حملة 14 آذار: الهمزة التي قصمت ظهر الثور(ة)

حملة 14 آذار
حملة 14 آذار


عاد المستطيل الأحمر الذي ينضح بـ «حبّ الحياة» ليحتلّ الفضاء العام، تمهيداً للزحف الثوري الذي ستشهده بيروت قريباً.

الثورة في كلّ مكان هذه الأيّام، فلماذا لا تكون في لبنان؟ وبما أن لبنان متميّز عن محيطه ـــــ كما نعرف جميعاً ـــــ فمن الطبيعي أن تستند «ثورتنا» إلى قوّة ضاربة، ليست سوى وكالة إعلانات تروّج لأفكارها الرائدة، وتعبّئ الجماهير للسير على خطاها. ذلك أن «ثورة الأرز» لمن لا يعرفها جيّداً، تحدث غالباً قبل حدوثها، في الزمن الافتراضي، داخل محترفات «ساتشي & ساتشي» ـــــ عفواً «كوانتوم» ـــــ حيث يسود إيلي خوري، القائد الفعلي للثورة منذ عام ٢٠٠٥، مصمّمها ومخترعها (مع بعض المساعدات المحليّة والأجنيّة طبعاً).

من ينسى شعار «استقلال 05»، على الخلفيّة الحمراء العتيدة المستعارة من البولشفيك؟ من ينسى تلك الصورة الأسطوريّة الملتقطة من الفضاء، للجماهير الغفيرة الزاحفة من كلّ صوب إلى ساحة البرج كما كانت تسمّى قبل «الثورة»، وقد التحمت في لحظة «صحوة وطنيّة» لتكوّن نسخة عملاقة من العلم اللبناني؟ هكذا هو رجل الإعلانات الجيّد، يمكن أن يبيعك أي شيء بفضل مهارته التسويقيّة. الخديعة لا يكتشفها الزبون إلا لاحقاً، بعد أن يكون قد اشترى البضاعة المزغولة، وتكون الحملة (الحفلة؟) قد انتهت (بـ «إسقاط السلاح»؟)، وسبق السيف العذل...

وإذا كانت الثورات العربيّة الأخرى تحدث هذه الأيّام مباشرةً على الشاشة، فإن كاميرات التلفزيون ـــــ «الجزيرة» و«الجديد» وotv مثلاً ـــــ قد لا تغامر الأحد المقبل، في نقل وقائع ثورة ١٣/ ١٤ شباط/ آذار، بعد تجربتها المريرة مع ثوّار ساحة النور في طرابلس (الشرق)... لكن ما حاجتنا إلى التلفزيون في لبنان؟ الثورة ـــــ ضدّ «العنف» و«الغدر» و«الاغتيال» و«الظلم» و«وصاية السلاح» و«الكذب» و«الفتنة»... ـــــ انتشرت من الآن على جدران المدينة...

كلمتان صغيرتان، الأولى ثابتة («لأ») والأخرى متغيّرة (التيمات السلبيّة المذكورة أعلاه)، متعانقتان فوق مساحة حمراء فارغة، (إلا من الموعد/ التوقيع في الأسفل). ملصقات مينيماليّة هذه المرّة، تختصر القضيّة على طريقة المتصوّفة (كلّما اتسع المعنى ضاقت العبارة). خطاب بصري ذروة في التكثيف، لمشروع سياسي مركّب ومعقّد وغني وملوّن إلى أقصى الحدود، كما نعرف جميعاً: يكفي أن يحدّق المرء جيّداً في وجه رئيس الحكومة السابق، المرتبك كتلميذ خائف من أن ينسى الدرس وهو يسمّعه... يكفي أن يمعن في نظرته الغائبة، وهو يخاطب التاريخ «بكل بساطة» قائلاً: «مش ماشي الحال»، لكي يتأكّد من ذلك.

لكن حين ننظر إلى الملصقات الجديدة التي تحتلّ مجالنا البصري هذه الأيّام، نتساءل إن لم يكن منظّر الثورة قد فقد شيئاً من مهارته... إن لم يكن قد نضب وحيه... إن لم تكن ابتكاراته القديمة قد انقلبت عليه، بعدما استهلك تقنيّته المفضّلة: أبلسة الخصم بخفّة مدهشة، وإغراقه تحت وابل من الاتهامات المقزّزة. حملة «كوانتوم» الجديدة تعلن إفلاس السجال السياسي، وبالتالي تستبطن دعوة إلى العنف الأهلي. ملصقاتها تنطوي على احتقار لذكاء المواطن وحسّه النقدي، وتراهن على أن أفقه الضيّق سيبقى محاصراً بشتّى أشكال العصبيّة والولاء المطلق لأمير الجماعة، مهما تبدّلت المعطيات المحليّة والإقليميّة.

ليس خصوم مهرجان ١٣ آذار من صنف الملائكة طبعاً، ومن المؤكّد أن هناك انتقادات كثيرة، قاسية، يمكن أن توجّه إليهم من جانب المواطن اللبناني الباحث عن أبسط حقوقه في العيش الهادئ والكريم، لكن سيكون من الصعب قليلاً إقناع أي إنسان عنده حدّ أدنى من الوعي، بأن الحياة السياسيّة في بلاده انقسمت نهائيّاً إلى خندقين واضحين وقاطعين، الأوّل يحتلّه مرتزقة الغدر والظلم والكذب والفتنة، والثاني رسل المروءة والعدالة والصدق والعلمانيّة. تلك الوصفة تستحق أن نسجّلها تحت عنوان «الديموقراطيّة للجميع على طريقة كوانتوم وشركاه».

هناك مشكلة بسيطة أخرى في الحملة الحاليّة لـ «ثورة الأرز»، هي أداة النفي التي تتربّع وسط الملصقات الحمراء. تلك الـ «لا» المستعارة من ذاكرة تقدميّة وقوميّة وممانعة ورافضة، صارت هنا «لأ» بنكهة لبنانيّة. أهلين! لا نعرف ما هذا الولع المفرط بالهمزة في بيروت هذه الأيّام، إذ نجدها حتى على ألف أل التعريف في عنوان جريدة «(أ)لجمهوريّة» الوليدة. همزة «كوانتوم» تجعل الشعار نابياً، وبعيداً عن الوجدان; فالأذن تقبل بسهولة شعار «لا للفتنة»، لكنّها تغصّ بـ «لأ للفتنة» (للفتني؟). هذه الركاكة بحد ذاتها مشروع سياسي كامل. لعلّها الهمزة التي قصمت ظهر الثور(ة).

عنصريّة دوت كوم

حملة الترويج لمهرجان 14 آذار لها امتدادات على الشبكة العنكبوتيّة. موقع «كلنا لأي وطن» يتلقف الزائر بديابوراما لصور تظهر «الحضارة والعلم والعمران» في مواجهة «الهمجيّة والجهل والعنف». وينشر مقالات مختلفة، وفيديو محرّف عن فيلم «ليون كينغ» يروي كيف قتل السيد حسن نصرالله الرئيس الراحل رفيق الحريري. وتكمل مجموعة بالاسم نفسه على الفايسبوك مهمّة التعبئة والحشد على طريقتها، داخلة في منطقة التجريح والطائفيّة والعنصريّة، وواعدة بردّ مزلزل، يوم المهرجان، على اقصاء سعد الحريري من رئاسة الحكومة ــــ

تعليقات: