نحو عدالة اجتماعية..

نحو عدالة اجتماعية..
نحو عدالة اجتماعية..


.. جميل أن تستنفر مشاعرنا وتثور فينا الغيرة والحمية دفاعاً عما هو معمول به من قوانين ومأخوذ به من تشريعات دينية فيما لو تهددت هذه القوانين تشريعات مزاحمة أو بديلة, ولا غرابة أن نرى الحماسة في الإعلام والشارع ونسمع هتافات التنديد وربما الوعيد لكلّ من تسوّل له نفسه المساس بقداسة التشريع وحرمته, إلّا أنّ المفارقة تكمن بأن الحماسة المرجوّة لا نجد زخمها في تطبيق التشريعات الدينية والالتزام بها والخضوع لها وحمايتها من كلّ تأويل أو تبديل يؤدي إلى تضييع الحقوق وتمييع العدالة وتكريس منطق الجور والفوضى .

وبعيدا عن التنظير فإنَّ ما طرح مؤخراً من قبل بعض الجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني حول مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري والذي رأى فيه البعض تحدّياً صريحاً لقوانين الأحوال الشخصية الدينية, ومحاولة مكشوفة لإلغائها واستبدالها بنصوص وتشريعات غريبة عن القيم السماوية التي تبانى عليها اللبنانيون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم, وربما ذهب البعض الآخر إلى اعتبار المشروع المقترح محاولة لتقويض السلطة الدينية في لبنان ونقطة البداية نحو دولة مدنية علمانية تنطلق من محيط الأسرة لتصل إلى مجتمع كلّي لا مكان فيه ولا حاكمية لتشريعات وسنن تحمل صفة طائفية أو مذهبية .

لقد تعوّدنا في لبنان منطق التعميم ومحاسبة النوايا وإطلاق التّهم جزافاً دون أن نكلَف أنفسنا عناء القراءة النقدية المنفتحة أو المواجهة الحوارية الهادئة التي تقودنا إلى تبنّي مواقف منصفة ومرتكزة على أدلة وبراهين علمية تلزم المقابل الحجة والبرهان, وتبقي المجال مفتوحاً أمام تقبّل الآخر والاعتراف بقواسم مشتركة معه دون إلغائه ورفضه بالمطلق .

إنَّ عدم الاعتراف بوجود تمييز جندري في العالم العربي وفي لبنان على وجه الخصوص وإنكار تعرّض المرأة للعنف الأسري في مربعات قبليّة ومجتمعات عربية لا زالت تنتمي إلى العصور الوسطى مكابرة واضحة ومكشوفة تفنّدها الإحصاءات المحدثة حول الجرائم اللاإنسانية التي تتعرّض لها المرأة تحت مسميات مختلفة كجرائم الشرف وغيرها من عناوين تنبذها الاديان وتستقبحها الفطرة السليمة, كذلك فإنَّ الادعاء بأنّ دوائر الأحوال الشخصية الدينية تملك من القدرة والصلاحية على تذويب هذا الواقع المرير والمتراكم من العنف المستمر تنافخ ومصادرة ليس إلّا, غير أنَّ الاعتراف بقصور الدوائر الدينية عن تحقيق واقع العدالة المرتجى لا يمسّ جوهر الأديان بصلة ولا يلحق بها الاتهام بمحاباة الرجل على حساب المرأة وتكريس منطق التعنيف وتطبيعه كواحدة من السنن الإلهية الكونية, بل على العكس من ذلك فإنّ ما جاءت به الأديان هو الرحمة والعدالة والمساواة في الإنسانية وأمام الحقوق والواجبات المتبادلة .

من هنا فلا بدّ من التواضع والاعتراف بالحاجة إلى قوانين مساندة وموائمة ومواكبة لدوائر الأحوال الشخصية الدينية لا بديلة عنها سيما وأنّ مقترحي هذه القوانين قد صرحوا بأنها ليست بديلاً ملغياً كما ورد في المادة 26 من نصّ مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري والذي تمّ إحالته من قبل الحكومة اللبنانية بتاريخ : 28 / أيار / 2010 إلى المجلس النيابي, والتي جاء فيها :" في حال تعارض الأحكام الواردة في هذا القانون مع أحكام قوانين الأحوال الشخصية وقواعد اختصاص المحاكم الشرعية والروحية والمذهبية تطبق أحكام الأخيرة في كل موضوع ."

إنَّ تحقيق العدالة وتقويض العنف في دائرة الأسرة أيّا كان مصدره سواء من الرجل أو من المرأة من خلال الاستعانة بجهاز قضائيّ تنفيذيّ يأخذ في أولوياته احترام سلطة المحاكم الدينية ويراعي اختصاصها ولا يتجاوزها, كما يرعى احترام الخصوصيّة الزوجية التي لا يجوز انتهاكها إلّا في حالات الضرورة القصوى المستدعية للتدخّل الخارجي لأسباب قاهرة.

إنَّ تطوير برامج الحماية الأسرية التي تبدأ بالمرأة حاجة إجتماعية لا ينبغي رفضها بحجة عدم شمولها لأفراد الأسرة الآخرين سيما الطفل والمسنّ, وذلك عملاً بقاعدة ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه, على أن تكون الانطلاقة مشجّعة لبرامج داعمة تستهدف كافة أفراد الأسرة والمجتمع المحتاجين للدعم والمساندة .

* الشيخ محمد أسعد قانصو

Hotmail.com@Cheikh_kanso

تعليقات: