللجنة إلى أنه «برغم أن البث المباشر من مكان سقوط الكاتيوشا لم يمس بأمن السكان، إلا أن الرقابة العسكرية رأت من الصواب منع نشر مكان الإصابة خضوعاً لتخوف سكان الشمال من تصويب أكثر دقة في المستقبل. لعله كان ينبغي للجيش الاسرائيلي أن يوضح عدم وجود أي خطر، بدل أن يحجب المعلومات». هنا أيضاً كانت وسائل الإعلام مجرد وسيط مطيع بين الجمهور والجيش الاسرائيلي، بحسب «هآرتس»، التي علقت في إحدى افتتاحياتها التي تلت صدور نتائج لجنة مجلس الصحافة، على تقرير اللجنة، فأكدت أن وسائل الإعلام «أوصلت إلى كل بيت، في الوقت الحقيقي، التشويش، والنقص، وفشل القيادة المحلية وانعدام الأهداف العسكرية والسياسية للحرب، وذلك قبل وقت كثير من فهم ذوي الشأن الوضع على حاله». وأضافت الصحيفة «إذا كان هناك إخفاق إعلامي، فقد يعود بالتحديد إلى عدم وجود النقد الكافي في الأسبوع الأول من الحرب. الحرب كانت ربما ستنتهي قبل ذلك لو أن وسائل الإعلام لم تسلم نفسها طواعية لاستعراضات الضباط الذين تقدموا بعرض زائف للإنجازات».

لقد برأت لجنة الصحافة وسائل الإعلام من تهمة تحمل مسؤولية الفشل عن العدوان على لبنان، وبالتالي حرمت المستوى السياسي والعسكري من تحويلها إلى كبش فداء. وليس مهماً إذا كان هذا الأمر قد تم على حساب سمعة ومهنية وأخلاقية وسائل الإعلام، التي إذا كانت التهمة الأولى أدت إلى تشكيل لجنة تحقيق لإثبات براءتها، فإن التهمة الثانية، تهمة التحريض على القتل والجرائم وعدم الموضوعية، هي الأولى بأن تُشكل حافزاً لتأليف لجنة كهذه.

بيد أن حقيقة عدم تأليفها، وعدم دعوة أحد إلى تأليفها، يعكس حقيقة الدور الذي ترغب وسائل الإعلام تلك في أن تؤديه، والدور المطلوب منها أن تقوم به، وهو دور التجند التام لمصلحة الأهداف التي يحددها المستويان العسكري والسياسي في إسرائيل، ولتكون بذلك الضلع الثالث في مثلث الحرب والعدوان، ولتكون عنصراً من عناصره، لا يقل أهمية من العنصرين السياسي والعسكري.

المراسل العسكري الإسرائيلي شاي حزكاني يظهر<br>خلال الأخبار عبر تلفزيون المنار نقلاً<br>عن التلفزيون الإسرائيلي
المراسل العسكري الإسرائيلي شاي حزكاني يظهر
خلال الأخبار عبر تلفزيون المنار نقلاً
عن التلفزيون الإسرائيلي


حوار على القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي
حوار على القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي


تعليقات: