إقطاعيّة «أوجيرو»: نموذج العنزة التي تقضم الدولة

رئيس هيئة «أوجيرو» عبد المنعم يوسف (أرشيف)
رئيس هيئة «أوجيرو» عبد المنعم يوسف (أرشيف)


لا يطرح حادث مبنى الاتصالات في العدليّة أسئلة حول علاقة المديريّة العامّة للأمن الداخلي بوزارة الداخليّة وحسب، بل أيضاً علاقة هيئة «أوجيرو» بوزارة الاتصالات. فما قصّة هذه الهيئة التي تتصرّف كوزارة موازية؟ هنا محاولة للإجابة

8

قليلون كانوا يعون خطورة وجود فؤاد السنيورة الى جانب رفيق الحريري. فالأكثرية نظرت إليه بوصفه موظّفاً يتلقّى الأوامر والتعليمات وينفّذها، لكنّ النتائج التي أدّت إليها المرحلة «الحريرية» على صعيد بنية الدولة والاقتصاد وإدارة السلطة، أثبتت أن السنيورة لم يكن يوماً مجرّد لاعب هامشي، بل يمكن وصف دوره بأنّه الأكثر تأثيراً في تحديد هويّة تلك المرحلة والأدوات التي استُخدمت للانقلاب على الطائف، بحسب تعبير النائب السابق ألبير منصور، والاستيلاء على السلطة بالوسائل غير الدستورية.

فالسنيورة هو صاحب نظرية «العنزة»، لكنها ليست «العنزة التي طارت» فقط، بل أيضاً «العنزة» التي تتغلغل في البستان وتقضم أفضل ما على أشجاره، فتتغذّى من الضرر الفادح الذي تحدثه... لقد نجح السنيورة في جعل نظريته أساساً يرتكز عليه الحريري في ممارسته للسلطة وإدارته لآليات توزيع منافعها، وتجلّى نجاحه اكثر بعد اغتيال الحريري نفسه ووصوله الى رئاسة مجلس الوزراء في عام 2005، بحسب ما تدلّ عليه نماذج كثيرة، منها نموذج هيئة «أوجيرو» الذائعة الصيت.

هذه النظرية، التي أعجب بها الحريري وعمل على هداها، تقوم على المزاوجة بين نقيضين: التمسّك بالدولة وقضمها من الداخل لإضعافها والسيطرة عليها، أو بمعنى آخر: إيجاد تراكم من البناءات المتتالية (البناء على البناء وهكذا دواليك) بما يجعل شرعية السلطة وقدرات ممارستها مبنية على مجموعة من القوانين والمراسيم والقرارات الجائرة والتفسيرات والاجتهادات الملتبسة والأعراف التي تحوّل كل استثناء الى قاعدة دائمة والمؤسسات والإدارات البديلة أو الموازية أو الخفيّة... بحيث لا تعود هناك أي قيمة فعلية للدستور، ولا يعود هناك أيضاً أي وزن للمؤسسات «الدستورية».

لم يحصل ذلك دفعة واحدة، أو بغتة، بل عبر عملية معقّدة وطويلة جداً، تمتد زمنياً منذ التصديق على قانون «سوليدير» في عام 1991 حتى احتلال فرع المعلومات لمبنى وزارة الاتصالات بناءً على طلب من رئيس هيئة «أوجيرو» ومديرها العام، عبد المنعم يوسف. فما جرى في هذه المرحلة هو عملية قضم السلطة شيئاً فشيئاً ووضعها خارج الحدود التي يرسمها الدستور.

تمثّل هيئة «أوجيرو» نموذجاً فاقعاً لترجمة عملية القضم ونقل السلطة. فهذه الهيئة، التي يتذرّع باستقلاليتها الفريق الحاكم فعلياً لكي يمارس سلطته على قطاع الاتصالات (بما فيه من أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية وتجارية)، بنيت بطريقة مثيرة تدفع الى الدهشة لقدرة هذا الفريق على «بلف» كل شركائه... ففيما كان البعض يبحث عن «نتش» حصّة ما من ريوع هذا القطاع، كان السنيورة يهمس في أذن الحريري: «لماذا يجب أن نعطي مما يمكننا أن نستولي عليه كلّه من دون أن يدري أحد؟».

فهيئة «أوجيرو» التي حظيت برعاية السنيورة الخاصّة، ليست موجودة في الواقع القانوني على النحو الذي هي عليه الآن، إذ وُجدت من لا شيء، حتى صارت بمثابة «مملكة» لا سلطة عليها ولا من يحزنون. وتعود قصّتها الى زمن بعيد جدّاً، عندما أنشأ الانتداب الفرنسي شركة «راديو أوريان» في عام 1922 جزءاً من منظومته لتأمين الاتصالات الراديوكهربائية بواسطة اللاسلكي بين فرنسا ومستعمراتها في باقي العالم، وقد دام امتياز «راديو أوريان» نحو 50 سنة، لغاية عام 1972، عندما استردّت الدولة اللبنانية الامتياز بموجب القانون الرقم 21/72 (إنشاء هيئة إدارة واستثمار منشآت وتجهيزات شركة راديو أوريان المنتقلة إلى الدولة اللبنانية).

ليس ثمة أي أساس قانوني لوجود «أوجيرو» إلا هذا القانون، وهو ينص بوضوح على أنّ منشآت «راديو أوريان» تنتقل ملكيتها الى الدولة اللبنانية (ممثلة بوزارة الهاتف والبريد والبرق) وتتسلمها هيئة من 3 أشخاص.. لكن نحو 250 موظّفاً كانوا في ملاك الشركة مارسوا ضغطاً سياسياً للمحافظة على امتيازاتهم، فاستُثنوا من قانون صدر بعد أسبوعين فقط، يرعى عمل المؤسسات العامّة وملاكاتها، فأصبحت هذه الهيئة تتمتع بامتيازات لا تحظى بها المؤسسات المماثلة الأخرى في الدولة.

لم يكن أي من الأطراف المسيطرين حينها مهتماً بهذه الوضعية، فالهيئة لا تمتلك شيئاً وكان من المفترض أن تزول بعد التصرّف بالمنشآت المنقولة الى الدولة ومعالجة مسألة الموظفين، لكن الأحداث التي اندلعت بعد عامين أدّت إلى استمرارها، وهو ما دفع برئيس الجمهورية في عام 1975 إلى الموافقة على توفير بعض المداخيل لها لتكون قادرة على تسديد الرواتب لكونها لا تمتلك ايرادات خاصة، فصدر مرسوم يخالف قانون إنشائها يكلّفها بتنفيذ عقد المكننة لمصلحة وزارة الاتصالات. وكان هذا العقد هامشياً في ذاك الحين، ولا يعدو كونه حجّة لدفع الرواتب للموظفين المستمرّين بحكم الأمر الواقع بسبب الحرب. غير أن هذا التكليف سمح لهيئة أوجيرو بممارسة بعض المهمات الموكلة إليها من وزارة الاتصالات وتحت وصايتها وبموجب الرقابة المؤخرة لديوان المحاسبة. بمعنى أن وزارة الاتصالات بقيت هي الحائز الحصري لحساب الدولة اللبنانية على جميع أصول وموجودات وحقوق إدارة واستثمار البنى التحتية وشبكة الاتصالات والخدمات والمنتجات المتفرّعة عنها، وذلك وفقاً لأحكام المرسوم الحكومي الرقم 3585 الصادر بتاريخ 25 تشرين الأول 1980.

لكن الصورة تغيّرت جذرياً بعد وصول الحريري الى رئاسة الحكومة عام 1992، فقد صدر المرسوم الرقم 5613 بتاريخ 5 أيلول 1994، الذي يكلّف «أوجيرو» بأعمال صيانة البنى التحتية والشبكات الهاتفية الثابتة (الشبكة الأرضية)، ثم صدر قرار عن مجلس الوزراء برقم 27/95 تاريخ 28 أيلول 1995 يكلّفها بالدراسات العائدة لتنفيذ وصلات المشتركين الجدد لشبكات الهواتف الثابتة (الشبكة الأرضية) وتنفيذها... لكنّ هذين التكليفين لم يستندا الى القانون 21/72، بل بنيا على السابقة التي حصلت في عام 1975. بعد ذلك، كرّت السبحة، فكلّفت الوزارة «أوجيرو» بمختلف أعمال الإشراف وتنفيذ الأشغال والخدمات على الأسلاك البحرية والأقمار الصناعية وحجرات الهاتف، وتأمين وصل شبكة الإنترنت والـ DSL لدى المشتركين بشبكة الهاتف الثابتة (الشبكة الأرضية) وبطاقات الهاتف، وإدارة الوكالات التجارية (نقاط البيع)... أي كل ما يعود الى وزارة الاتصالات فعلياً، بما في ذلك التحكّم في الشبكة وفي القطاع الخاص وخطوط الكوابل الخارجية، ومنها كابل IMEWE الذي يفتح مجالات هائلة أمام تطوير خدمات الاتصال، ولا يزال معطّلاً بقرار من يوسف.

وزارة الاتصالات بلا سلطة

نُقلت سلطة وزارة الاتصالات وصلاحياتها الى هيئة «أوجيرو»، فأصبح قطاع الاتصالات غير خاضع فعلياً لسلطة الوزير الدستورية، وتحوّلت «أوجيرو» من مقاول لمصلحة الوزارة، بلا موارد مالية أخرى، إلّا ما يحوّل إليها، إلى «مملكة» تسجّل ممتلكات الدولة كموجودات، وتخترع أسماءً لها، كشركة أوجيرو تليكوم، وتروّج لنفسها باعتبارها «المشغّل الوطني للاتصالات»، وهو ما دفع بوزير الاتصالات الحالي الى الادعاء على الهيئة بتهمة الاستيلاء على ممتلكات الدولة، وتزوير صفة الهيئة والاسم الذي تعمل تحته.

وقد أضحت «أوجيرو» ربّ العمل الثاني لمعظم موظّفي الوزارة نفسها، نظراً إلى المرونة المالية التي تتمتع بها، ووصلت نفقاتها في عام 2009 الى نحو 233 مليار ليرة.

لم يكن ممكناً الوصول الى هذا الوضع لولا المراسيم الصادرة عن مجلس الوزراء، إذ إن وزارة الاتصالات كانت بحاجة إلى إصدار مثل هذه المراسيم لأنها تخالف القانون الذي تخضع له أوجيرو»، بمعنى أن مخالفة القانون كانت تستدعي تغطية من مجلس الوزراء، وانطلاقاً من ذلك، وُضعت اليد على كل مفاصل قطاع الاتصالات، وبات الوزير غير قادر على ممارسة سلطة الدولة على القطاع الذي يخضع له، وأصبح القطاع، الذي يقدّر حجمه السنوي بأكثر من 2.1 مليار دولار، خارج نطاق سيطرة الدولة الفعلية، ويخضع لأهواء الفريق الذي يحكم هيئة «أوجيرو».

تعليقات: