د.كامل مهنا.. الخيارات الصعبة رحلة حياة

د.كامل مهنا.. الخيارات الصعبة رحلة حياة
د.كامل مهنا.. الخيارات الصعبة رحلة حياة


بيروت:

أي عزيمة وإرادة صلبة تسكن أعماق هذا الرجل، وأي رحابة صدر تكتنف أعماقه؟ تراه بوجه بشوش وابتسامة طاهرة يتحمّل أعباء ومسؤوليات، قد ينأى الكثيرون عن تحملّها . اختار ميدان العمل الإنساني والمدني سلاحاً له في زمن الحرب والسلم في لبنان .

ينطلق في مقاومته من مهنة الطب التي درسها في فرنسا . سنوات عمره عابقة بالنضال السلمي المقبول من الأطراف والفئات كافة . مع الدكتور “الغيفاري” (نسبة إلى تشي غيفارا) يطول الحديث ويتشعّب، والهّم واحد وهو بناء إنسان مواطن ودولة مدنية .

أربعون عاماً في العمل الإنساني والمدني خارج العامل الطائفي والفئوي قضاها الدكتور كامل مهنا يستحق أن يكلل بسيل من التكريمات والأوسمة والجوائز،آخرها جائزة “ليبر برس” الاسبانية، مدعومة بمحبة من الفئات كافة، خصوصاً الشعبية منها حيث آثر العمل في تلك المناطق . أنشأ مؤسسة “عامل” الصحية الاجتماعية التنموية الرائدة في مجالها، لذا استحق أيضاً أن تكتب تجربته في كتاب حمل اسم “ملحمة الخيارات الصعبة” . ماذا يقول الناشط الاجتماعي في النشاطات والتجمعات الداعمة للمجتمع المدني منذ ثلاثة عقود .

هل تعطينا نبذة عن حياتك في العمل الإنساني؟

النشأة كانت في بلدة “الخيام” الجنوبية،على تماس مع فلسطين، ومع الحرمان الاجتماعي التاريخي، الذي تعاني منه المناطق الشعبية في لبنان . أيضاً مع التناقض القومي مع الكيان الصهيوني الغاصب والطموح من أجل التغيير . أنا من عائلة متواضعة، محبة للعلم ومستعدة للتضحية من أجل العمل البنّاء في الشأن العام . وفي ضوء الارتقاء الاجتماعي لمواجهة الإقطاع في المنطقة، انخرطت كفرد في العائلة في الإطار القومي الناصري، وفي فرنسا حيث ذهبت لدراسة الطب، ساهمت بفعالية في تأسيس الاتحاد العام للطلبة اللبنانيين، وترأست منصب أول أمين عام له في العام 1968 وكان يضم 7 آلاف طالب .

أول تحرك قمت به هو إرسال برقية إلى الرئيس الفرنسي آنذاك الجنرال ديغول أطالبه باتخاذ موقف حازم ضد “اسرائيل” بعد عدوانها على لبنان في العام ذاته، ومن ثم اقتحمت مع الرفاق السفارة اللبنانية، وتكرر الأمر باحتلال السفارة والقنصلية في مرسيليا وباريس حين تم أطلاق النار على تظاهرة تأييداً للقضية الفلسطينية في منطقة البربير غرب بيروت . بعد ذلك بشهرين صدر قرار طرد بحقي من فرنسا قوبل بحملة طلابية ودبلوماسية شارك فيها عدد من المفكرين، وكان بين هؤلاء جان بول سارتر، للمطالبة بالرجوع عن القرار الذي ألغي على أثرها، وكانت المرة الأولى التي يلغى فيها قرار طرد بحق طالب أجنبي . . بعدها قامت الحكومة الجزائرية بتقديم منحة دراسية لي من أجل استكمال دراسة الطب في فرنسا .

ما المحطة الأبرز في حياتك؟

ثمة محطة مفصلية رسمت كل مسار حياتي . تمثلت في العدوان “الإسرائيلي” المعروف بحرب 1967 حيث كنا نختبىء كطلاب عرب في الغرف تجنباً لردات فعل الغربيين بشكل عام . هنا شعرت بأن القضية الفلسطينية والمركزية بشكل عام في المنطقة العربية، قضية عادلة والحق يجب أن تحميه قوة . . ثمة شرخ بين القول والفعل . بدأت النضال الخاص بالعمل على الالتحام بالبيئات الشعبية ومساعدة الفقراء والمحتاجين، من خلال استخدام مهنة الطب في إطار فكري تغييري تقدمي راديكالي . وبعد عودتي إلى لبنان افتتحت عيادتي الخاصة إلى جانب عملي في المخيمات الفلسطينية والمناطق الشعبية .

ماذا تعني لك الأوسمة والتكريمات التي حصلت عليها؟

كل تكريم هو حافز من أجل الاستمرار . في الحقيقة نحن نعمل عكس التيار وعلى تطوير الثقافة المدنية في المجتمعات، خصوصاً في ظل العودة إلى العصبيات والفئويات في العالم العربي . إذا جاز الحديث عن فلسفة في العمل فإن ثالوث عملي: إنسان سليم البنية، حر في تفكيره ويتمتع بحقوقه العامة . . أعمل على التطبيق الميداني لمضمون هذه النظرية والقيم في المجتمع . كما أن تجربتي تؤكد أن كل ما أقوم به هو على حسابي الخاص .

هل للعلاقات الاجتماعية التي تربطك بالعديد من الشخصيات المحلية والإقليمية تأثير في نيلك هذه الجوائز والتكريمات؟

أنا من المؤمنين بأن من يعمل في الحقل الإنساني عليه أن يعاني بنفسه المشكلات حتى يستطيع أن يعايش مشكلات الناس . وهو خيار شخصي، وقد حافظت على هذا التوجه ذاته طوال هذه المدة . . لا يمكن أن أسعى للحصول على أي تكريم أو أطلب من أحد تكريمي حتى عندما نلت أول وسام وهو “جوقة الشرف الفرنسي برتبة فارس” في العام 1995 من الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران . . وأخيراً عندما حصلت على أعلى وسام وهو “جوقة الشرف برتبة ضابط” . طلب مني آنذاك الوزير الحالي برنار كوشنير أن أحضر إلى فرنسا لأتسلم الوسام من الرئيس شيراك شخصياً . رفضت العرض وتسلمت الوسام في السفارة الفرنسية في لبنان . النجاح في العمل الإنساني يكمن في البساطة، حتى أنني رفضت بعض التقديمات لأنها كانت في ظل ظروف الانقسام السياسي في لبنان . وما يشجع هو التقدير للجهد وخاصة أن العمل لكل الناس .

كيف تلخص العمل الإنساني وما أهميته في حياتك؟

أعتقد أن العمل الإنساني تحوّل، بعد فترة السبعينيات والثمانينيات، إلى كثير من المهنية والتقنية وأحياناً إلى الاستفادة الشخصية، وبالتالي نجحنا في تحويل المؤسسة إلى مؤسسة عالمية ونطمح إلى أن نعيد العمل الإنساني إلى البعد الحقيقي له وهو الالتزام بقضايا الشعوب المحقة والعادلة .

غالباً ما يراود طموح من يتعاطى العمل الإنساني المنصب السياسي، فهل تميل إلى ذلك؟

أي عمل نقوم به في الحياة هو سياسة، حتى ولو لم نمارس أي نشاط فإننا نوافق على الواقع القائم وهو سياسة أيضاً . هناك سياسة صحيحة وأخرى خاطئة . الأولى قوامها الاهتمام بقضايا الناس . في العام 1996 كانت لي محاولة لخوض الانتخابات النيابية، لم يكتب لها النجاح نتيجة القناعة التامة بعدم الولوج في الإطار الطائفي . منذ تلك الفترة قررت الانصراف عن التفكير في الأمر . ومع تشكيل كل حكومة يتم التداول باسمي كوزير مطروح . شخصياً لا أسعى إلى أي منصب، لكن إذا أتيح لي ذلك فإنني أرغب في تقديم تجربة على هذا الصعيد قد تكون مفيدة .

أخيراً صدر لك كتاب “ملحمة الخيارات الصعبة” ماذا عنه؟

الكتاب يسرد مسيرة حياتي الطويلة في العمل الانساني والمحطات التي عايشتها، والأحداث التي مررت بها . بدءاً من بلدتي “الخيام”، إلى التجربة الطلابية في فرنسا وما شهدتها من أحداث، ثم رحلتي إلى “ظفار” وما تعرضت له في لبنان من مخاطر، ونجاتي من الموت تكراراً، وما عشت من حصار “تل الزعتر” و”النبعة”، كله في سبيل خدمة قضايا إنسانية . . آنذاك كان الإعلامي شوقي رافع يتواصل معي بواسطة لاسلكي وقال لي إنه سيقوم بكتابة تجربتي، وقد حصل ذلك بعد 30 عاماً حالياً نقوم بطباعة النسخة الثانية من الكتاب .

كيف لنا العمل على تطوير الثقافة المدنية؟

يجب أن يعي كل واحد منا، أنه ورث اسمه ودينه ومكان ولادته، فلا فضل له في ذلك . إن ما نستطيع القيام به معاً هو الإنجاز الذي نقدمه للمجتمع، وإن أكبر معضلة في عالمنا العربي هي ثقافة تعظيم الذات وترذيل الآخر . أول خطوة يجب العمل عليها هي الاعتراف بالآخر الذي نختلف معه .

>>

..

عن جريدة الخليج

تعليقات: