طارق متري «ويكيليكس»: في حاشية سعد

طارق متري (أرشيف ــ بلال جاويش)
طارق متري (أرشيف ــ بلال جاويش)


لا يمثّل طارق متري نفسه فقط. طارق متري يمثّل ظاهرة مَرَضيّة في الحالة الثقافيّة العربيّة. يمثّل هؤلاء الذين يتزاحمون للحلول في الصفوف الخلفيّة للحاشية الحاكمة. يمثّل الذين يتزاحمون لكتابة سِيَر مزيّفة لرياض الصلح، طمعاً بالمال. طارق متري هو أنس الفقي لبنان (لماذا لم يذكر الإعلام اللبناني أنّ الفقي كرّم مي شدياق؟) لا، طارق متري هو رديف ذيلي لأنس الفقي في لبنان. لكن طارق متري في «ويكيليكس» مسألة أخرى تماماً

طارق متري هدف سهل للنقد، كما أنّ نقده غير واجب إلا عرضاً، لأنّه هامشيّ في المعادلة السياسيّة اللبنانيّة. حكاية متري حكاية مُتكرِّرة في زمن التلوّث النفطي (الرجعي والمُدّعي التقدّميّة ـــــ الصدّاميّة والقذّافيّة) الذي ساد في حقبة ما بعد جمال عبد الناصر. سعى رهط كبير من المُثقّفين الى تدبير الأمر، مع أنّ فئة لا يُستهان بها من المثقّفين العرب (والمثقّفات) دفعوا أثماناً باهظة نتيجة الالتزام المبدئي، ونتيجة لشجاعة أخلاقيّة أودت بالكثير منهم إلى المنافي والزنازين والقبور. لكن فئة المنتفعين كانت أكبر بكثير.

كان طارق متري ناشطاً في تنظيم رديف للحركة الوطنيّة، جمع مَن تحرّك تحت مُسمّى «المسيحيّين الوطنيّين» أثناء الحرب. كنت حائراً في سنواتي اليافعة بالنسبة إلى الحكمة والجدوى والصدق إزاء تنظيم يدّعي الوطنيّة تحت عنوان محض طائفي. لا أدري من كان وراء الفكرة التي حاولت محاربة طائفيّة حزب الكتائب والأحرار بطائفيّة مضادة. التجربة تضعضعت بعد وقت قصير، والطريف ـــــ أو غير الطريف ـــــ أنّ معظم من عمل في ذلك التنظيم انتهى ناشطاً في أوساط حريريّة طائفيّة، أو انتهى مُتسكّعاً على أعتاب البطريركيّة المارونيّة أو على أعتاب مطرانيّات من طوائف أخرى. طارق متري أنهى دراسته الجامعيّة ودرس الصهيونيّة المسيحيّة، قبل أن ينشط في إطار ما يُسمّى «الحوار الإسلامي ـــــ المسيحي»، وهو إطار طائفي في أساسه يرى الحوار في حدود النطاق الطائفي. «الحوار الإسلامي ـــــ المسيحي» فعل تكاذب، يُجنى منه الكثير من المصالح. هناك أموال طائلة مرصدة لفكرة الحوار الديني والحظوة لمن يُتقن الخداع: أي لمن يتقن التغاضي عن الخلافات العقيديّة العميقة التي تفرّق ـــــ لا تجمع ـــــ بين الأديان. والفاتيكان ينخرط في الحوار بين الأديان بالرغم من تاريخ وحاضر عريق من العداء الكنسي لكلّ ما يمت بصلة إلى الإسلام ـــــ ولم تكن خطب البابا الحالي إلا تكريساً للتراث التاريخي للكنيسة.

لكن الدور السياسي لطارق متري برز بعدما انخرط في حاشية إلياس المرّ، وهو الذي زكّاه لحميه، إميل لحّود. (إلياس المرّ صرّح عن عقدة أوديبيّة دفينة في أحاديثه ـــــ يبدو أنّ كل المقابلات مع لجنة التحقيق الدوليّة كانت في معظمها أحاديث وثرثرة ـــــ مع لجنة التحقيق في اغتيال رفيق الحريري (الذي سمّاه زاهي وهبي في كتاب استقالته من محطة «المستقبل»: «رمزاً كبيراً لقيم إنسانيّة ووطنيّة وقوميّة»). المرّ زها بحداثة سنّه في التجربة السياسيّة مقارنة بأبيه، ناسياً أنّه لم ينل منصباً واحداً في حياته بعرق عقله أو بكفاءته، وإنما بتزكية من أبيه أو من حميه. طارق متري دخل إلى السياسة بعدما كان مجهولاً لدى العامّة والخاصّة، ومن باب الماريشال للّو المرّ. هذا يكفي لرصد (أو تنبّؤ) المسار السياسي للرجل. تستطيع أن تستشفّ الكثير عن ذاك المثقّف الذي يُقرّر مُبكّراً أن يلحق نفسه بللّو المرّ. إلياس المرّ، يا محسنين ومحسنات. كيف يمكن مثقّفاً أن يكون منجذباً للّو المرّ؟ أو هل يمكن مثقّفاً أن ينجذب لللّو المرّ؟ طبعاً، لا. لكن متري كان يبحث عن دور وقرّر أنّ إلحاق النفس طائفيّاً بمحظيّ في زمن رستم غزالة يكفي للصعود، وخصوصاً أنّه قرّر أيضاً أن يلحق نفسه بإكليروس الطائفة، لعلّ وعسى. طبعاً، يمكن طارق متري أن يردّ بالقول إنّه كان منجذباً للعقل السياسي لإلياس المرّ، وإنّه قدّر فيه لمسته الجماهيريّة. يستطيع طارق متري أن يقول إنّه كان يستمتع بتحليل المرّ السياسي للعلاقات الدوليّة، وإنّه انبهر بقدراته اللغوية وفصاحته، ومكافحته لعبدة الشيطان. قد يجد طارق متري في كتابات المرّ في «الجمهوريّة» ـــــ التي دشّنت عهدها بمقالة تحريضيّة ضد الحمّالين (الشيعة) في مطار بيروت، على نسق المقالات التحريضيّة في الإعلام الحريري بعد 2005 التي أدّت إلى قتل عدد كبير من العمّال السوريّين في لبنان وتعذيبهم ـــــ أدباً رفيعاً وتحليلاً ثاقباً. وليس من عجب في هذا.

تسنّى للمرّ أن يأتي بمتري وزيراً في حقبة إميل لحّود. وكان متري ملتزماً خط إميل لحّود في البداية، مثله مثل شارل رزق ـــــ الذي تنجح مداعبة طموحه الرئاسي في دفعه لفعل وقول أي شيء. وأشاد متري بالمقاومة وبالعلاقة مع النظام السوري وبكل ما كان لحّود يمثّله في حكمه. لكن فريق الحريري كان منخرطاً بمشروع إسرائيلي ـــــ سعودي ـــــ أميركي سرّي واحتاج إلى كسب ما يمكن من الوزراء والنوّاب والصحافيّين. حفنة من الدنانير والوعود السياسيّة تكفي. شارل رزق حاز عقوداً مع وزارات بمهارته وكفاءته الصرف، وداعب فريق الحريري غروره ولوّح له بكرسي الرئاسة. انقلب رزق وسال لعابه على فكرة أن يأتي إلى الوزارة من دون فضل لحّود. قال مرّة من بكركي إنّه وصل إلى الوزارة برغبة من «الرأي العام». هاج الرأي العام وماج من أجل أن يأتي رزق إلى الوزارة. متري تقلّب في الفترة نفسها، لكنّه انحنى بدرجة أكبر من كلّ المتقلّبين. سارع السنيورة إلى استخدامه وأثبت متري ولاءه بسرعة: أي أنّه أثبت سرعة هائلة في التقلّب من موقف إلى آخر، وقال في ما بعد إنّه أتى إلى الوزارة بأمر من «الطائفة».

وفي حرب تمّوز، أثبت متري مدى طاعته. قدّم واحدة من أسوأ المطالعات اللبنانيّة في مواجهة أعتى عدوان إسرائيلي على لبنان. حتى وزير الخارجيّة القطري تفوّق عليه في الهجوم على مندوب إسرائيل. بعدما قرأنا فضائح متري في «ويكيليكس»، وفضائح معلّمَيه المرّ والسنيورة في الوثائق نفسها، من الجائز التساؤل إذا ما كانت كلمة متري مُترجمة من العبريّة أو إذا كانت مُرسلة بالإنكليزيّة عبر الفاكس من الراعي الأميركي. كان واضحاً أنّ متري في كلمته في مجلس الأمن يرسل خطاباً مُرمّزاً إلى إسرائيل يضمّنه نيات السلام والحب من قبل 14 آذار (سوء الظن واجب، بعدما قرأنا في «ويكيليكس» الأخيرة أنّ جنبلاط وحمادة وغيرهما طالبا إسرائيل بغزو لبنان برّاً). ومتري حرص على مصالح راعيه اللبناني، وراعي راعيه في الرياض. وسعى الى فرض تقييد على الإعلام من أجل التعويض عن فشل آل الحريري في السيطرة التامّة والمطلقة على الإعلام اللبناني.

مناسبة الحديث عن متري هي كلامه الذي صدر في «ويكيليكس» ومحاولته الواهية الدفاع عن نفسه. متري في «ويكيليكس» هو مثله مثل سائر أفراد الفريق الحريري الذين وردت أسماؤهم في حلقات الوثائق. هؤلاء ـــــ مثل المُتقلّب الأكبر مروان حمادة الذي نظم قصائد مديح بعثيّة مبتذلة في سنوات خدمته الوزاريّة، قبل أن يكتشف حب السيادة العلني بعد خروج الجيش السوري من لبنان ـــــ يتنطّحون لتقديم الأخبار والمعلومات والنميمة لكل مندوب، مهما صغر، عن السفارات الغربيّة. هؤلاء ينظرون إلى أنفسهم نظرة وضيعة جدّاً. ماذا تقول في مروان حمادة الذي حمل خريطة بشبكة اتصال المقاومة وجال بها على كلّ دول حلفاء إسرائيل وقدّمها طوعاً للأمير مقرن أيضاً، الذي تبرّم من عدم قدرة إسرائيل على تدمير محطة «المنار». مروان حمادة وإلياس المرّ ومتري والسنيورة لم يروا في أنفسهم ممثّلين عن دولة لبنان في لقاءاتهم بمبعوثي السفارات الغربيّة، بل رأوا في وظيفتهم تفويضاً من السفارات الغربيّة لخدمة مصالحها. كيف تفسّر أنّهم ما إن يستريحون على أريكة، حتى يباشروا النميمة وتقديم التقارير عن مداولات مفروض أن تبقى سريّة (ويتعرّض أي وزير غربي للطرد وللاتهام بالخيانة إذا قام به هؤلاء الوزراء الذين ما رأوا ضعة في التفريط بالمصالح الوطنيّة).

جلس متري مع السفيرة الأميركيّة وقدّم تقارير عن مداولات مجلس الوزراء وعن اجتماعات مجلس وزراء الإعلام العرب. والنميمة جزء من عمل متري وأترابه من 14 آذار في اجتماعاتهم الدبلوماسيّة. وعندما نُشرت وثائق «ويكيليكس» عن متري، سكت فترة قبل أن يردّ بتصريح باهت ـــــ مثل أدواره. قال، في ما قال، إنّه كان فقط يجيبها عن «أسئلتها الكثيرة» وإنّه أجابها كما يفعل مع سائر السفراء، وكما يفعل «المسؤولون اللبنانيّون» في لقاءاتهم بسفراء أجانب. أولاً، من المشكوك فيه أنّ متري يقوم بالدور نفسه في لقاءاته بالسفير الإيراني أو الصيني. ثانياً، يتحدّث متري كأنّه مُلزم قانوناً بتقديم الطاعة والإجابة عن كل أسئلة السفيرة الأميركيّة حتى لو تطرّقت إلى أسرار وطنيّة وحساسيّات قوميّة. ثالثاً، يسوّغ متري فعله الشنيع عبر الاستعانة بفعلة أترابه من المستزلمين أمام السفراء الغربيّين. لا، يا طارق متري. لا أتصوّر ولا يمكنك أن تتصوّر أن شربل نحّاس أو جورج قرم يقوم بتقديم تقارير ونميمة وجلسات تملّق مع السفيرة الأميركيّة. هناك، يا طارق متري، من يحترم نفسه ويحترم شعبه، وإن كان الأمر عصيّاً على من قضى عمراً في التبعيّة لأمثال إلياس المرّ، ثم لتابع لسعد الحريري ـــــ وهو بدوره تابع لأمراء آل سعود يتقاذفونه في ما بينهم. صحيح أّن أزمة المثقّف العربي في جانب منها عضويّة ومتعلّقة بطبيعة النظام الأكاديمي غير الحرّ. في الدول الغربيّة، نجح النضال في ـــــ بعضها وليس كلّها ـــــ للحصول على نظام التثبيت الأكاديمي الحرّ (غير الخاضع لسلطة الدولة أو الطوائف، كما هو في لبنان). يستطيع الأكاديمي أن يصل إلى موقع من دون «جميلة» أهل السياسة (على علّة النظام في دولة مثل أميركا، حيث يؤدي الصهاينة دوراً نافذاً لممارسة الفيتو على من يريدون في بعض الأحيان، كما حدث للزميل نورمان فينكلستين).

طارق متري فهم دور الإخبار الذي مارسه هو ومروان حمادة (الذي برع فيه إلى درجة أنّ السفير الأميركي أفصح عن نيّة الولايات المتحدة إدراج فكرة ما من خلال حمادة المطيع هذا) على أنّه ممارسة عاديّة للسياسة أو الوزارة. ومتري، بعدما واجه الحقيقة عن دوره من خلال «ويكيليكس» فعل ما يفعله كل أهل السياسة في لبنان: لا يجرؤون على تكذيب وثائق تبيّن عدم نفي الولايات المتحدة لصحة أي واحدة منها (وحده سعد الحريري كذّب «ويكيليكس» لجهله بماهيّتها). فهم يدورون حول أنفسهم في دوائر من الأكاذيب والمراوغة. الماريشال للّو المرّ: لم ينفِ ما ورد، لكنّه أضاف إنّ الوثائق «مُجتزأة». السنيورة هذا الأسبوع فعل شيئاً مماثلاً عندما أكّد أنّه كان خادماً مطيعاً لمصالح إسرائيل في حرب تمّوز، لكن مكتبه الإعلامي نوّه ـــــ والكلام للسنيورة نفسه طبعاً ـــــ ببراعته وصلابته كمحاور. ماذا يفعل السنيورة بالعشق الإسرائيلي له؟ طارق متري لم يحد عن أسلوب السنيورة في المراوغة. زعم أنّ كلامه في الوثائق لا يختلف عن مواقف له «معروفة وعلنيّة». من تخدع بكلامك يا طارق متري؟ مواقف علنيّة؟ أتجرؤ في العلن على الإشارة إلى إعلام حزب الله على أنّه «قاذورات»؟ أو تجرؤ في العلن على الزهو أمام حليف إسرائيل الأقوى في العالم أنّك ناضلت في مجلس اجتماع وزراء الخارجيّة العرب من أجل تضمين البيان إدانة للإرهاب، على طريقة الخطاب الصهيوني، لأنّك تعلم علم اليقين أنّ ما يقصده الأميركي بـ«الإرهاب» يتضمّن أعمال مقاومة مشروعة ضد جنود الاحتلال؟ أنت يا طارق متري نموذج للازدواجيّة والحربائيّة. ألم تقرأ ما جاء عنك في حديث السنيورة الأخير في «ويكيليكس»؟ مجرّد إشارة عابرة إلى رغبته في إرسالك إلى نيويورك. إشارة عابرة لمن لم يحظَ بأكثر من دور عابر في حاشية متضخّمة.

ولا يتورّع متري عن التحجّج بسوء الترجمة إلى العربيّة. لكن النص يدينك بالإنكليزيّة أيضاً ـــــ أنت الذي كان يقدّم تقارير عن محاضر اجتماعات رسميّة لسفير دولة أجنبيّة يا داعي السيادة مع سياديّي 14 آذار. ومتري لم يكتف بدور الإخبار (البريء طبعاً، لأنّ كل من انخرط في حاشية الحريري وحاشيات آل سعود هو بريء ـــــ يا حضرة القاضي) بل تعدّى ذلك لتزويد السفيرة الأميركيّة بوثيقة عن السياسات الداخليّة لمحطة «المنار». لا ندري ماذا يفعل متري في أوقات الفراغ. لماذا تخاله يدور في شوارع بيروت وفي الأبنية ويبقى بعد ارفضاض الاجتماعات الرسميّة لعلّه يحظى بمحضر أو بوثيقة أو بقصاصة ورقيّة يزوّد السفيرة الأميركيّة بها كي يحظى بتنويه اللجنة الفاحصة.

لكنّ لمتري حساباً على ما يبدو مع جريدة «الأخبار». فتقرير السفيرة ذكر أنّ متري «لم يستطع إخفاء قرفه» من جريدة «الأخبار». وقال عنها إنّها بدون «أخلاقيّات أو إرشادات». لكن، ما سبب قرف متري من «الأخبار» يا تُرى؟ ولماذا يتضايق من غياب ما يعتبره «أخلاقيّات وإرشادات» مهنيّة؟ وأي مثال للمهنيّة الصحافيّة يعتمده الخبير الجديد في الإعلام العربي، طارق متري؟ لعلّه تعلّم أخلاقيّات المهنة من عبد العزيز الخوجة، مرشده الروحي، بالإضافة إلى إرشادات هاني حمّود له. هل هو يريد من الإعلام اللبناني برمّته أن يقتفي آثار الإعلام الرائد في الأبواق الصفراء لأمراء آل سعود ولشيوخ الحريريّة؟ أم أنّ الياس المرّ في «الجمهوريّة» هو مثاله الصحافي الأعلى؟

مشكلة متري مع «الأخبار» هي مشكلة كل 14 آذار مع «الأخبار». ما كان يُفترض أن تنطلق جريدة جديدة وتنجح. المشكلة أنّها لم تُشترَ ـــــ مثل غيرها ـــــ أو لم تؤجَّر مثل غيرها من قبل آل سعود وآل الحريري. هذا ما أراد متري أن يتلافاه عبر مشروعه الإعلامي الذي أراد منه وضع الضوابط الإعلاميّة والحدود بإمرة هيئة كبار العلماء في السعوديّة وأجهزة الرقابة الكنسيّة في لبنان (وكان رفيقه في فرض الرقابة البطريرك الجديد، الذي أراد فرض الحرم الكبير على من يجرؤ على انتقاد البطريرك).

آن الأوان لرصد العوامل المُسبّبة لاندلاع الانتفاضات العربيّة. حاول توماس فريدمان أن يفعل ذلك فجاءت محاولته مضحكة، وتعرّض للسخرية (يحظى بالاحترام في صحافة تقدّس كل مارّ غربي في بلادنا، حتى لو كان جاهلاً بشؤون المنطقة). ولكن، لا شكّ أنّ وثائق «ويكيليكس» أدّت دوراً أكيداً، وخصوصاً أنّ وثيقة الفضائح التونسيّة فعلت فعلها وكادت تسبّب جنون الطبقة الحاكمة هناك قبل أن تفرّ على عجل. في الشأن اللبناني، يظهر أنّ حركة 14 آذار أسوأ بكثير ممّا يُقال عنها حتى في المُبتذل من الصحافة المُعادية لها. هي حركة كانت منذ إنشائها مشروعاً مُكمِّلاً للخطة الإسرائيليّة التي بدأت صيف 2004 في القرار 1559. كان رفيق الحريري واعياً لدوره، وإن كان مثله مثل الآخرين، يقول في السرّ ما لا يقوله في العلن. هؤلاء مثل الذين كانوا يقولون للأميركيّين أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006 إنّهم مضطرّون إلى المطالبة في العلن بوقف النار، بينما كانوا في السرّ يناشدون إسرائيل لاجتياح لبنان، مثلما فعل بطرس حرب ـــــ الذي بناءً على خبرته في قيادة ميليشيا «لواء تنّورين» ـــــ قدّم النصح العسكري لإسرائيل كي تحتلّ بعض جنوب لبنان قبل أن تقبل بوقف النار. إنّ التخوين مع 14 آذار بات واجباً وطنيّاً، وخصوصاً بعدما افتضح أنّ من يقول مرّة في السنة، وبشقّ النفس، إنّ إسرائيل عدوّ، كان يحثّ إسرائيل على اجتياح لبنان أثناء عدوان تمّوز (كيف يستطيع محمّد رعد أن يقبّل وجنتَي وليد جنبلاط بعد اليوم؟ كيف؟).

ثم، لماذا يطالب سليم الحصّ بعدم استعمال السلاح في الداخل؟ هل كان هناك تجربة لمقاومة لم تستعمل سلاحها في الداخل؟ (والكلام ليس، طبعاً، عن اشتباكات في الأحياء مع «الأحباش» ـــــ وهذا ما عناه الحصّ على الأرجح). كيف يمكن مقاومة إسرائيل أن تخوض حربها، فيما يقوم فريق 14 آذار بحرب داخليّة بالنيابة عن إسرائيل ـــــ لن تغشّ عبارته الرتيبة أنّ «إسرائيل عدوّ»، فيما يعمد إلى نزع السلاح ممّن يرغب في مقاومتها لأن المقاومة وتحرير الأرض يكونان بـ«الكلمة» وفق فتوى لعقاب صقر.

طارق متري بحد ذاته لا يستحق التنديد. الظاهرة هي التي تستحق التنديد. ماذا فعلت اللوثة النفطيّة وإنتاج أصحاب المليارات بالوضع الثقافي العربي؟ هناك مثقفون كتبوا تقريظاً في كتاب العقيد «الأخضر»، وهناك من ينام ويصحو على مديح الملك السعودي. التقلّب والتذبذب باتا سمتين مألوفتين. أمير سعودي يقرّر الذائقة الشعبيّة للعالم العربي، وأمير شخبوطي في دبي يُقرّر من يصعد ومن يهبط في الأدب العربي، وفرقة كركلا تجول راقصة في تبجيل الشيخ زايد. وطارق متري واحد من حاشية مكتظّة، لكن السؤال الذي يجول في الخاطر: بماذا يفكّر متري وهو يجلس مُستمعاً لسعد الحريري؟ وهل يخطر في باله أنّ كلّ منصب تبوّأه وصل إليه بوساطة طائفيّة أو تبعيّة، حتى وهو اليوم يسعى بوسائط حريريّة إلى الحصول على منصب أكاديمي في أي جامعة خاصّة في لبنان؟ ولكن مهما فعل أو قال طارق متري، سنذكره يوم ذهب إلى نيويورك ليمثّل ـــــ لا الجنوب المحترق ـــــ بل الفريق الذي أراد أن تغزو إسرائيل لبنان وأن تمعن فيه قتلاً وحرقاً.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا

تعليقات: