شيكات مفقودة بين الماليّة ومـصرف لبنان

حاكم مصرف لبنان رياض سلامة (أرشيف ــ هيثم الموسوي )
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة (أرشيف ــ هيثم الموسوي )


يوماً بعد آخر، تتكشّف أسرار سجلات وزارة المال، مع ما فيها من أخطاء وخطايا. ويوماً بعد آخر، تظهر الصورة القاتمة في الوزارة، التي نالت «جوائز عالمية» يتباهى بها من أمسكوا دفاتر الدولة منذ 20 عاماً. والجديد هو «اكتشاف» صرف 108 مليارات ليرة بشيكات من مصرف لبنان، في غياب أيّ ذكر لها في سجلات الوزارة

هي القصص نفسها عن «مغارة» وزارة المال: فساد وسوء إدارة وائتمان وخروج عن أصول العمل. يوماً بعد آخر، يظهر التسيّب في الوزارة الأكثر «حساسية» في لبنان. ويبدو أن كل ما قيل طوال السنتين الماضيتين عن سجلات الوزارة كان صحيحاً، وذلك منذ أن فتحت لجنة المال والموازنة ملف حسابات الدولة. في 6 آب 2011، نشرت «الأخبار» تقريراً مفاده أن أكثر من 2810 شيكات صدرت عن مديرية الخزينة العامة في وزارة المال، من دون أن تكون لها أي قيود في ملفات الوزارة ودفاترها. ومشكلة تلك الشيكات أنها مجهولة القيمة والمستفيد. حينذاك، لم ينف أحد الخبر، لا في وزارة المال، ولا في مصرف لبنان.

لكن الوزارة فتحت تحقيقاً بعدما طلبت دوائرها الاطلاع على جداول أرقام الشيكات التي ورد ذكرها في التقرير (فتحت الوزارة على حدة تحقيقاً لمحاولة تحديد مصدر «تسرب» المعلومات لـ«الأخبار»). وراسلت الوزارة مصرف لبنان لمعرفة تفاصيل تلك الشيكات، إلا أن التحقيق لم يتوصل بعد إلى معرفة حقيقة ما كان يجري طوال السنوات الماضية في هذا المجال. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يكن معلوماً ما إذا كانت تلك الشيكات قد صُرِفَت أصلاً أو لا.

لكن سلسلة ما ينكشف من «صندوق الفرجة» في الماليّة يكاد لا يتوقف. والجديد في هذا الإطار هو ما حصلت عليه «الأخبار» من معطيات تؤكد «ضياع» 287 شيكاً من سجلات المديرية ذاتها في وزارة المال. فهذه الشيكات، المعروفة الأرقام التسلسلية والقيمة، مسحوبة من حساب الخزينة المفتوح في مصرف لبنان، من دون أن تكون مسجلة في قيود الوزارة. كذلك فإنها غير واردة في خانة «الملغى»، والتي تضم عادة الشيكات الملغاة لأسباب عديدة، منها ورود خطأ في تحرير الشيك أو تحريره لغير مستحقه. لكن المعروف عن هذه الشيكات هو أنها صُرِفَت من مصرف لبنان. والأنكى، بحسب مصادر معنية بالملف، أن بعضها قد صُرِف مرتين! وتبلغ القيمة الإجمالية للمبالغ المسحوبة بموجب هذه الشيكات بين عامي 1997 و2008 نحو 70 مليون دولار أميركي. وتراوح قيمة كل شيك على حدة بين مئتي ألف ليرة كحد أدنى، وصولاً إلى الشيك رقم 332637 المصروف عام 2007، والبالغة قيمته أكثر من 24 مليار ليرة لبنانية.

وبحسب الوثائق التي اطلعت عليها «الأخبار»، فإن هذه الشيكات موزعة وفقاً للسنوات على النحو الآتي:

عام 2008: 17 شيكاً، عام 2007: 5 شيكات، عام 2006: 4 شيكات، عام 2005: 26 شيكاً، عام 2004: 19 شيكاً، عام 2003: 8 شيكات، عام 2002: 13 شيكاً، عام 2001: 46 شيكاً، عام 2000: 28 شيكاً، عام 1999: 39 شيكاً، عام 1998: 9 شيكات، عام 1997: 70 شيكاً.

وتوجهت «الأخبار» إلى الدوائر المعنية في وزارة المال للاستفسار عن القضية، فطلبت تلك الدوائر الحصول على نسخة عن أرقام الشيكات، من أجل التثبت من حقيقة الأمر. وبناءً على ذلك، فتحت الوزارة تحقيقاً لمحاولة معرفة من يقف خلف هذه «الفضيحة»، والتثبت مما إذا كان ما يجري هو عملية سرقة أو أنه لا يعدو كونه خطأ محاسبياً. وبحسب مصدر معني بقضايا المالية العامة، فإن هذه العملية تؤدي إلى اختلال موازين الوزارة المختلة أصلاً، وخصوصاً إذا ما أضيفت هذه الشيكات إلى مثيلاتها التي يبلغ عددها 2810، والتي لا تزال مجهولة المصير والقيمة.

وتوقع بعض المعنيين بهذه القضية أن يؤدي التحقيق الجدي فيها إلى إظهار أكثر من فقدان شيكات، تماماً كما جرى في قضية الحوالات المفقودة، «والتي أدت حتى الآن إلى انكشاف قضية تزوير كان يقوم بها مدير صندوق في الوزارة».

ولفتت مصادر معنية إلى مسؤولية مزدوجة، على وزارة المال ـــــ بعهودها المختلفة ـــــ وعلى مصرف لبنان الذي «يبدو أن في دوائره واقعاً لا تُظهره الصورة الوردية المسوّقة منذ عقدين». وأشارت المصادر نفسها إلى ضرورة التحقق من «العلاقات المشبوهة» التي تربط بعض العاملين في مديرية الخزينة في وزارة المال ببعض موظفي مصرف لبنان، والذين يحظون، في المكانين، بحماية تقيهما شر المساءلة.

ورأت المصادر أن قضية المليارات «الطائرة» من سجلات وزارة المال بواسطة الشيكات الضائعة تبقى تفصيلاً أمام «القضية المركزية»، أي حسابات الدولة غير الصحيحة منذ عام 1993. فتلك الحسابات «تشوبها الأخطاء والسرقات والزيادة والتنقيص المتعمدان». وثمة وجهتا نظر تحكمان النظرة إلى قضية إجراء تحقيق وإعداد حسابات للمالية العامة خلال السنوات الـ 18 الماضية. إحداهما تقول إن وزارة المال ليست بحاجة إلى أكثر من ستة أشهر لإنجاز الحسابات، وإظهار «السرقات وما عداها». أما وجهة النظر الأخرى فيقول أصحابها إن الحسابات بحاجة إلى نحو سنتين لإنجازها. وبعيداً عن هذين الرأيين، يقف أحد المسؤولين الرسميين ليبدي تخوفه من «نية بعض الطبقة السياسية الذي سيفعل المستحيل من أجل طيّ الصفحة، واللجوء إلى الإجراء الذي اتبع في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، عندما أعلنت الدولة اللبنانية أن سجلات حساباتها مفقودة، وأن عليها، بالتالي، التصرف معها كما لو أنها سليمة مئة في المئة، أو كما يُقال بالعامية: تصفير العدّاد».

تعليقات: