ترامواي بيروت
ذكريات بيروتية: ابو الفقراء.. ترامواي بيروت
مقدمة
يذكر ابو تمام ان ركاب الترامواي كانوا على درجات اجتماعية متفاوتة، الطبقة الشعبيّة المتواضعة، كانت من زبائن الدرجة الثانية ذات المقاعد الخشبيّة، والطبقة الوسطى، موظفين وأفنديّة، كانت من زبائن الدرجة الأولى (بريمو) ذات المقاعد المقششة. وقد كان ثمن تذكرة الدرجة الثانية خمسة قروش، بينما ثمن بطاقة الدرجة الاولى عشرة قروش، " كما ان الكثيرين ومنهم انا كانوا يعمدون الى شراء بطاقات الـ"باس" وهي بطاقات فصلية تخولنا ركوب الترامواي ضمن مدة ثلاثة اشهر وقتما نشاء خلال النهار، وكان ثمن تلك البطاقة الذهبية سبع ليرات للدرجة الثانية وعشر ليرات للدرجة الاولى".
ويضيف ابو تمام:" صعدت الى الترامواي لاول مرة في حياتي وانا في الثانية عشرة من عمري، حيث كنت اتعلم في مدرسة فرن الشباك الرسمية، وغالباً ما كنت ارى ركاب الدرجة الاولى كيف كانوا على قلتهم يتباهون بدرجتهم ويجلسون وهم "معرّمين"، كما كان بعض ابناء السوء يعمدون الى لمّ التذاكر عن الارض واستعمالها عدة مرات، اذكر جيدا الازدحام الذي كان يحدث في كل محطة من محطات الترامواي، اذ إنه كان ابو الفقراء و"المعترين"، فتسعيرة الخمسة قروش وبطاقة الباس كانت تعتبر مثالية للشعب الفقير في ظل وجود التاكسيات ذات التعرفة الباهظة.
بعد إتمام الخط الكهربائي من ساحة البرج الى نهر بيروت ضمن المواصفات المطلوبة من الشركة البلجيكية، تم تسيير اول ترامواي في بيروت، وكان ذلك في 17 نيسان 1919.
بعد ان اعتمدت الكهرباء في بيروت كطاقة تسير امور الناس، وبعد مدّ اسلاك الانارة في الطرقات العامة والساحات، عمد وجهاء بيروت في السنوات الاولى للعقد الماضي الى رفع التماس الى والي بيروت يومئذ، إسماعيل بك ، لاعتماد الترامواي في وسائل النقل. وبتاريخ حزيران 1906، وافق الباب العالي على إعطاء امتياز خط الترامواي باسم سليم رعد، وحددت الشوارع التي سيسير فيها التراموي كما قُيّد المشروع بشروط عدة منها: أن يعطي صاحب الامتياز 10% من صافي الواردات إعانة لسكة الحميديّة الحديدية، وبأن يعمل على ايداع البنك العُثماني كفالة مالية. وفي شهر أيلول سنة 1907 جرى الاحتفال بتدشين خط الترامواي في بيروت واصدرت الشركة المنفذة التي كانت تُسمى "شركة الترامواي والتنوير العُثمانيّة في بيروت" 36 سهماً قيمة كل سهم منها 100 فرنك وقيدتها رسمياً في بورصة أسطنبول. اما الطرق التي اعتمدت ليسلكها الترامواي فكانت، نهر بيروت، الحرج، الباشورة، المنارة وخط آخر يمتد من ساحة البرج وينتهي عند الساحة الشرقيّة من خان فخري بك.
وقد شغّلت الترامواي شركة بلجيكية كانت تسمى "شركة الجر والتنوير" إذ كانت تضمّ إدارة الترامواي نفسه وإلى جانبه شركة الكهرباء، وفي سنة 1922 تحولت أسهم الشركة البلجيكية إلى شركة فرنسيّة، وفي سنة 1954 انتقلت إدارة الترامواي إلى الحكومة اللبنانيّة ليصبح اسمها مصلحة النقل المشترك.
وفي أيار سنة 1964 أصدرت الحكومة اللبنانيّة قراراً بإلغاء ترامواي بيروت، وسيرت مكانه مجموعة سيارات النقل الكبيرة المعروفة بإسم أوتوبيس بعد أن دربت سائقي الحافلات الكهربائيّة والمستخدمين فيها على العمل في السيارات الجديدة، أما الترامواي الذي رافق بيروت والبيروتيين خلال ما يزيد عن نصف قرن، فقد باعته الحكومة اللبنانيّة إلى تجار الخردة، على أنه أنقاض حديدية.
وبسبب المواجهة السلبية للترامواي من اصحاب العربات التي تجرها الخيول كونه استقطب عددا هائلا من الناس وأدى الى افلاسهم، فإن الشركة صاحبة الامتياز لم تجد، يومئذ، بُدّاً من استخدام القبضايات لحماية الحافلات من اعتداء هؤلاء عليها، وكان من بين هـؤلاء القبضايات عبد القادر النويري ، الذي يُعتبر أول العمال والمستخدمين الـذين تولوا العمل في الترامواي، وإكراماً له فإن الشركة أطلقت على أحد المواقف في شـارع البسطة إسمه، وما يزال هذا الموقف حتى اليوم معروفاً باسم محطة النويري.
مصطفى جمول، ابو تمام، ابن السبعين عاما، عاصر الترامواي، وعاش احداثه اللامتناهية، الطريفة منها تلك التي تعبر عن المتاعب والمشاكل، وقد خص ابو تمام "البناء" بجزء يسير من ذكرياته مع الترامواي.
مشاكل الزحمة
ويتابع ابو تمام:" وقد سبب ذلك الازدحام مشاكل جمة، اذ إنه بات بيئة ملائمة لانتشار النشالين، ومنهم من كان يستخدم شفرة لقص جيب الضحية وسرقة محفظته، اذكر تماما الاصوات التي كانت تعلو باستمرار ( حرامي حرامي). كما ان الازدحام شكل ايضاً مرتعاً لابناء السوء الذين كانوا دائما يمارسون تحرشا جنسيا على النساء وسط الزحمة".
متاعب اخرى
"ومن المشاكل اليومية ايضا ان اولاد الشارع، الذين يريدون ان يستقلوا الترامواي مجاناً كانوا يعمدون الى التهرب من دفع ثمن التذاكر، فكانوا اذا رأوا الجابي قادماً من مقدمة الترامواي، ينزلون من الباب الخلفي، ثم يجرون بموازاة الترامواي، ويعودون للتسلق اليه عندما يبلغ الجابي مؤخرة الترامواي، وبسبب الزحمة داخله والركاب الواقفين، يتعذر على الجابي العودة الى المقدمة قبل نصف ساعة على الاقل".
" وبسبب انقطاع التيار الكهربائي أحياناً كان الترامواي يتوقف فـي وسـط الطريق، فكان المسؤولون يستعينون على دفعها بواسطة الدواب أو بواسطة أصحاب الزنود القوية من ركابها أنفسهم الذين يستفيدون لقاء خدمتهم هذه بالتخلص من دفع ثمن التذكـــرة المقررة. كما كان سائق الترامواي يضطر الى التوقف عندما تمّر بالقرب من بيت أحد القبضايات، أو أي زعيم شعبي نافذ".
"المنادي ينادي"
كما يتذكر ابو تمام ان الجابي كان ولدى وصول الترامواي الى احدى المحطات، ينادي بأعلى صوته كي ينتبه الركاب وينزلوا حيث يريدون، " والطريف، ان الجابي كان ينادي بطريقة مضحكة، فكان يقول:" سبيتال" اي لدى الوصول الى محطة مستشفى الجامعة اوسبيتال، اما محطة غراهام ولها حكاية اخرى، فقد كانت عيادة أحد أساتذة كلية الطب في الجامعة الأميركيّة في بيروت واسمه غراهام، تقع قرب الجامعة الاميركية، ولكي يعلن عن نفسه ويعوّد الناس على اسمه ويكونوا من زبائنه، فإنه عمـد إلـى إعطـاء جبـاة الترامواي مجيديةً في كل يوم مقابل أن يذكر هؤلاء الجباة اسمه غراهام عند توقف الترامواي بالقرب من عيادته، وهذا الأمر أدّى إلى اشتهار المحطة باسم هذا الطبيب الأميركي، وبقيت كذلك إلى حين الاستغناء عن الترامواي بعد موت غراهام نفسه بمدة طويلة."
غراميات ونجاة
ويتابع ابو تمام لـ"البناء" سرد مذكراته مع الترامواي ويقول مبتسماً:" كنت اوقت صعودي الى الترامواي الذي يقل فتاة كنت معجباً بها، لم أكن أبالي بمرور الترامواي الذي يوصلني الى المدرسة في دوامي المحدد، فلقد كنت انتظر حبيبة القلب، واذكر مرة اني كنت انتظر ذلك الترامواي عند الجامعة الاميركية، حيث كنت ادرس في مكتبتها او في حديقتها، ولما طال الانتظار، آليت ان استقل الذي يمر قبله، وما ان وصلت الى منزلي، وما هي الا دقائق، حتى سمعت دوي انفجار رهيب، فقد فجر احدهم الترامواي الذي كنت انتظره قرب محطة الناصرة، كان ذلك عام 1958 ابان الحرب الاهلية اللبنانية الاولى، كما ان حبيبة القلب لم تستقل ذلك الترامواي ايضاً اذ قابلتها بعد ذلك التفجير المشؤوم وتبين لي انها لم تأت يومها الى المدرسة ولم تستقل الترامواي الذي تم تفجيره".
رحلة
ويضيف ابو تمام:" وبسبب ثمن البطاقات البخس، غالباً ما كنا ، ايام العطل، نعمد الى مرافقة الترامواي في رحلته من محطة البداية الى محطة النهاية، كل ذلك لنرضي فضولنا لمعرفة كيف يغير الترامواي وجهته ليقفل عائداً، اذ انه كان يسير دائما في خط مستقيم والى الامام. وما ان يصل الى محطة النهاية حتى يصرخ السائق للجابي:" هاوس، هاوس" اي التحويلة، فيذهب الجابي الى حبل في الترامواي الامامي، ويشد الحبل لتخليص عامود حديدي يبلغ من الطول حوالى المترين، ويفصل الترامواي عن التيار الكهربائي، اما السائق فيقوم بسحب مفتاح، وهو الذي يشغل الترامواي، ويشبه الى حد بعيد ذراعاً طويلة، يسحبه ويسير به الى الجهة الخلفية من الترامواي ويركب المفتاح، ويشغل الترامواي، فينحرف قليلا عن الخط نحو خط اخر ملاصق، ويمر بجوار الترامواي الخلفي، ليصبح امامه مباشرة، هنا يعود الجابي الى تركيب العامود الحديدي، والهاوس، وبذلك يتابع الترامواي خط سيره عائداً الى محطة البداية".
ومضات
وينهي ابو تمام ذكرياته مع الترامواي قائلاً:" اذكر تماما ان اساتذة من الجامعة الاميركية كانوا يستقلون الترامواي، كما أذكر ان محطات ساحة البرج وباب ادريس والجامعة الاميركية كانت الاكثر ازدحاماً، وغالباً ما كان الركاب "يتعمشقون" على جوانب الترامواي، وكان بعضهم يسقطون عنه ويؤذون انفسهم، كما اذكر ان، من تقع منازلهم في منطقة تتوسط محطتين، كانوا يرجون السائق ويرشونه ببعض الحلوى كي يخفف من سرعته قرب منازلهم، اذ ان الترامواي كان ينطلق من محطة ولا يتوقف الا في المحطة التي تليها.
خاتمة
اما اليوم، وبعد انقضاء اقل من خمسين عاماً على اغتيال الترامواي، وبعد ان تنقلت سلطة النقل الشعبي بين البوسطة والباص ليعود مؤخراً المجد لسيارات الاجرة،"السرفيس"، فإن النقل العام والمواصلات في لبنان يعانيان ما يعانيان من المشاكل الجمة، فـ"السرافيس" بالجملة، حيث إن اللوحات العمومية المباعة من قبل الدولة للسائقين يبلغ عددها الاربعين الف لوحة تقريباً، اما على ارض الواقع، فتعمل اكثر من ثمانين الف سيارة بموجب تلك اللوحات، ناهيك عن طفرة "الفانات" التي اجتاحت مشهد المواصلات في لبنان، وبشكل عشوائي وفطري النمو، والدولة هي الغائب الاكبر عن كل تلك المخالفات، اما النقل المشترك، الذي يجب ان يكون في عهدة الدولة، فحدث ولا حرج، "مال سايب وبيعلم الناس الحرام" اذ تسيطر على هذا القطاع مجموعة من "القبضايات"، يمارسون شتى فصول "المرجلة" في تعاطيهم مع ابناء المهنة من اصحاب سيارات التاكسي، او شركات النقل الخاصة، فترى المشاكل والاشكالات تنتشر هنا وهناك، اما الباصات، فسقى الله ايامك ايها الترامواي، باصات النقل المشترك حكاية كاملة من الإهمال والخراب الدائم، سائق يدخن السيجارة تلو الاخرى مع انه يضع لافتة "ممنوع التدخين"، كأنه يحق له ما لا يحق لغيره، الاوساخ تنتشر في كل ارجاء الباص، ومن الباصات ما تحول الى لوحة اعلانية كبيرة، فترى الاعلانات تتغير كل شهر او اقل.
ومن الان وحتى احترام حق المواطن الفقير بالتنقل، بأسعار زهيدة، وفي آليات نظيفة و"محترمة" يبقى لسان الحال متأسفاً على الماضي ويقول:" رزق الله عليك يا ابو الفقراء، ايها الترامواي".
(عن البناء)
-----------------------------
ترامواي بيروت:
على أثر سريان الكهرباء في أسلاك التنوير في بيروت إبان العقد الأول من ســنوات القرن العشرين، إتجهت همة بعض أعيان بيروت للحصول علـى إمتياز خـط ترامواي للطرق الأكثر مناسبة في أحياء بيروت، وفيما يلي نص الخبر كما جاء في جريدة ثمرات الفنون عدد 853 الصادر ببيروت يوم 2 ربيع الأول سنة 1309 هـ المـوافق للخامـس من شهر تشرين الأول سنة 1891م: (رفع عزتلو بشارة أفندي سر مهندس نافعة ولاية بيروت وعزتلو يوسف أفندي عرمان رياشي كاتب مجلس بلدية بيروت إلى مقام الولاية الجليلة الاستدعاء بطلب إمتياز خط ترامواي للطرق الأكثر مناسبة في محلات أحيـاء بيروت).
وكان الوالي على بيروت يومئذ، عطوفتلو إسماعيل بك أفندي، وبتاريخ 26 ربيع الثاني سنة 1324 هـ حزيران 1906م، نشرت الجريدة نفسها بشرى موافقة الباب العالي على إعطاء إمتياز خط الترامواي باسم سليم رعد، وفيما يلي نص هذه البشرى كما جاء في الجريدة المذكورة تحت عنوان: الترامواي الكهربائي في بيروت وإنارتها بالكهرباء:(نبشّر القراء بصدور الإرادة السنية، مانحة حضرة سليم أفندي إمتيازا بتسيير ترامواي كهربائي في مدينة بيروت وإنارتها بالكهرباء لمدة تسع وتسعين سنة، ويستفاد مما ذكرته جرائد دار السعادة (أسطمبول) من شروط الامتياز ومقاولته سبع نقاط وهي:
1. من خان فخري بك ماراً بشارع المجيديّة فطريق المستشفى العسكري (قصر العدل القديم) إلى السور (ساحة رياض الصلح اليوم).
2. من دار الحكومة (السراي الصغير) في ساحة البرج الذي هدم سنة 1950م (إلى طريق الشام حتى حدود لبنان، أي فرن الشباك حيث كانت الحدود بين ولاية بيروت ومتصرفيّة جبل لبنان الممتازة .
3. يتفرع من الخط الأول شعبة من بوابة إدريس ماراً بالشارع الجديد (شارع ويغان حالياً) بشرط أن تتم البلدية فتحه.
4. من محلة السور إلى نهاية الباشورة (البسطة التحتا اليوم).
5. من المستشفى العسكري إلى المصيطبة.
6. من ميناء القمح إلى رأس بيروت.
7. من خان أنطون بك إلى المنارة على أن يكون له ثلاث شُعب اختيارية.
8. وقد شرط على صاحب الامتياز بأن يعطي عشرة في المائة من صافي الواردات إعانة للسكة الحميديّة الحجازيّة، وبأن يودع الكفالة في البنك العُثماني، وبأن يؤلف لذلك شركة أنونيم عثمانيّة.
وفي شهر أيلول سنة 1907م جرى الاحتفال بتدشين خط الترامواي ببيروت بمناسبة المولد السلطاني للعام الثامن والتسعين، وكان ذلك في عهد الوالي إبراهيم خليل باشا، كما ذكرت جريدة الإقبال لعبد الباسط الإنسي في عددها 182.
وفي ذلك الحين أصدرت الشركة المذكورة التي كانت تُسمى (شركة الترامواي والتنوير العُثمانيّة في بيروت) 36 سهماً قيمة كل سهم منها 100 فرنك وقيدتها رسمياً في بورصة دار السعادة (أسطمبول).
والطرق التي خصصت للترامواي في حينها هي:
· النهر
· الحرج
· الباشورة
· المنارة (عن طريق بوابة إدريس)
· أما الخط الخامس فيمتد من ساحة البرج سوق الفشخة (ويغان حالياً) ثم ينعطف شمالاً إلى شمالي خان أنطون بك ثم ينتهي عند الساحة الشرقيّة من خان فخري بك.
..
تاريخ تسيير الترامواي ببيروت لأول مرة:
في 17 نيسان سنة 1919م صدرت جريدة الإقبال وفيها نبأ بدء سير الترامواي لأول مرة في شوارع بيروت وفقاً للخطة المرسومة، قالت هذه الجريدة:
(تبيّن بالمعاينة أن خط الترامواي الكهربائي الممتد من ساحة الإتحاد (البرج) إلى موقع نهر بيروت قد أنشئ على الوجه المطلوب وشرع بتسيير مركباته يوم 17 نيسان سنة 1919م، بحضور ملاذ الولاية الذي هو ناظم باشا).
..
كيف أستقبل البيروتيون الترامواي:
كان ظهور الترامواي الكهربائي حدثاً مثيراً بالنسبة للمواطن البيـروتي، إذ أن أنباء ذلك الزمان لم يستطيعوا أن يصدقوا ما رأته عيونهم من أن كتلة ضخمة من الحديد تنطلق من مكان إلى آخر دون أن تدفعها أيدي الناس أو تجرها الدوابّ، لا سيما أنهم رأوا مثل هذه الحافلة من قبل في طرابلس الشام وهي تُجَرُّ بواسطة الخيول، وذلك عندما أدخل مدحت باشا الترام (البغَّالي) إلى هذه المدينة أثناء ولايته فيها.
وكان أول رد فعل علّق به البيروتيون على ظهور الترامواي هو أنهم وصفوه تــارة (دولاب الشيطان) وتارة بأنه (حارة متنقلة)، وكان الناس يفرّون لدى رؤيتهم الترامواي.
ويروي المعمّرون أن الكثيرين ممن كانت بيوتهم قرب خط الترامواي بادروا بالابتعـاد ببيوتهم عن هذا الخط قائلين: إِبعد عن الشّر وغَنِّ له، كما قالوا: يا عمّي، نبعد عنــه أحسن لنا، مين بيعرف إذا جفل شي جفلة، وعلى الكهرباء مين بيقدر يهدّيه ؟.
فقد إعتاد البيروتيون آنذاك على جفلات بغالهم وحميرهم والبهائم الأخرى فحسبـوا أن الترامواي الكهربائي يجفل أيضاً، ثم ما لبثوا أن قابلوه بالاستنكار والاستهجان لأنه من صنع (الكفّار) وإستغل أصحاب العربيات التي تجرها الخيول نقمة الناس لأن الترامواي إمتصّ عدداً كبيراً من زبائنهم فراحوا يغذون هذه النقمة بكتابة لافتة تقول:
الخيل والدواب مذكورة في القرآن الكريم، أما {الترين} فإن الله لم يذكره في كتابه
وبسبب هذه المواجهة السلبية للترامواي، فإن الشركة صاحبة الامتياز لم تجد، يومئذ، بُدّاً من استخدام القبضايات لحماية الحافلات من اعتداء الناس عليها، وكان من بين هـؤلاء القبضايات عبد القادر النويري (أبو وجيه)، الذي يُعتبر أول العمال والمستخدمين الـذين تولوا العمل في الترامواي، وإكراماً له فإن الشركة أطلقت على أحد المواقف في شـارع البسطة إسمه، وما يزال هذا الموقف حتى اليوم معروفاً باسم محطة النويري، ومـــن الطريف أن أبا وجيه النويري المذكور رافق قيام الترامواي وشهد نهايته.
ويروي أبو وجيه:
عندما بدأت العمل سنة 1909م كان الترين مفتوح الجانبين يصعد إليه بواسطة حافــة، وكان يفصل بين المقاعد المتقابلة عامود حديد وكان في زاويته مقصورة مربعة، خاصة بالحريم، تسدل عليها الستائر، والويل لمن يدخل تلك المقصورة، سواء أكانت خاليـة أو مشغولة، حدث أن دخل هذه المقصورة، أزعر، ذات يـوم للتحرش بالحريم، وحــاول الجابي ردعه فنال هذا الجابي نصيبه من الضرب، ودخلت سيـدة محجبـة للجلوس فلما رأت الرجل الأزعر خافت ولم يكن منها إلا أن تناولت قبقابها وانهالت على رأسه تحطيماً ولم تتركه إلا حين رمى بنفسه من الترين.
ولما كانت حافلات ذلك الزمن مكشوفة الجانبين، فإن ركابها كانوا يستعملون مظلاتهم لإتقاء حرارة الشمس في الصيف ومياه المطر في الشتاء.
..
متاعب الترامواي الدائمة:
بالرغم من التدابير الفنيّة والاجتماعية التي كانت الشركة تتخذها لحسن سير الترامواي وحمايته، فإن ذلك لم يحل دون تعرض منشآت هذه الشركة للمتاعب الجمّة، فلقد كان التيار الكهربائي ينقطع أحياناً فتتوقف حافلة الترامـواي فـي وسـط الطريق، فكان المسؤولون يستعينون على دفعها بواسطة الدواب أو بواسطة أصحاب الزنود القوية من نفس ركابها الذين يستفيدون لقاء خدمتهم هذه بالتخلص من دفع ثمن التذكـــرة المقررة.
على أن فريقاً من أهل بيروت، كانوا يرفض دفع ثمن تذكرة الركوب في الحافلة ولو لم يشاركوا في دفعها عند الحاجة، فقالت شركة الترامواي أنها ستوقف خط البسطة نظراً لتمنُّع بعض الأفراد عن دفع الأجور، وبما أن هؤلاء الأفراد هم الذين يجب على الحكومة( تربيتهم) ترغب الشركة أن تطلب من الحكومة مجازاتهم ... .
من متاعب الترامواي، فإن هذه الحافلة كانت تضطر في كثير من الأحيان للتوقف عندما تمّر بالقرب من بيت أحد القبضايات، أو أي زعيم شعبي نافذ، الذي يأمر السّوّاق بالوقوف وانتظاره حتى ينزل من بيته ويستقله، والويل للترامواي وسائقه وركابه إذا لا يمتثلوا لإرادته، ويتوقف الترامواي إذا رأى وجيهاً يسير بحصانه وسط القضبان الحديدية المعدة لسير الحافلة، لأنه لا يجوز إزعاج الفارس بتحويله عن وسط الطريق.
..
تذاكر مجانيّة للأعيان:
ركاب الترامواي كانوا على درجات اجتماعية متفاوتة، الطبقة الشعبيّة المتواضعة، كانت من زبائن الدرجة الثانية ذات المقاعد الخشبيّة، والطبقة الوسطى، موظفين وأفنديّة، كانت من زبائن الدرجة الأولى (بريمو) ذات المقاعد المقششة.
التذكرة الشعبيّة كان ثمنها قرشين ونصف القرش، وعندما رُفع الثمن إلى خمسة قروش، حصل إضراب وامتنع الناس عن ركوب الترامواي، وأنشد المقربون مقطوعة من الشعر الشعبي المنثور نظمها الشاعر الشعبي المعروف عمر الزعنِّي منها قوله:
حفروا قبرك وأنت حيّ !
حالك حال يا ترامواي
وكانت تذكرة البريمو بخمسة قروش، أي ضعف التذكرة الشعبيّة، وكان هناك فريق ثالث من المواطنين يشتري حق الركوب لمدد طويلة بمقابل جواز (باس)، ويشترط في هـؤلاء أن يكونوا إما من الموظفين في الدوائر العامة أو من فئة الطلاب، فلم يكن هذا الجـواز مسموحاً به لغير هاتين الفئتين على أن الشركة كانت تمنح بعض الجوازات المجانيّة الدائمة لنفر من أعيان البيروتيين وأهل الوجاهة، وذلك مراعاة لنفوذهم، وكان جــواز هؤلاء المجاني في الدرجة الأولى صالحاً مدى الحياة منهم الشيخ بشارة الخوري، رياض الصلح، عمر بك الداعوق.
..
محطة غراهام .... لماذا؟:
الترامواي المتجه من بيروت (المدينة) إلى محلة رأس بيروت، كان يقف عند موقف قبيل سور الجامعة الأميركيّة من الجهة الشرقيّة هذا الموقف أطلق عليه البيروتيون إسم (محطة غراهام) ولهذه التسميّة قصة طريفة خلاصتها أن أحد أساتذة كلية الطب في الجامعة الأميركيّة ببيروت وإسمه غراهام، كانت عيادته في المكان المذكور، ولكي يعلن عن نفسه ويعوّد الناس على إسمه ويكونوا من زبائنه، فإنه عمـد إلـى إعطـاء جبـاة الترامواي مجيديةً في كل يوم مقابل أن يذكر هؤلاء الجباة إسمه غراهام عند توقف الترامواي بالقرب من عيادته، وهذا الأمر أدّى إلى اشتهار المحطة باسم هذا الطبيب الأميركاني، وبقيت كذلك إلى حين الاستغناء عن الترامواي بعد موت غراهام نفسه بمدة طويلة.
..
شركة الجر والتنوير تصبح مصلحة النقل المشترك:
بدأت خطوط الترامواي ببيروت في يد شركة بلجيكيّة تحت إسم ( شركة الجر والتنوير ) إذ كانت تضمّ إدارة الترامواي نفسه وإلى جانبه شركة الكهرباء، وفي سنة 1922م تحولت أسهم الشركة البلجيكية إلى شركة فرنسيّة، وفي سنة 1954م إنتقلت إدارة الترامواي إلى الحكومة اللبنانيّة التي عوضت على أسهم الشركة القديمة بمبلغ 17 مليون ليرة لبنانيّة.
..
توقف الترامواي:
وفي أيار سنة 1964م أصدرت الحكومة اللبنانيّة قراراً بإلغاء ترامواي بيروت، وسيرت مكانه مجموعة سيارات النقل الكبيرة المعروفة بإسم أوتوبيس بعد أن دربت سائقي الحافلات الكهربائيّة والمستخدمين فيها على العمل في السيارات الجديدة، وأصبحت إدارة هذه السيارات تحت سلطة مصلحة النقل المشترك.
أما الترامواي الذي رافق بيروت والبيروتيين خلال ما يزيد عن نصف قرن، فقد باعته الحكومة اللبنانيّة إلى تجار الخردة، على أنه أنقاض حديدية، وقام بعض من أهل بيروت بشراء بعض المقطورات وحولوها إلى مطاعم ثابته تقدم الوجبات السريعة والمرطبات الغازية وذلك في منطقة شوران تجاه فندق بيروت كونتيناتال سابقاً قرب حلويات رفعت الحلاب حالياً.
هذه هي حكاية ترامواي بيروت من أولها لآخرها، وأصبح أبو الفقير، كما كان البيروتيون يسمونه، في ذمة الآثار القديمة التي يتندر بأخباره الطريفة الظريفة أبناء بيروت، ما بين السلف والخلف قائلين :
رزق الله على ترامواي بيروت أبو الفقير ....
فيديو كليب عن ترامواي بيروت للفنان الراحل ابراهيم مرعشلي 14M
ترامواي بيروت
ترامواي بيروت
تعليقات: