شباب الفايسبوك في لبنان سيحققون ما عجز جيلنا عن تحقيقه +Video

سباحة إلى العدليّة... لإسقاط الطائفيّة
سباحة إلى العدليّة... لإسقاط الطائفيّة


شبّان لبنان المثقفون، الحريصون على مستقبلهم وعلى مستقبل الوطن، جمعهم الفايسبوك... تلاقوا في مركز تيّار المجتمع المدني في بدارو يوم الثلاثاء المنصرم، إجتمعوا، تداولوا الآراء، حددوا أهدافهم وقرروا التحرك السلمي لإلغاء النظام الطائفي ومكافحة الفساد.. فكانت مظاهرتهم التي انطلقت أمس الأحد رغم المطر الشديد.

إنهم الشبّان العلمانيون المعادون للطائفية والمذهبية...

فهل سلتقى صرختهم آذىاناً صاغية؟

لا بد من القول أن هؤلاء الشبّان نالوا إعجابنا وتقديرنا ونحن على ثقة بأن هذا الجيل قادر على تحقيق ما عجز جيلنا عن تحقيقه بفضل إيمانهم وبسبب القدرة الهائلة على التواصل فيما بينهم عبر الفايسبوك والتويتر والمواقع الألكترونية والتقنيات الحديثة الأخرى والتي كانت غير متوفرة على أيامنا لما كنّا في سنّ الشباب.

تقرير فيديو مصوّر لمسيرة شباب الفايسبوك في لبنان المطالبة بإسقاط النظام الطائفي

كتبت جريدة الأخبار:

سباحة إلى العدليّة... لإسقاط الطائفيّة

بسام القنطار

بحّت الحناجر وهي تصرخ «ثورة». ثورة على كل شيء (بلال جاويش)يستحق «شباب الفايسبوك» أن ترفع لهم القبّعات. أولاً لأنهم غادروا الفايسبوك الى كنيسة مار مخايل، واجتمعوا هناك بالمئات، مواطنين ومواطنات، في تظاهرة «من أجل إسقاط النظام الطائفي في لبنان»

سيكتب الكثير عن تظاهرة «من أجل إسقاط النظام الطائفي في لبنان». عن هذا الحراك المدني الاستثنائي في طقس عاصف، الذي تجاوز، كل من خوّن، وشكك، وهدد، وحرّض، ورهّب، وصولاً الى من خطف نشطاء كانوا يوزعون منشوراً يدعو الى المشاركة.

لكن، تكفي متابعة 4100 تعليق على موقع المجموعة على الفايسبوك، لكي يتضح بأن العالم الافتراضي، يستضيف حواراً وطنياً ديموقراطياً، أكثر عمقاً وصراحة من حوار زعماء الطوائف في الغرف المغلقة.

«سباحة سباحة على العدليّة، كرمال عيون العلمانيّة. سباحة سباحة على العدلية، نكاية بكل الطائفية». ساعة ونصف ساعة استغرقتها المسيرة، لم يتوقف فيها المطر دقيقة واحدة، بل إن الزخات كانت تقوى في بعض الوقت، لتحول الشوارع التي سلكتها التظاهرة الى نهر من المياه.

اختلفت تقديرات أعداد المشاركين. فالمتحمسون قالوا: 4 آلاف، والمتفائلون قالوا: 3 آلاف. لكن الأكيد، أن التظاهرة كانت تضم أكثر من 1500 «سبّيح»، كان أولها في الطيونة وآخرها عند بيروت مول. نورد هذا الرقم الأقرب الى الواقع، كي لا ينسى المنظّمون أن 12500 مشارك على الفايسبوك حضر 10 في المئة منهم فعلياً، وأن ليس كل من نقر زرّ «سأحضر» وهو يجلس خلف شاشة جهازه، في لبنان والخارج، سوف يحضر فعلياً ويهتف «الشعب يريد إسقاط النظام».

شعارات كثيرة رددها المشاركون. أغلبها جرى التصويت عليها مسبقاً في الاجتماعات التحضيرية، التي عقدت في مقر تيار المجتمع المدني في بدارو، وأذيعت على مكبرات الصوت التي وضعت على شاحنة بيضاء تقدمت المسيرة.

بحّت الحناجر وهي تصرخ «ثورة». ثورة على كل شيء. على النظام الطائفي ورموزه. على أمراء الحرب والطوائف. على نظام المحاصصة والتوريث السياسي. على الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي، والبطالة، والهجرة والفقر والتهميش. ومن الهتافات «ثورة ثورة في كل مكان إجا دورك يا لبنان». ولم ينسَ المشاركون توجيه التحيات الى الثورات العربية: «مع المصرية... ثورة، ومع اليمنية... ثورة. مع البحرين... ثورة ومع الليبية... ثورة».

أما مطالب المشاركين فقد وزعت في بيان أهمها: «دولة علمانيّة مدنيّة ديموقراطيّة. والحق في العيش الكريم لكل المواطنين من خلال رفع الحد الأدنى للأجور. وخفض أسعار المواد الأساسيّة والمحروقات. تعزيز التعليم الرسمي. وتكافؤ فرص العمل وإلغاء المحسوبيّة، الوساطة، والرشى. والحق في المسكن اللائق وتعزيز الضمان الاجتماعي وإقرار ضمان الشيخوخة». وللمواطنين الذين أطلّوا من الشرفات هتف المشاركون: «يلّي قاعد ع البلكون انزل شوف شعبك هون». «لا 14 ولا 8 نحنا الشعب اللبناني». ويكمل المشاركون تعريف أنفسهم: «نحنا حركة مدنية، نحنا حركة سلمية ضد الرجعية والطائفية». إحدى المشاركات اختارت لنفسها حمل لافتة كتب عليها «كرّهتونا بشهر آذار... أنا بقاتل إسرائيل وبشرب كاس».

■ صور من التحرك واكبت المسيرة سيارة للقوى الأمنية، وثلاثة دراجين، وجيب مدني يضم عناصر من فرع المعلومات. فهود مكافحة الشغب ومغاوير الجيش كانوا يحتمون من المطر تحت جسر العدلية. أما وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال زياد بارود فأعلن في تصريح لـ«النشرة» أنه «لو لم أكن بالموقع الرسمي لكنت شاركت بالتظاهرة». إعلان استدعى زخماً من التعليقات طالبت الوزير بالاستقالة فوراً والانضمام إلى «الثوار».

شعور بالفرح والتفاؤل والثقة بالنفس ساد المشاركين، بعدما اختتموا نشاطهم تحت جسر العدلية ورفعوا أيديهم تحية للعلم اللبناني والنشيد الوطني. القلق من تجيير التحرك لفريق واحد كان بادياً في مقدمة التظاهرة التي احتلها شباب مستقلّون وضعوا بادج كتب عليه «مواطن منظّم». وكذلك في التسابق على اعتلاء الشاحنة التي حملت مكبرات الصوت. لكن ما كتبه ماهر دياب تعليقاً على مشاركته يشي بهواجس من نوع آخر كاعتراضه على ما سمّاه «الجانب السوقي من الشعارات متل «كلاب الطائفية» وهي عبارات «صار لازم يكون لها رديف متل كلاب العلمانية» مثلاً. على حد قوله.

اعتراضات أخرى برزت في التعليقات، أهمها أن «الحملة تريد معالجة النتيجة (النظام الطائفي)، بينما نعتقد في رأينا المتواضع أنه يجب معالجة أساس المشكلة (الطائفية) التي نجدها في المجتمع والنفوس وأماكن العمل والدراسة وطريقة التصرّف. كما كتب نينار في مدونته: «أي إصلاح يأتي من تظاهرة سيسقط في تظاهرة طائفية مضادة في اليوم التالي. كما أن إلغاء النظام الطائفي في ظلّ شعب طائفي لا يعني نهاية الطائفية».

وجوه بعض كتّاب 14 آذار كانت في المسيرة. مشاركة شخصية لم تستفزّ المشاركين غير الحزبيين. لكن الاستفزاز جاء من قناة أخبار المستقبل التي بثت تقريراً عن التظاهرة، تحدث فيه مسؤول شبابي من تيار المستقبل باسم التحرّك وباسم المشاركين فيه. وتعليقاً على التقرير أوضح بيان باسم «المواطنين والمواطنات والمجموعات الشبابية والطلابية والمستقلين والمستقلات، الذين واللواتي نظّموا ونظّمن هذا التحرّك، يؤكد ويكرر مجدداً «أننا لا ننتمي لا لقوى ١٤ آذار ولا لقوى ٨ آذار أو لأي اصطفاف طائفي، وكل محاولة من أي حزب أو تنظيم سياسي لتجيير أو استخدام هذا التحرّك من أجل مآرب طائفية وسياسية ضيّقة هي مرفوضة ومستهجنة، وخاصة أن شعار التحرّك هو إسقاط النظام الطائفي وجميع رموزه».

في المقابل، لم يكن ردّ فعل أنصار فريق 8 آذار أقلّ حجماً. فلقد زخر موقع فايسبوك بمئات التعليقات التي اتهمت المنظّمين بأنهم «عملاء». ولم تتوان إحدى المشاركات عن السؤال: «أعلن الرئيس الإسرائيلي منذ أسابيع أن سقوط حزب الله سيكون على أيدي الشعب اللبناني، هل يقصد على أيدي هذه التحركات المشبوهة ومن يقف وراءها؟ أما علي الزين فكتب: «أنا مع إلغاء الطائفية السياسية ومع علمنة المجتمع في لبنان، لكني أيضاً ضد إسرائيل وضد وجودها، وبعض الناس يستخدمون هذه الشعارات للأسف فقط للنيل من المقاومة».

هذا على الفايسبوك، أما في الميدان فأثناء قيام عدد من النشطاء بتوزيع قصاصات تدعو إلى التحرك والمشاركة الشبابية في التظاهرة في منطقة طريق صيدا القديمة، أقدمت مجموعة مدنية داخل سيارة على اختطافهم واقتيادهم الى مكان مجهول في الشياح، إذ عمدوا الى ضربهم وتوجيه السباب والشتائم لهم، وتهديدهم بالتوقف عن النشاط، وإلغاء التظاهرة، قبل إطلاق سراحهم بعد ثلاث ساعات».

قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني، أصدر بياناً «أدان بشدة هذا العمل الفردي ـــ الأمني غير المسؤول، ورأى أن عمل خفافيش الليل لن يرهب رفاقنا ولا حزبنا (...) ولن تثنيه مجموعة موتورة مفترض أنها تابعة لجهة سياسية تطالب بإلغاء الطائفية السياسية، على محاولة زرع الخوف والرعب في الطرقات». وأعلن الشيوعي أنه بدأ التحضير لـ«يوم 20 آذار مسيرة الغضب الوطنية اللبنانية والعربية»، ويوم 17 نيسان مسيرة العلمانية، ويوم الأول من أيار مسيرة الغضب العمالي».

-------------------------------

التحركات المقبلة

اختلطت الآراء والمعلومات بشأن الخطوة المقبلة التي من المفترض أن يقوم بها المنظمّون. بعضهم حسم موقفه ودعا إلى تظاهرة مماثلة الأحد المقبل. أما البعض الآخر فذكّر بـ«الاجتماع العام الأول للحملة» الذي كان مقرراً قبل الدعوة إلى المسيرة، والذي سيعقد في قصر الأونيسكو الأحد المقبل في 6 آذار عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر.

في المقابل، أعلن المنظّمون أنهم سيجتمعون يوم غد الثلاثاء عند السابعة مساءً، على أن يعلنوا مكان الاجتماع في بيان لاحق. ومن المقرر أن يناقش الاجتماع خطة عمل يقرر على أساسها الاكتفاء بالتحرك المركزي في بيروت أو الانتقال الى المناطق. وفي اليوم نفسه دعت حملة التضامن مع الثورات الشعبية الى اعتصام تضامني مع الشعب اليمني أمام السفارة اليمنية في بئر حسن عند الخامسة مساءً. وكانت الحملة قد اعتصمت أول من أمس السبت أمام مقر الاتحاد الأوروبي في بيروت، ودعا المتظاهرون الاتحاد الأوروبي إلى التوقف عن الدعوة إلى التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا.

..

.

كتبت السفير:

أكثـر مـن ألفـي «مواطن ومواطنة» يريدون إسقـاط النظام الطائفي: لـم يردعهـم المطـر.. فحاولـوا العبـور بالوطـن مـن ضفـةٍ إلـى أخـرى

جعفر العطار

من حناجر حانقة، غاضبة وسعيدة في آن، كانوا يصرخون: «ثورة ثورة في كل مكان.. جاء دورك يا لبنان». اتفقوا على اللقاء قبالة كنيسة «مار مخايل» في الشياح، ليتوجهوا منها في مسيرة ضمت أكثر من ألفي «مواطن ومواطنة»، إلى قصر العدل، ليقولوا ما يرمون إلى تحقيقه: «نحن مواطنون ومواطنات نتحرك ضد النظام الطائفي ورموزه، وضد الفقر والتهميش، وضد البطالة والهجرة».

رفعوا شعاراتهم، ورددوا هتافاتهم المطالبة بدولة علمانية، والعيش الكريم لكل المواطنين. معظمهم لم يكن على معــرفة بالآخر، إلا من خلال شــاشة الكومبيوتر، ولوحــة المفاتيح (keyboard) التي نقــلت عبارات تتــفق، أو تختلــف، مع الآخــر. هــناك، تعرّفوا إلى شركائــهم في ما يطلـبون، فمشوا تحـت زخـات المطر، وبلا طــوائف.

لم تأخذهم ثورة تونس ومصر وليــبيا إلى أحــلام كبيرة، فلم يطالبوا بإسـقاط الطاغية. أخذوا من مصر فكرة شبابها «الالكترونية»، وتلمــسوا منها طعــم الانــتصار في تحقيق الحلم. لم يحلموا، بل طــالبوا بما لم يطالب به الجــيل الذي سبقنا، والــذي صــار حلماً، فقرروا كسر جداره أمــس. غنّوا النشيــد المصري في خطــوة المســيرة الأولى، ورددوا النشـيد اللبناني مع الختــام. والقــصة التي بدأت، كــما قالوا، لم تنــته بـعد...

ما إن ترجل الشاب العشريني من سيارة الأجرة، عند الجهة المقابلة لكنيسة مار مخايل، حتى رُسمت علامات الأسى على محياه. كانت الساعة الثانية عشرة والربع، فيما كان موعد المسيرة قد حدد عند تمام الثانية عشرة ظهراً. ببصره، جال الشاب، الذي أتى من بيصور للمشاركة في مسيرة إسقاط النظام الطائفي، على مدخل الكنيسة، فرأى سيدة متشحة بالسواد. «لم يصلوا بعد؟»، سألها.

يشتد هطول المطر، بغزارة شباط المعروفة. «ثمة مجموعة وصلت، وهي في قاعة الكنيسة. تفضل»، أجابته السيدة، فأردف بنبرة تشوبها الأسى المرسوم على وجهه: «لقد شعرت، منذ الصباح، بأن المطر سيحول دون مجيئهم». وفيما كان يقفل راجعاً، سمع شاباً يهرول صارخاً في حديث على هاتفه الخلوي: «نعم، نعم، دقيقتان وأنضم إلى المسيرة، على الطريق».

تغيرت سحنة الشاب، وشرع يركض وراء صاحب المكالمة الهاتفية في شارع صيدا القديمة، فيما رأسه متحرر من المظلة، التي ربما نسي أن يفتحها. كان يركض بين السيارات، مقتفياً أثر «دليله» إلى المسيرة.

«ثمة سيارة لقوى الأمن الداخلي. إنني أسمع هتافاتهم، ها هم هنا!»، صرخ الشاب بوجه «الدليل»، قبل أن تتسلل دموعه إلى وجنتيه، وتمتزج مع حبّات المطر، في أثناء انضمامه إلى المسيرة. «ثورة.. ثورة.. ثورة!»، كان يردد، كمن عثر على ضالته، التي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يضلها، بعد حديثه مع السيدة التي ظنّت أنه يسألها عن برنامج الكنيسة.

تهطل حبّات المطر بقوة، مع كل دقيقة تمر، بينما أفراد المسيرة يملأون فضاء الصوت برفض النظام الطائفي. لا أجهزة لاسلكية تنقل تعليمات «الأمن» هنا، ولا أسلحة تحمي مسؤولا وصل للتو، ولا سيارات فارهة تركن إلى جانب الطريق ليترجل منها نائب «الزعيم»، ولا أعلام تحاكي انتماء حزب أو تيار. ثمة علم واحد: لبنان، ومظلات تحمي الرؤوس من الأمطار، وشارة علقت على ياقة المنظمين «مواطن منظم».

يتردد، بين الحين والآخر، هتاف يحمل مضمون الهتافات الباقية، التي ترمي إلى التعبير عن رفضها للنظام الطائفي، ومطالبتها بما كان مستحيلاً، وصار قابلاً للتفكير به جهاراً بعد قصص كتبتها تونس ومصر وليبيا: الثورة. يقولونها، بصوت موحد، قبل أن «يعزفوا» العبارة الشهيرة من حناجر حانقة: «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام».

يمرّ المشاركون في شارع صيدا القديمة، مرددين أكثر من هتاف. ثمة طفلة، لم تبلغ الثلاثة أعوام بعد، تحدّق من فوق كتف والدتها، بالوجوه التي تصادفها. تحاول الأم أن تحمي رأس ابنتها، فتركز المظلة فوق رأسها، وتهتف بأعلى صوتها، أكثر من مرة: «ثورة.. ثورة.. ثورة». تخرج حروف متقطعة، غير واضحة، من فم الفتاة اللوزي الشكل، يُسمع منها حرفا الثاء والواو.

يتحول الطرف الأخير من الشارع، إلى مستنقع أفقي فيه مياه موحلة، يصعب الفرار منها، حتى ولو بالالتفاف حولها. يبدو مشهد تخطّي المشاركين بركة المياه، أشبه بمن يجتاز النهر من ضفة إلى أخرى، أو من شاطئ بحر إلى شاطئ آخر.

وهم، في اجتيازهم، سعداء: لا يكترثون للبلل الذي يجتاح أقدامهم، ولا للمطر الذي يتساقط على رؤوس بعضهم. كأنهم، في ما يفعلون، يقولون ما خجلوا عن إعلانه جهاراً، خشية من إقحام أنفسهم في لعبة التبجح: «نحن مصرّون على مطالبنا. إننا نعبر من ضفة إلى ضفة، ونريد الخلاص من ضفتكم التي تربينا عليها، ويئسنا منها، لنصل إلى ضفتنا التي حلمنا بها، ولو تحت المطر، وبين الوحل.. مع أطفالنا وشبابنا».

تظهر علامات الفرح على وجوهم، من كبارهم إلى صغارهم. ثمة رجل ستيني يهم بالركض بين المشاركين، ليصل إلى مقدمة المسيرة. تترنح قبعته المستديرة مع كل خطوة تسبق الوصول. يصل، ويبدأ بإطلاق هتافات مدوية، سرعان ما يرددها الحشد خلفه: «نريد دولة مدنية. ثورة على الطائفية. ثورة على المحسوبية. ثورة على الاستغلال. ثورة على الزعماء».

تتغير، بين الدقيقة والأخرى، وجوه الشبان الذين تناوبوا على الصعود إلى سيارة الـ»بيك أب»، بغية تولي مهمة إطلاق الهتافات. يتناول الناشط في «اتحاد الشباب الديموقراطي» عربي عنداري المظلة من يد مصوّر فوتوغرافي تسلق السيارة، ويثبتها فوق رأس المصوّر، فيما رأسه مكشوف للأمطار الغزيرة.

تتنقل سيدة خمسينية بمعطفها الأسود، بين السيارات التي تسير عند الجهة المحاذية للمسيرة في شارع سامي الصلح، وفي إحدى يديها رزمة من الأوراق. تعكف السيدة على توزيع قصاصات الورق على سائقي السيارات، بنشاط يبدو واضحاً من حركة تنقلها، وسرعة توزيعها لما تحمل في يدها السمراء.

تتولى زميلة شابة تعمل في إحدى الإذاعات المحلية، مهمة إطلاق الهتافات في مقدمة المسيرة. تحمل الفتاة علم لبنان بيد، وترفع قبضتها باليد الأخرى، قبل أن تصرخ بصوت أنثوي رنّان، والوجه موجه لمن تخاطب: «يلّي قاعد ع البلكون.. انزل ولاقي شعبك هون». يرفع رجل وقف على شرفته، شارة النصر رداً على الهتافات، بينما تجاهل كثيرون ما يسمعون، أو أنهم لم يعرفوا ماذا يقولون أو كيف يعبّرون.

يتوقف تساقط المطر عشر دقائق، قبل وصول الحشود إلى قصر العدل، حيث النقطة الأخيرة للمسيرة. وبحركة شبه آلية، تختفي المظلات من فوق الرؤوس، فتتكشف الوجوه فجأة، وبصورة أوضح. فتنتقل التحيات من يد إلى أخرى، وتتطاير القبلات في الهواء، موزعة من هذا أو هذه، إلى ذاك الذي سعد بوجود صديقه، أو صديقته، في المسيرة. يتناقلون السلام، ولو بابتسامة خفيفة، كأنهم في عرس جماعي.

ثمة مظلة مرفوعة، يحملها شاب عشريني. يهمس، بصوت يكاد لا يسمع منه ما يقوله بوضوح، لصديقه الذي وقف إلى جانبه حاملاً علم لبنان: «لا تضحك. لكنني لا أريد أن أغلق المظلة، خشية أن تصوّر وجهي عدسة تلفزيون ما، فتعرف جماعتنا أنني كنت هنا. وحينها، يكون يومي الأخير بينهم». يطلق صديقه قهقهة مدوية في الفضاء. تعود السحب لتوزع حباتها على الرؤوس.

تستقر المسيرة تحت جسر قصر العدل الشهير. تنتشر حول الجسر دوريات معززة للجيش اللبناني، فيما كان واضحاً وغريباً في آن أنهم لم يكونوا إلى جانب المسيرة، منذ انطلاقها من الكنيسة، خلافاً للمسيرات الشبابية التي كانت تنظم سابقاً، حيث كانت تتقدم المسيرة سيارات معززة للجيش وقوى الأمن الداخلي.

يجلس الدكتور في جامعة «البلمند» نواف كبارة إلى كرسيه المتحرك، تحت الجسر، وإلى جانبه رجل أربعيني، اسمه محمد حداد، يستند إلى عكازيه. يقول كبارة انه عرف بالمسيرة من طلابه في الجامعة صباحاً. قالوا له عبارة واحدة: «نحن متوجهون للمشاركة في مسيرة ضد النظام الطائفي». لم يسألهم عن شيء، بل استقل سيارته ولحق بهم، من طرابلس.

لا تفارق الابتسامة وجه أستاذ العلوم السياسية، الذي أصيب بحادث سير في العام 1980، فصار مقعداً منذ ذلك الحين. يشرح الدكتور سبب حماسته للمسيرة، خلافاً لبعض الذين خرجوا من قطار الشباب، قائلاً إن «الوضع قد تغير بعد تونس ومصر وليبيا، فالحلم بالتغيير كان مستحيلاً. حبذا لو يشجع الأهالي أولادهم للمشاركة. نحن نطالب بحقوقنا، التي تبدأ مع إلغاء الطائفية في هذا البلد».

تتداخل كلمات حداد، الموظف في إحدى البلديات والمصاب بشلل أطفال، مع كلمات النشيد اللبناني، الذي أعلن المنــظمون أنه ختام لمسيرة لن تنتهي. يعبّر الرجل عن سعادته العارمة في المشـاركة، خـصوصاً أنه لم يتوقع أن يكون «العدد بهذا الحجم، نظراً للطقس، وبسبب الانتماءات السياسية المعروفة».

تبدأ الحشود بالتفرق بعضها عن بعض بعد ساعتين من السير، متخذة جهات عدة. فمنهم من وقف قبالة مبنى الأمن العام، الذي أطلّت عناصره من شرفاته، ومنهم من وقف ينتظر سيارة تقله باتجاه الدورة أو الأشرفية، ومنهم من مكث يرقص ويزغرد بين من رفضوا العودة قبل مغادرة الجميع.

وقفوا يرقصون حتى اللحظات الأخيرة، على أنغام أغان تشرئب لها أعناقهم، ما إن يسمعوا فيها كلمة واحدة: ثورة.

..

.

كتبت النهار:

الأمطار الغزيرة رافقتهم من مار مخايل إلى قصر العدل

يساريون تظاهروا لـ"إسقاط النظام الطائفي"

كتب عباس الصباغ:

عاندت الطبيعة "المواطنين والمواطنات" الداعين الى اسقاط النظام الطائفي في لبنان، فما ان انتصف نهار امس ودقت ساعة انطلاق التظاهرة الشبابية، حتى فاضت الطرق بمياه الامطار التي هطلت بغزارة، ما دفع بالمتظاهرين الى الاحتماء منها تحت مظلاتهم من دون ان يتراجعوا عن خط التظاهرة التي انطلقت من تقاطع مار مخايل – الشياح سالكة ما كان يعرف بخطوط التماس بين عين الرمانة والشياح، مروراً بطريق صيدا القديمة ومستديرة الطيونة وصولا الى قصر العدل.

التظاهرة التي دعا اليها عدد من الناشطين اليساريين وبعض منظمات المجتمع المدني شارك فيها بحسب المنظمين نحو 4000 "معارض للنظام الطائفي في لبنان"، وبدت على شاكلة بعض تظاهرات الدول العربية المنتفضة على حكامها. ورفع المتظاهرون لافتات دعت الى "اسقاط النظام الطائفي ونظام المحاصصة والتوريث السياسي"، ووجهوا نداء مفتوحاً الى اللبنانيين جاء فيه: "لان لكل مواطن القدرة على الصبر والتحمل بدنا نقول "خلص"، نحن مواطنون ومواطنات نتحرك ضد النظام الطائفي ورموزه، من امراء الحرب والطوائف، ونظام المحاصصة والتوريث السياسي والاستغلال الاجتماعي. نظام العنصرية والتمييز والانماء غير المتوازن والحرمان (...)".

وطالب المتظاهرون بقيام "دولة علمانية مدنية ديموقراطية تؤمّن العدالة الاجتماعية والمساواة وتحفظ الحق في العيش الكريم لكل المواطنين من خلال رفع الحد الادنى للاجور وخفض اسعار المواد الاساسية والمحروقات وتعزيز التعليم الرسمي والضمان الاجتماعي".

"لا 8 ولا 14 آذار"

لم تمنع غزارة الامطار اكمال التظاهرة خط سيرها الذي حدده المنظمون من امام كنيسة مار مخايل وصولا الى قصر العدل، واضطر المشاركون الى حمل مظلات ولافتات في الوقت نفسه، وكان بعضهم يحمل المظلة بيد ويرفع لافتة باليد الاخرى واحيانا يغطي الاخيرة بثيابه خشية تمزقها تحت الامطار، بينما كان بعض الناشطين يردد هتافات منها: "كرّهتونا بشهر آذار يا 8 و14"، و"الشعب يريد اسقاط النظام الطائفي" و"بدنا دولة علمانية"، ورفع المتظاهرون العلم اللبناني وسط غياب الشعارات الحزبية على رغم اشراف عدد من الحزبيين على تنظيم التظاهرة، وبينهم اعضاء في المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني ومسؤولون في "اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني" ومنظمات يسارية وعلمانية.

ولوحظ ان معظم المشاركين من الشبان وسط حضور نسائي لافت ورفعت احدى المشاركات لافتة كتب عليها: "انا اقاتل اسرائيل واشرب كأس" في اشارة الى علمانيتها، ورفع رفيقها لافتة اخرى كتب عليها: "اقتتالنا على السماء أفقدنا الارض".

"إسقاط النظام الطائفي"

وتقدم التظاهرة عدد من الاعلاميين وبعض الاسرى المحررين من المعتقلات الاسرائيلية وآخرون من منظمي الاعتصامات الاخيرة التي شهدتها مناطق لبنانية تضامناً مع التحركات الاحتجاجية في مصر وتونس والبحرين وليبيا واليمن، ورفع هؤلاء لافتة ضخمة عليها شعار التظاهرة الاساسي: "الشعب يريد اسقاط النظام ويطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة".

وقرابة الاولى بعد الظهر وصلت التظاهرة الى قبالة قصر العدل حيث انشد المتظاهرون النشيد الوطني، وقبل ان يتفرقوا بهدوء أكدوا ان تظاهرة الامس ليست الاخيرة وستليها تظاهرات اخرى، علماً ان الدعوات اليها وجهت عبر موقع "الفايسبوك"، وكان المنظمون يأملون في مشاركة اكثر من 9000 ناشط، الا ان الامطار وسوء الاحوال الجوية حالت دون ذلك، وفق احد المنظمين.

وواكبت التظاهرة عناصر من قوى الامن الداخلي عملت على منع مرور السيارات على طول الطريق الممتد من مار مخايل الى قصر العدل، ولم يسجل خلال النشاط اي حادث يذكر.

تحت المطر (مصطفى جمال الدين)
تحت المطر (مصطفى جمال الدين)


تعليقات: