«الخليلان».. نجما الأزمات والحلول اللامعان في سماء «السيد» و«الأستاذ»

 حسين خليل وعلي حسن خليل(م. ع. م)
حسين خليل وعلي حسن خليل(م. ع. م)


هاتفاهما لا يشبهان الهواتف الأخرى. الذبذبات الصادرة بين مكان ما ومكان ما آخر كفيلة بأن تحمل مفاتيح الحل والربط لأكثر العقد استعصاءً. قد يكون من الظلم، بل هو الظلم بعينه، تشبيه حامليهما بـ«سعاة البريد» أو «سعاة الخير»، ما دام الجالسان في حضرة «أقطاب الخلاف والحل والربط» يعكسان بأمانة هالتي «السيّد» و«الأستاذ» ويلتزمان حرفيا بحدود لعبة المطالب والمطالب المضادة.

هما «الخليلان». أشهر من نار على علم. باتت تصعب «فكفكفة» عقد الأزمات، على اختلاف أوزانها، من دون لمساتهما التفاوضية. «الخليلان»، شئنا أم أبينا، «ماركة مسجّلة» مطبوعة حصرا على الملفات الحساسة. أما «براءة الاختراع» فمحفوظة للضاحية وعين التينة. الصيت ليس حكرا على الملعب اللبناني. في دمشق، المسؤولون السوريون، من قمة الهرم وما دون، يستخدمون مصطلح «الخليلين»، ويراهنون كثيرا على حنكتهما في تسييل «حديد» الخلافات، حتى صهرها وخلق مولود جديد.

حسين خليل، ابن برج البراجنة، تلميذ العاملية. العائلة الفقيرة والمتواضعة والمثابرة. سليل مدرسة موسى الصدر السياسية. ابن «أمل» الذي أغرته ثورة إيران وأفكار الخميني، فقرر أن يكون مع «حركيين» آخرين جزءا من النواة المؤسسة لولادة «حزب الله» بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، وصولا إلى يومنا هذا.. عضوا في «شورى القرار».. وعلى الخط مع «السيد» على مدى 24 ساعة.

علي حسن خليل، ابن بلدة الخيام الجنوبية المناضلة. المتخرج من الحقوق. في البدء «أمل» وبداية الشهرة الحركية إدارته ملف وادي أبو جميل. الوزير السابق. النائب الحالي. الحائز امتياز «رجل المهام» من بين كافة زملائه في «كتلة التحرير والتنمية»، وفوق ذلك كله رتبة لم يسبقها أحد إليها من قبل: المعاون السياسي لرئيس حركة «أمل».

يوميات الرجلين ليست أبدا كيوميات الآخرين من جيلهما السياسي. وحدهما «أجندة» الحاج حسين الجلدية المرقطة بالأخضر والبني، بنسخاتها الكثيرة جدا.. ودفتر «النوت» الذي لا يفارق علي حسن خليل، كفيلان بكشف سجل «المهام المعاصرة» من زمن الحريري الأب إلى زمن الحريري الابن. هذه الذاكرة الخطية لا تلغي ذاكرة شفهية مدربة ومجربة ويصعب أن يجاريها آخرون، شفاهة أو كتابة.

لا يكتفي الحاج حسين بتدوين الأفكار. تذهب بصيرته إلى تسجيل التفاصيل الدقيقة. اللباس. المزاج. اللهجة. الانطباع. وعندما يفتح الخط الداخلي أو يلتقي «السيد» مباشرة، ينتهي الأمر بالأمين العام ملما بالتفاصيل، كأنه كان حاضرا مع نبيه بري أو سعد الحريري أو رفيق الحريري أو ميشال عون أو نجيب ميقاتي أو سليمان فرنجية... الخ. وما لا تجد أنامل الحاج وحبره وقتا لتسييله على الورق، ستضيفه كاميرا ذاكرته الدقيقة التي لا يفوتها أدنى تفصيل صغير. يشعر «السيد» وبقية أركان الحزب بالأمان. الأسرار. الوقائع والتحليل بلغة عربية صافية وعالية تظللها لكنة أهل البرج. وإذا سمح المجلس أحيانا فلا بأس بالتطعيم بالانكليزية... لكأنك تجلس في حضرة أستاذ جامعي بامتياز.

الدفتر الذي لا يفارق النائب «الحركي»، أثار حشرية أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في مؤتمر الدوحة في أيار 2008. يكتمل نصاب احدى الجلسات. يقترب الأمير من سعد الحريري ويهمس في أذنه. عندها يلتفت الحريري صوب علي حسن خليل قائلا «اشارطكم انه دوّن لتوه ما حصل الآن». أثار الأمر اهتمام الامير حمد، فاستأذن الرئيس بري وطلب الاطلاع على دفتر «النائب المجتهد». قرأ خليل امام الجميع بصوت عال: «... ثم همّ الامير بوشوشة الحريري». اطلق الحاضرون العنان لضحكة شكّلت علامة فارقة على امتداد تلك الايام التي اتلفت اعصاب القطريين.

في الدوحة تحديدا، كانت المرة الاولى التي يغيب فيها طيف «الخليل الثاني» عن حبك خيوط التسويات. فاقتضى «بروتوكول» الدوحة تنقّل النائب محمد رعد بين قاعات الفندق بدلا من المعاون السياسي للسيّد حسن نصر الله... الذي كان يواكب عبر الهاتف وينقل التفاصيل لـ«الأمين العام».

بطبيعة الحال، لا ينتمي «الخليلان» لجيل واحد. الحاج حسين من الجيل المؤسس. جيل نبيه بري والامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين. عاصر رفيق الحريري ورافق المهام السرية والعلنية مع حافظ الأسد ثم مع بشار الأسد. كانت له صولات وجولات في محطات شكلت علامات فارقة في التاريخ اللبناني الحديث: حرب تصفية الحساب في تموز 1993. حرب عناقيد الغضب في نيسان 1996. التحرير في الألفين. حرب التمديد. اغتيال رفيق الحريري. حروب المحكمة والقرارات الدولية... حرب تموز 2006.

ولحرب تموز تحديدا مراراتها مع «الحاج حسين». اسرار وأسرار. بعضها مدون وبعضها محفوظ في الذاكرة. مقر المعاون السياسي طار كما مقر الأمانة العامة. في مكتب الحاج حسين انعقدت جلسات وجلسات أفضت الى «التحالف الرباعي» السيئ الذكر الذي أعطى سعد الحريري و14 آذار الأكثرية في انتخابات العام 2005... وعندما تسأل الحاج حسين عما اذا كان قد فقد بعض «الأجندات» المليئة بالأسرار، يكتفي برسم ضحكة محيرة....

وفي المقابل، حتى يقرّر ابن الخيام الافراج عن اسرار دفتره وكشف المستور عن أكثر المراحل حساسية بعد العام 2005، خصوصا مرحلة حرب تموز، لا بأس من الاضاءة على «التابوه» المحيط بحركية رجليّ المهام السرية والصعبة، حاملي «اطباق» مشاريع الحلول إلى موائد الخصوم والحلفاء.

تآلف «الحاج علي» سريعا، منذ فترة طويلة، مع قواعد الضاحية (ولو أنه قرر مؤخرا الرحيل عن الشياح بعدما اقام فيها طويلا). فضبط ساعته على مواقيت «المايسترو». رجالات «حزب الله»، وبينهم طبعا الحاج حسين خليل، يفضّلون اللقاءات الليلية المتأخرة لجوجلة جهود النهار. الهاتف وسيلة الاتصال الأساسية. يدرك الاثنان ان خطوطهما مراقبة. يدفعهما الأمر الى اعتماد شيفرة خاصة للتفاهم والتنسيق، وأحيانا كثيرة إيصال رسائل «مقصودة»... طالما أنهما تحت الرصد.

احكام الضرورة تفرض احيانا اتباع السرية المطلقة في الاتصال. يتّخذ الحاج حسين خليل، بحكم موقعه السياسي والأمني، اجراءات تفوق بحساسيتها تلك التي يعتمدها نائب «أمل» الأكثر تحررا من عبء «التمويه». لكن بالمحصلة، حتى وان كان الاثنان «خارج السمع»، فإن لهما طرقا خاصة في أن يجد احدهما الآخر. لا شكليات ولا بروتوكول. ضمن مساحات «الوقت الحر»، غالبا ما تكون وجبات الطعام مشتركة، كذلك اوقات الاستراحة من هموم الملفات وتعقيداتها، بحضور أصدقاء مشتركين أبرزهم الحاج وفيق صفا ويوسف فنيانوس المعاون السياسي لرئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية... ورفيق المهام جبران باسيل.

ثمة قواسم مشتركة بين «الخليلين»، اولها وأهمها، ان الثنائي يحظى بثقة مطلقة من قبل مرجعيته السياسية. الاثنان كاتما اسرار «الاستاذ» والسيد»، وينطقان بلسانيهما، باحتراف حبكته سنوات التجربة الطويلة. يحضر الاجتهاد من دون ان يؤثر على الجوهر. «مهنية» عالية لا يتقنها الا اصحاب الخبرة. اما القاسم المشترك الطريف فهو «النقّ». ينقّان على تصلّب هذا وعناد ذاك وهواجس ثالث... مساحة «حرة» من فشّة الخلق، تتبخّر حين يحين اوان التسلّح بالأعصاب الباردة لعبور نفق المفاوضات، من دون ان تقود «الفدائيين» الى الاستسلام لعبثيتها.

طباع مختلفة تميز شخصيتي الرجلين، لكن مهام الـ «ديو» أذابت الكثير من نقاط التباعد. التجربة راكمت رصيدا مشتركا، سمح للاثنين بإتقان فن عدم استفزاز الآخر بالدرجة الاولى.

ما هو سرّ «الخليلين»؟ هو السهل الممتنع. هو مسار تلك العلاقة المتراكمة بين «الأستاذ» و«السيد»، حتى اصبح «الخليلان» جزءا اساسيا منها. ليس فقط بوجهها السياسي، انما ايضا بجانبها الانساني والاجتماعي والشخصي. وكلما كانت المسافة على خط الضاحية ـ عين التينة تزداد قربا وصلابة، توسّعت دائرة الملفات المشتركة المجيّرة لـ«الخليلين».

واقع أسّس لما يشبه «العرف» في العمل السياسي، خصوصا بعد العام 2005. في الأزمات، «الخليلان» حاجة وليسا ترفا. لا يتشابه الرجلان كثيرا في طلتيهما على المسرح السياسي. «العِشرة» اكسبتهما قدرة التمرّس في «فن التفاوض»، في اسلوب طرح العروض... والاستماع الى العروض المضادة، والاهم استيعاب «عقد الآخرين» السياسية... والنفسية.

يجالس الحاج حسين الملوك والأمراء والرؤساء ولا يغادر بساطة ابن البرج. وعندما يتعب ويحتاج الى فسحة راحة، يستريح مع البسطاء والفقراء حول نارجيلة ونافورة أحد البيوت المتواضعة القديمة في برج البراجنة أو في ملعب شبابي يضج بالكرات والصرخات الشبابية و«قرقرات» النراجيل ورنين الهواتف الخلوية.

هامش المناورة يظلّ اكبر عند «سعادة النائب» المتفلّت من ضوابط السرية في التحرّك والتنقل والبقاء في الظل. المتحرّك بخفة بين منابر «كتلة التحرير والتنمية» من بيروت وصولا الى الجنوب. «الحاج حسين» حالة خاصة، يفرضها موقعه في هرمية «حزب الله». لا عرض عضلات على المنابر. لا كلام في مواسم الانتخابات واللوائح بل شغل في صلب مطابخها. لا رسائل اعلامية مباشرة، ولا مبارزات مع الخصوم على شاشات التلفزة... للرجل هالة الظلّ. خرقت، بقرار من نصر الله نفسه، يوم عقد المعاون السياسي لـ«السيد» مؤتمرا صحافيا في العام 2006 لكشف، كما قال يومها، موقف النائب سعد الحريري «الحقيقي» من العدوان الاسرائيلي من خلال رسالة موثقة نبشَها من «ارشيف الحرب»، وسلّمها آنذاك «الرسول» وسام الحسن الى القيادة وتتضمّن طلب تعهد و«التزام شرف».. لو شفهيا من نصر الله بتسليم سلاح المقاومة من اجل وقف حرب تموز، والا فإن الحرب ستستمر.

«الحاج حسين» يهوى السياسة في الليل. هو الادمان على الظل والسهر وحياكة الحلول. لا يهوى الاعلام ولا العلاقات مع الصحافيين. معارفه كثر. في الحياة العامة كما في الحزب. لكنه في الحزب نفسه، يقنن صداقاته، بحيث لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. رجل السرّ لا يخرج الى العلن، الا ملوحا «بكشف المزيد إذا أصروا على تعمية الحقائق».

تفهم ما يريد أن يقوله الحاج حسين خليل ليس فقط مما قاله بل أحيانا من نبرته... وعندما ينفعل سلبا أو ايجابا يترك العنان لنفسه يروح ويجيء في غرفة أو قاعة. واذا انوجدت السبحة، فلا بأس بها صديقة.

اذا كانت الصدفة قد لعبت دورها في تقريب مسافة الالتقاء بين «الخليلين»، فان اختيارهما ليشكّلا معا ثنائي حل العقد جاء عن سابق تصوّر وتصميم من مرجعيتيهما السياسيتين.

علي ابن الأربعة عشر ربيعا ينزح من الخيام، البلدة الجنوبية، الى برج البراجنة مسقط رأس حسين خليل، ابن الخامسة والعشرين، المسؤول المحلي في «حركة أمل». احتكاك تنظيمي خجول قدّر له، مع فارق العمر، ان يرسم بدايات مسيرة مشتركة في العمل النضالي على «الجبهات» السياسية وفي الغرف المغلقة.

خلال الاجتياح الإسرائيلي ثبّتت البوصلة الحزبية لكل من ابني البرج والخيام. الأول انتقل الى صفوف «حزب الله» والثاني صعد سلّم المسؤوليات «الحركية». جاءت حرب 1988 بين «الأخوة» لتضع «الخليلين» في متراسين متواجهين.

حضور «الخليلين» بات من ثوابت الجلسات الثنائية بين «السيد» و«الأستاذ». الحاج حسين خليل يتحدث بإعجاب كبير وبشيء من القداسة عن «السيد». علي حسن خليل يكاد معجبا 24 على 24 بالرئيس بري، حتى أنه يحاول أن يطارده في أحلامه الليلية، حتى لا تغيب شاردة أو واردة، إلى درجة أنه صار من «أهل البيت» ومن المصنفين في معسكر فلان ضد فلان.

ندر أن تجد حزبيا يغار من الحاج حسين. هذه طبيعة عمل الحزب ـ المؤسسة. في البيت الحركي، «الغيارى» كثر من «المعاون السياسي». غيرة من اللقب والقرب من «دولته». من الدور. من الخطاب. من المهام على خطوط الضاحية ودمشق وبنشعي والرابية و«بيت الوسط» وفردان.... يهوى الهمس وهذا ما تشي به حركة عينيه ونظارتيه. عندما يصل علي حسن خليل الى صالة «الكزدورة» اليومية في عين التينة، سرعان ما يتأبط يد «شريك». يهمسان. يتآمران، وتكون ضحيتهما ثالثا أو رابعا...

يكاد «العجن» اليومي لطبخة تأليف حكومة نجيب ميقاتي يقود «الخليلين» الى اعلان «حالة القرف». طبعا اختبر الرجلان ملفات أكثر حساسية، لكن ما حصل في الأشهر الاربعة الماضية اصابهما بالاحباط. دخول جبران باسيل حلقة «الخليلين» قبل اربع سنوات تقريبا، وان على نطاق محدّد وضيّق، زاد طين الهموم بلّة. باعتقاد كثيرين الوزير العوني صعب المراس وعنيد اكثر من ميشال عون نفسه. ربما، في تحليل البعض، لكونه لا يتخذ القرار، انما ينفّذه حرفيا من دون ان يرفّ له جفن الحرج من الذهاب بعيدا في «صبّ» السقوف العالية. شهية الحلفاء المفتوحة على «ابتلاع» الحقائب همّ بالزائد، مع قناعة «الخليلين» ان جميع الاطراف المعنية بالتأليف لم تبد، منذ البداية، مرونة في التفاوض. من رئيس الجمهورية الذي لم يستوعب حتى الساعة حجم «الانقلاب» وخروج الحريري من الحكم، الى «هواجس» نجيب ميقاتي، وذعر «14 آذار»، وصولا الى جشع المقرّبين من الحلفاء أو حلفاء الحلفاء.

لا يطمح الحاج حسين خليل الا أن يكون جنديا في جيش المقاومة والسيد حسن نصر الله. ولا يطمح علي حسن خليل الا أن يكون جنديا في جيش الرئيس نبيه بري.

تعليقات: