مشوهون


.. يقف أمام المرآة محدّقاً بما تركه القدر من أثر مخيف على سحنة وجهه, وما بدّلته الأيام وأخفته من تقاسيم كانت تعيده إلى صورته الأولى, ويحاول ترميم شكله مقتنعاً بأنّ الساكن في المرآة خلاصة الأنا وحقيقة الذات ولكن! ..

تَعِبٌ ومرتبك وقد أنهكه الفصام بين صورة المظهر ومعدن الجوهر, وربما أتعبته أكثر تلك العيون الجائعة التي تنهش ما تبقّى من تفاصيل قديمة في وجهه المحروق, وتغرز حراب أسئلتها في صحراء خدّيه الجديبين, فلا يقوى على المواجهة ولا يختار الهروب .. لكنّه يخفي انكساره ليظهر سخطه المتعملق على مجتمع الفرجة والفضول ..

.. التقيته مرة, وقادنا الحديث إلى اقتحام المكنون, وأدركت من خلال كلماته وفواصله وما بين السطور أيّ قيمة غزيرة يحويها, لم تطّلع إليها النّار وأظن أنّها عصيت على تذويبها ..

حدّثني صديقيّ " المشّوه " - كما يسميّه أهل الحيّ الشرقي جداً – عن الأصالة والثبات في عالم المتغيّر وعن فولاذية المبادئ والقيم, وصلابة المواقف رغم التحديات .. حدّثني عن السطحية والقشرية ومنطق الغرائزية والانفعال, وعن المتلوّنين والباعة وجمهور الغوغاء ..

حدّثني عن الشعر والأدب وروعة السكون, عن الطيور والأشجار والأوتار والفنون, عن الرجل والمرأة والحبِّ والفتون, عن التعصرن والتمدّن والتعقّل والجنون ..

يا سادتي القرّاء .. في محضر صديقي " المشوّه" شعرت بالانكشاف, وأيقنت بأنّه مهما طال وقوفنا اليوميّ أمام المرآة الصباحية فلن نستطيع ان نخفي تشوّهنا, ولن تستطيع مساحيق الزينة تحسين القبيح !.

لكنّنا ورغم تشوهنا نكابر, وندعي امتلاك مقاليد الأرض ومفاتيح الجنان, وأننا زبدة الأمم تحضّراً وتطوّراً ورقيّا, وأنّه من حقنا أن نعيب على الآخرين تشوّههم, بفضل أقنعتنا التي لو انكشفت للحظة توسّلنا الظلام ستّار العيوب ..

مشوّهون نحن .. حين أخذنا من الدين ما يرضي غرائزنا وتركنا منه ما يرضي عقولنا !.. مشوّهون نعم حين تملّكنا الغرور وأطلنا الوقوف على الأطلال نتغنى بأمجاد العرب القدماء وما حفلت به مكتباتهم, دون أن نأخذ من تلكم المكاتب ما يبني مدرسة أو يشيد مصنعاً أو يرفع بنيان حضارة ..

المشوّه الحقيقي يا سادتي من توقف لسانه عن التعبير, وقلمه عن الكتابة, وعقله عن التفكير, وفكره عن الإبداع !

بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو

تعليقات: