متنزهون يحوّلون الأحراج مستوعباً للقاذورات الموقوتة وحرائق

متنزهون يحوّلون الأحراج مستوعباً للقاذورات الموقوتة وحرائق
متنزهون يحوّلون الأحراج مستوعباً للقاذورات الموقوتة وحرائق


بين سندان حرّ الصيف ومطرقة المواطن الباحث عن فسحة تفش خلقه وعائلته بما تيسّر، تتّسع دائرة خطر الحرائق الذي يتهدّد المنزهات البرية. خطر قد يتسبب فيه رواد الطبيعة بما يتركون وراءهم من نفايات يمكنها إذا ما تفاعلت وأشعة الشمس أن تأتي على الأخضر واليابس فيها. والى الروّاد المصنّفين بحسب الدراسات البيئية الأخيرة الأُول بين المسبّبات لعدم اهتمامهم ولسلوكياتهم الخاطئة تجاه الثروة الحرجية، تتحمّل الجهات الرسمية جزءاً من المسؤولية لعدم تطبيقها قانون الغابات وما ينص عليه لجهة نواطيرها او حراسها. تطبيق تقصّر عنه معظم البلديات في لبنان لعدم توافر الجهاز البشري لديها والإمكانات المالية اللازمة لحماية المساحة الخضراء التي تترك سلامتها رهن ضمائر المواطنين الهادفين للتوفير ورهن محاولات توعية تتولاها بعض الجمعيات المدنية ومتابعات خجولة تفتقر الى الحوافز من قبل اصحاب الشأن.

اعتادت عائلة نبيل قصد الحرج القريب من الضيعة للتنزه في آخر أيام الأسبوع حيث يمكن لأفرادها التمتع بالطبيعة وإقامة حفلة الشواء الأسبوعية في الهواء الطلق، كما انها اعتادت التفرّغ ولنحو نصف ساعة من وقتها لتنظيف المكان قبل الاستقرار فيه وتطهيره من مخلّفات من سبقوهم اليه. في كل مرة وقبل ترك المكان كان نبيل يعمد الى كتابة ورقة يعلّقها على الشجرة بعد ان يدوّن عليها "الرجاء الحفاظ على النظافة" علّه يعفى وعائلته من عمل إضافي باتوا يعرفون انه أول مهامهم في الغابة. فما ان يصلوا الى المكان المقصود حتى يتوزعوا مهام التنظيف في النقاط القريبة من ظل الشجرة الكبيرة والبعيدة منه، ليؤمنوا بذلك بيئة أتوا للتفتيش عنها والتمتع بها وليأمنوا شرّ الزواحف والحرائق التي كثيراً ما يتسبب بها رواد الطبيعة بما يتركون وراءهم من نفايات وأوساخ. وفي هذا الإطار تشير الدراسات والأبحاث الخاصة بالبيئة والصادرة عن لجان ومنظمات وأحزاب بيئية لبنانية الى أن السبب الأكبر لنشوب الحرائق في غابات لبنان يعود إلى المواطن نفسه عموماً والمتنزهين بشكل خاص، أي وبعنوان أكثر وضوحاً فان الحرائق بمعظمها تنتج عن بعض السلوكيات الفردية الخاطئة. وكانت اللجنة اللبنانية للوقاية من الحرائق عدّدت، في دراسات سابقة، سلوكيات المتنزهين التي تتسبب في الحرائق، ومنها الإهمال في التعامل مع النار أثناء الشيّ ورمي أعقاب السجائر واللهو بالألعاب النارية وعدم إطفاء جمرات الفحم المشتعلة، إضافة الى ما يتركونه من فضلات وبقايا زجاج. ولعلّ في مشاهد النفايات المتراكمة في الأحراج الواقعة في خراج الضيع في لبنان خير صورة عن سلوكيات لأفراد لا يأبهون الى تنظيف مخلّفاتهم. سلوكيات يعزّزها عدم الوعي الى أهمية الحفاظ على بيئة نظيفة زد عليه عدم توافر من يراقب مثل حراس ومأموري الأحراج، الذين يسمع عنهم ولا يروا، او حتى من يحاسب، ما يبقي أمر الحفاظ على النظافة رهن ضمير المتنزهين أنفسهم. وهكذا وبين مواطن مستعد للتعاون في سبيل المصلحة البيئية وبين آخر يتعامل مع كل المشاكل على أنها نتاج الدولة وان على هذه الاخيرة البدء في حلّها أولاً، هناك سؤال يُطرح: كيف تحافظ البلديات على الأحراج والغابات التي تعتبر منازه بريّة؟

[ لماذا.. المتنزهات

في ظل الأزمة المعيشية التي تحاصر المواطن اللبناني تبدو المتنزهات المكان الأنسب له للتنفيس عن همومه بما توفّر من طبيعة وفسحة للتلاقي ما بين العائلات وللعب الاطفال تعويضا لهم عن الاوقات التي يقضونها في المنازل خصوصا منهم ابناء المدن. وبهدف التوفير على الجيب تختار عائلات كثيرة المنتزهات والاحراج القليلة التي ما زالت تحتفظ بأخضرها، علها تقيهم اشعة الشمس وتنعشهم بنسمة تزيل عنهم حرّ الصيف. الى ذلك يختار اخرون الطبيعة بغية التعويض لاطفالهم عن سجن الاسمنت الذي بات يحاصر المدن وهم يستغلون عطلة الصيف لسدّ عطشهم الى اللعب والتحرك بحرية ولا يجدون لاولادهم مكانا افضل منها لذلك. ويقول يوسف وهو اب لاربعة اطفال "ان قضاء يوم العطلة في البرية يوفر على العائلة مبلغا اضافيا من المال، قد تتكلف اضعافه اذا ما اختارت وسائل اخرى للترفيه مع موجة الغلاء التي تزداد ارتفاعا يوما عن يوم". ويلفت الى "ان الاطفال هذه الايام لا مجال لهم لرؤية الطبيعة الا من خلال مثل هذه النزهات، لذلك فان معظم نزهاتنا او مشاريعنا في العطلة تكون في المنتزهات البرية مثلنا مثل الكثير من العائلات خصوصا اولئك الذين يسكنون المدن طيلة ايام السنة".

وتعتبر فاتن "ان المتنزهات البرية تلبي للمواطن اكثر من حاجة، ففي المقام الأول هي تتناسب والواقع المالي الصعب الذي يمرّ به اغلبية الناس، وثانيا بامكان المتنزهين في الطبيعة ممارسة اكثر من نشاط كالمشي ولعب الكرة وغيرها من الألعاب التي لم يعد الاولاد يجدون فسحة للقيام بها."اما مهى فترى "ان الانسان أكثر ما يحتاج خلال الصيف الى مكان يستطيع فيه تأمين راحته من صخب المدينة وهموم العمل، لذلك فهو يختار المنتزهات البرية كونها تؤمن له جزءاً كبيراً من هذه الحاجة. ومن الناحية الاقتصادية فان تكلفة اي نزهة هي اقل بكثير من ان يقصد مكاناً آخر اذ ان المواطن في هذا الايام وللاسف اصبح يحسب الف حساب قبل القيام بأي مشروع ترفيهي".

[ مقارنة بسيط

في عملية حسابية بسيطة يظهر الفارق ما بين الكلفة المالية لأي مشروع ترفيهي تقوم به العائلة في أحد المطاعم مثلاً، وبين تلك التي لحفلة شواء تقيمها في الهواء الطلق. فالعائلة المكونة من خمسة افراد مثلا يحدد معدل المصروف في البرية بخمسين دولارا (2 كيلو لحمة للشي وخضر وفحم ومشروبات ). وطبعاً تختلف الكلفة ارتفاعاً او انخفاضاً بهامش 20000 ل.ل حسب نوع المشروبات وغيرها من متفرقات، كما أن بعض العائلات تستغني عن شراء الفحم، مستعيضة عنه بالحشائش الجافة والحطب الصغير الموجود أصلاً في البرية. وفي المقابل فان الحد الأدنى لكلفة ذهاب العائلة نفسها الى مطعم يقدّم المشاوي والمازات اللبنانبة بمعدل ما بين 20 و 35 دولارا اميركيا للشخص الواحد، ترتفع الى ما يعادل 100 الى 175 دولارا اميركيا اي بين 150 و 260 ألف ليرة لبنانية. ومن خلال هذه المقارنة المبسطة للكلفة تبدو المنتزهات البرية حلاً مناسباً لكثيرين لقضاء يوم خارج البيت لكنه غير عادل دائما اذ ان البعض يفضل من وقت للآخر ان يتناول الطعام في أحد المطاعم، او زيارة مدينة الملاهي أو غيرها من أماكن الترفيه العائلية والتي حسب قول البعض قد تكلف العائلة مصروف أسبوع إن لم نقل اكثر. لكن المفارقة وتحديدا هنا في لبنان تكمن في ان هذه المنتزهات التي تفش خلق المواطن الطالب للراحة والتوفير تكافأ من قبل الكثيرين من زوارها بان تتحوّل الى مستوعب لنفاياتهم بعدما يتركونها غارقة بمخلفات وبقايا أطعمة وأوراق تجعلها عرضة لاشتعال النيران فيها.هذا عدا مواقد الجمر التي تترك من دون ان تطفأ ويحملها الهواء شرارات يوزعها فتشعل غابات على حيلها بما فيها، ولعل في الحرائق الكثيرة التي التهمت احراج لبنان وما زالت مستمرة في القضاء على ما بقي منها خير صورة عن ذلك المواطن اللامسؤول تجاه بيئته ووطنه والطبيعة. لا مسؤولية تنسحب على الجهات الرسمية القاصرة او المقصرة عن تأمين المراقبة اللازمة التي نص عليها القانون غير المطبق في جزء منه على ارض الواقع.

[ مهمات مساندة

اذا الى المواطن المسؤول بحسب الدراسات عن جزء كبير من مشكلة حرائق الغابات، تتحمّل الجهات المختصة المسؤولية ايضاً لعدم تطبيقها القانون وتحقيق المراقبة الفعلية للأحراج لقطع الطريق على حرائق قد تأتي عليها. مراقبة يتولاها النواطير النادرون او ربما المعدومون اصلا لعدم توافر الحوافز المالية اللازمة لهم. وفي هذا السياق ينفي منسق المشاريع في جمعية الثروة الحرجية والتنمية جواد ابو غانم، ان يكون المتنزهون يشكّلون الخطر الأكبر على الغابات والأحراج لجهة نشوب الحرائق، موضحاً ان هناك أسباباً أكثر أهمية من ذلك. وعن السبب في عدم توجّه الجمعيات البيئية الى العمل مع الجهات المختصة على تخصيص أماكن للتنزه بهدف حصر الأضرار في حال حدوثها في مساحات محدّدة من الارض، يقول "في حال تمّت المراقبة الفعلية للأحراج والغابات من خلال الآلية التي ينص عليها القانون فلن يعود هناك ضرورة لتخصيص مثل هذه المساحات". ويتابع "من خلال القانون تصبح كل الغابات والأحراج خاضعة للمراقبة"، معتبراً "أن عدم الجدية من قبل بعض البلديات في عملية الحماية يساهم في عدم تطبيقه بشكل فعلي، زد عليه التداخل في الصلاحيات بين وزارة الداخلية المسؤولة عن إصدار التعميمات على البلديات بضرورة مراقبة الأحراج والغابات وبين وزارة الزراعة ومعها مديرية التنمية الريفية المخولتين ضبط المخالفات ورفعها الى النيابة العامة". وعن قلّة عدد الجهاز البشري من النواطير والحراس يقول "ان السبب يعود الى عدم وجود الحوافز المالية، وبالتالي فان دوام هذه الوظيفة المحدّد من قبل الدولة من الثامنة صباحاً حتى الثانية ظهراً لا يخدم عملية المراقبة الفعلية"، هذا عدا النقص الكبير في المخصّصات المادية لمراكز المراقبة والذي يصل الى حد ان بعضها لا يتأمن له البنزين الكافي شهريا ليتمكن من القيام بالدوريات المطلوبة".

[ البلديات وقلّة التمويل

النقص في التمويل هو لبّ المشكلة وهو امر يبدو عمومياً اذ انه ينسحب على البلديات المسؤولة عن تمويل نواطير الأحراج او حراس الغابات. اذا وبسبب غياب التمويل يغيب هؤلاء عن البلديات الامر يزيد الطين بلّة. ويقول عبدالله عبد الصمد وهو شرطي بلدي، "إن معظم البلديات يغيب عنها ما يسمّى حراس الغابات، حتى انه لا يتم تعيين النواطير بسبب غياب التمويل علما ان هؤلاء يعينون من قبل القائمقامية وبعدد محدد حسب مساحة الاحراج في كل بلدة او قرية ما يجعل عالم الغابات مفتوحا على الحرائق خصوصا في فصل الصيف".

ويشرح" تحدّد البلدية مثلاً عدد النواطير المطلوب وتقوم القائمقامية بتعيينهم ويكونون تابعين في تمويل وظيفتهم الى الاولى. هم بالطبع لا يدخلون الملاك وتكون وظيفتهم غير رسمية ويتقاضون الحد الادنى للاجور. واذا ما احتاجت البلدية الى زيادة في عدد النواطير فلا بد لها من تعيينهم ايضا من خارج الملاك ولكن هنا يكون عليها ان تؤمن لهم مدخولهم من اصحاب الاراضي عبر جباية الاموال منهم، حيث يقوم المختارون بهذه المهمة". ويؤكد "أن هذه المهمة للمختارين قد توقفت منذ مدة طويلة دون الرجوع الى القانون طبعا خصوصا وان المدخول الذي يحصل عليه الناطور لا يكفيه لسد حاجاته ولا يوفر له العيش اللائق، وبالتالي لا يشجع احدهم على التقدّم للوظيفة او حتى ان يقوم بوظيفته كما يجب."ويشدد على "ان المشكلة تتمحور في انعدام مصادر التمويل والتي تنعكس سلبا على قلة عدد الجهاز البشري الذي ينسحب حتى على المحميات الطبيعية كمحمية أرز الباروك اكبر محمية طبيعية في لبنان والتي تعاني نقصا شديدا في جهازها البشري".

نظرة على القانون

ورد في قانون الغابات الصادر بتاريخ 7 كانون الثاني 1949 والمعدل بموجب القانون رقم 195 الصادر بتاريخ 24 أيار 2000 وفي المادة الثالثة تحديدا، "تنشأ في وزارة الزراعة مصلحة للغابات تقوم بتأمين انفاذ احكام هذا القانون على غابات الدولة وبدرس وانفاذ التدابير لحماية واحياء الغابات الخرى". تبعها في المادة الرابعة ان" تؤلف هذه المصلحة من موظفين فنيين واداريين ومأمورين ونواطير يحدد عددهم بمرسوم ويؤخذون من موظفي وزارة الزراعة الحاليين"، على ان يكون هؤلاء وبحسب المادة الخامسة وتحديدا منهم موظفي الغابات ومأموريها ونواطيرها "من موظفي الضابطة العدلية فيما هو منوط بهم من احكام هذا القانون ويقومون بوظائفهم وفقاً لقانون النواطير".

وطالما أن القوانين تنص على ضرورة أن يكون هناك عين ساهرة على الثروة الخضراء، فما هي مسؤولية هذا الجهاز الحارس والمراقب؟ وفي هذا الإطار حدّد القرار رقم 2618 تاريخ 24 تموز 1924 الذي يختص بنظام نواطير الحقول وفي المادة 81 الامور الداخلة في حيز اختصاص الناطور، بـ"ان يمنع كل اضرار واحراق في الغابات والاعشاب المحزومة حزما، وان يمنع كل اضرار أو قطع عن الاشجار القائمة في ممتلكات المباني الدينية، والمباني الثرية، والمنتزهات والطرق والساحات (قانون الجزاء المادة 133 ونظام الجندرمة المادة 186)".

وامام المشكلات التي تواجه الوزارات المعنية بالشأن البيئي وانتظار المواطن ان يلمح ما يشير الى قانون او نظام يحدد له حقوقه وواجباته، تبرز مشكلة أخرى تتمثل في غياب تنفيذ ما ينص عليه القانون لناحية العقوبة التي قد تطال مفتعلي الحرائق سواء كان ذلك عن قصد او عن غير قصد. وقد حدّد القانون عقوبة كل من يفتعل حريقاً بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات. أما إذا كانت الأرض المحروقة مصنّفة كمحمية فتكون عقوبة الحبس من 3 إلى 5 سنوات، بالإضافة إلى غرامة مالية تراوح بين خمسة ملايين وعشرين مليون ليرة لبنانية. ولكن وفي غياب من يراقب المتنزهين وفي غياب التطبيق لما ينص عليه القانون، يطرح السؤال عمن سيوجه التهمة بافتعال الحريق ولمن؟ من حق المواطن في لبنان ان ينعم بيوم آمن في الطبيعة ومن واجب الدولة عليه ان تؤمن له القانون المناسب الذي يضمن سلامته وسلامة البيئة.

متنزهون يحوّلون الأحراج مستوعباً للقاذورات الموقوتة وحرائق
متنزهون يحوّلون الأحراج مستوعباً للقاذورات الموقوتة وحرائق


تعليقات: