مطالبة بتسليم رفات الجاسوس الاسرائيلي ايلي كوهين

تسليم رفاته مدرج على جدول أعمال كل مفاوضات

سرية بين سوريا واسرائيل

إيلي كوهين جندي اسرائيلي كاد يصبح وزيراً لدفاع سوريا

المعلومات العسكرية التي قدّمها لقيادته

ساهمت في انتصار اسرائيل في حرب العام 1967

بات موضوع تسليم رفات الجاسوس الاسرائيلي ايلي كوهين، من ابرز المواضيع التي يدور حولها البحث في اي جولة مفاوضات سرية تجرى بين سوريا واسرائيل. وكان هذا الامر اثير أخيراً، عندما طالبت ناديا، زوجة كوهين، باعادة جثته الموجودة في سوريا الى اسرائيل. وكانت زوجة كوهين قد اكدت عام 2004 ان رئيس جهاز "الموساد" الاسرائيلي مئير داغان اكد لها ان الوسيط الالماني المكلف الاشراف على محادثات تبادل الاسرى بين "حزب الله" واسرائيل وعد باثارة هذه المسألة في المرحلة الثانية من اتفاق تبادل الاسرى. بدوره اكد رئيس حكومة اسرائيل ايهود اولمرت قبل زيارته الاخيرة الى تركيا، انه سيطلب من انقرة القيام بدور الوسيط بين اسرائيل وسوريا لاعادة رفات الجاسوس كوهين.

أثناء الصراع المخابراتي العربي – الاسرائيلي، برز شخصان كانت قصتهما اقرب الى الخيال، الجاسوس الاسرائيلي في سوريا ايلي شاؤول كوهين، والجاسوس المصري في اسرائيل رأفت الهجان. واذا كانت قصة رأفت الهجان مازالت موضوع اخذ ورد، ومدار جدل ونقاش وشكوك، فان حقيقة قصة كوهين ثابتة، وواضحة، وهو تمكن من الانتقال الى سوريا في الستينات من القرن الماضي بمهمة تجسس لمصلحة الاستخبارات الاسرائيلية، وعندما اكتشف امره اعدم شنقاً في دمشق عام 1965، ومنذ ذلك الوقت وسوريا ترفض طلب اسرائيل تسليم جثته.

شخصية ايلي كوهين المثيرة، اثارت شهية الكتاب والباحثين، فوضعوا عنه روايات ومؤلفات حملت بعضها مبالغات لا يتصورها العقل، وأُعدت افلام سينمائية عن شخصيته. ولعل اكثر المؤلفات موضوعية كان كتاباً بالفرنسية حمل عنوان: ELI COHEN le combatant de damas (ايلي كوهين – محارب دمشق) للمحامي الفرنسي جاك مارسييه، الذي تولى مهمة الدفاع عن كوهين بتكليف من الحكومة الاسرائيلية وقتذاك.

الطفولة والشباب

في الاسكندرية في مصر، ومن اب يدعى شاؤول كوهين وام تدعى صوفي، ولد ايلي كوهين في السادس والعشرين من كانون الاول 1924. والده سوري الاصل ترك مدينة حلب عام 1900 ليستقر في مصر ممتهناً صناعة ربطات العنق من الحرير الفرنسي الخالص. ومنذ صغره ابدى كوهين تفوقه البارز في دراسته، واجاد اللغتين العربية والفرنسية بشكل ممتاز، وهو مازال على مقاعد الدراسة، وتميز بذاكرة قوية مكنته من حفظ ارقام السيارات، التي كانت تمر من تحت شرفة منزله، بعد تدوينها وتقديمها لوالده، ليعود ويذكر له تلك الارقام المسجلة من دون اي خطا. كان يمضي معظم اوقاته في المطالعة والبحث والتنقيب، وكان من هواة التصوير الفوتوغرافي، فكانت هديته من والده في عيد البلوغ (بار مستفا) لدى الطائفة اليهودية، آلة تصوير، جعلته يلتقط الصور للاصدقاء وللمناظر الطبيعية وللاحياء والشوارع في مصر، ويعود لتحميض الافلام وتظهيرها في غرفة سوداء اعدها في منزله. وتمتع كوهين ببنية قوية، وكان يمارس رياضة المشي والسباحة، ويرتاد الكنيس اليهودي.

لما بلغ كوهين العشرينات حدثت تحولات في شخصيته. فقد نزع من رأسه حلماً دغدغ مشاعره منذ الصغر في ان يصبح حاخاماً، ليتجه نحو علوم الرياضيات والفيزياء، فضلاً عن ميله نحو النشاط السياسي، حيث وفي عام 1940 وخلال الحرب العالمية الثانية، بدأت الدعوة الصهيونية للعودة الى فلسطين (اسرائيل) ارض الميعاد، تنتشر في اوساط اليهود في انحاء العالم. وتأثّر كوهين بهذه الدعوة التي حركت مشاعره، وزاده في ذلك اعدام الشابين اليهوديين الياهو نيت زوري، والياهو حكيم، بتهمة اغتيال وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الاوسط اللورد موين، خارج منزله في القاهرة. ولم يطل الوقت حتى انشأ جهاز "علياه بت" التابع لـ"الموساد" الاسرائيلي فرعاً سرياً له في مصر عام 1944، وكانت مهمة هذا الجهاز مساعدة اليهود العرب وتأمين هجرتهم الى فلسطين، وكان كوهين من ابرز متطوعي هذا الجهاز، ولعل تطوعه هذا كان فاتحة دخوله عالم الاستخبارات.

عام 1950 كانت الدعوة الصهيونية للهجرة الى فلسطين قد بلغت ذروتها، وكانت عائلة كوهين من العائلات الى حزمت امتعتها ورحلت من مصر الى ارض الميعاد، الا كوهين الذي آثر البقاء في مصر لدواع امنية، من بينها مساعدة اليهود على الهجرة والرحيل، بحيث انه مع حلول عام 1950، لم يبق في مصر إلا مئة الف يهودي من اصل 300 الف.

عام 1951 زار مصر رجل يهودي غير عادي، هو ابراهام دار، أحد مسؤولي جهاز "الموساد"، وكان دار مكلفاً بتشكيل خلايا امنية تجسسية تعمل لمصلحة المخابرات الاسرائيلية داخل مصر، وصار كوهين ابرز اعضاء هذه الخلايا، وبدأ يقوي علاقاته مع مجندين في الجيش المصري، واستطاع تجنيد بعضهم بعد خضوعهم لدورات امنية في اسرائيل، والعمل في مصر بأمرة عميل اسرائيلي محترف يدعى ماكس بينيت. وتولى كوهين مسؤولية عامل الراديو (اي مسؤول الاتصالات)، مع محطة "الموساد"، واظهر براعة في تلقي الرسائل وفي الرد عليها، ما لفت انظار مسؤوليه.

في 23 تموز 1952 اطاح الضباط الاحرار المصريون بالملك المصري فاروق، واعلنت الجمهورية المصرية التي تولى رئاستها عام 1954 الرئيس جمال عبد الناصر معلناً سياسة ارتكزت على الدعائم القومية والوطنية، ومحاربة اسرائيل والعمل على تحرير فلسطين. هذا الجو المشحون بالروح القومية وبالعداء لاسرائيل، أثر على التحركات الأمنية لكوهين ورفاقه في مصر، واندفعت الخلايا الاسرائيلية للقيام بأعمال تفجيرات ارهابية وعمليات تخريب في مصر، طاولت حتى مؤسسات بريطانية واميركية، بقصد الصاق التهمة بالشيوعيين والمسلمين المتطرفين والعرب. الا ان الاستخبارات المصرية تمكنت من اكتشاف الشبكات التخريبية الاسرائيلية، واعتقال افرادها، وكان كوهين من بينهم الا انه تمكن من الصمود أثناء التحقيق معه، واستطاع اظهار براءته، في الوقت الذي حكم فيه على زملائه بالاعدام شنقاً، الا انه وبعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، عمدت السلطات المصرية الى ترحيل عدد كبير من اليهود المصريين بسبب مواقفهم المعادية التي اظهروها خلال العدوان ضد مصر، وكان كوهين واحداً من اليهود الذين أرغموا على مغادرة مصر بعد دمغ جواز سفره بختم "لا عودة".

وفي 20 كانون الاول 1956 غادر ايلي كوهين مصر نهائياً الى اوروبا ومنها الى حيفا، ليتسلم مع امثاله من المهاجرين اليهود وثائقه التي تثبت انه مواطن اسرائيلي يتمتع بكامل الحقوق والواجبات، وانضم الى اسرته التي فرحت بلقائه، رغم ان كوهين كان يشعر بالغربة، لأن أخاه الصغير افراهام الذي يصغره بعشرين عاماً حدق به مستغرباً متسائلاً: من هو هذا الرجل؟

عام 1957 بدأ كوهين يعمل كمترجم للصحف العربية في وزارة الدفاع الاسرائيلية، لكنه استقال من عمله ليعمل محاسباً في احدى الشركات في تل ابيب. وعام 1959 تزوج اليهودية العراقية ناديا، وامضيا شهر العسل في مدينة ايلات على شاطىء البحر الاحمر الشمالي.

بدء الإعداد للمهمة

في هذا الوقت كانت الاستخبارات الاسرائيلية تدرس امكان الاستفادة من خبرات كوهين وذكائه ونشاطه، ورأت فيه مشروعاً جيداً لجاسوس محترف يكلف بمهمات خطرة لمصلحة اسرائيل، ولهذه الغاية التقى كوهين بكبار ضباط المخابرات الاسرائيلية، ليتم الاتفاق على عودة كوهين الى "الموساد" للقيام بمهمة داخل سوريا، اذ تركزت الخطة على ان ينتحل كوهين اسم كامل امين تابت ويهاجر الى الارجنتين، على انه سوري الجنسية، وان يدعي ان والده انتقل من سوريا الى بيروت حيث ولد كوهين هناك، ثم انتقلت العائلة الى الاسكندرية، وقرر انه بعد وفاة والده العودة الى وطنه سوريا للمشاركة في خدمة ابناء شعبه، وفي القيام بمشاريع اقتصادية لتحقيق امنية والده.

وبما ان مهمة كوهين كانت خطرة جداً، طلب منه مسؤولوه التكتم والسرية المطلقة في هذا الامر وعدم اطلاع زوجته او افراد اسرته على طبيعة عمله ومهمته. ولنجاح خطته، اوهم كوهين زوجته ناديا انه ترك عمله في الشركة، لينصرف الى التجارة الحرة، وانه مضطر للسفر بسبب هذا العمل، لكن زوجته رغم شكوكها في الامر وافقت على مضض.

انتقل كوهين بسرية تامة الى شقة تابعة لـ"الموساد" في تل ابيب ليبدأ مرحلة من التدريبات الامنية القاسية على ايدي كبار المدربين في جهاز "الموساد"، فكان لايغادر شقته الا باذن من مسؤوليه، وبرفقة عناصر من الاستخبارات الاسرائيلية. وتلقى كوهين تدريبات منوعة من طريقة الكتابة بالحبر السري، واستخدام اجهزة الاتصالات والشيفرة والتنصت وطرق التفخيخ والتفجير، الى تدريبات في المصارعة والجودو وكيفية استخدام الاسلحة الفردية والتمييز بين الالات العسكرية والطائرات الحربية السوفياتية والغربية، وكيفية اقتحام المنازل ووسائل اخفاء الوثائق السرية والمهمة. وادهش كوهين مدربيه لما ابداه من قدرة على الفهم والاستيعاب بسرعة لاتوصف، وامضى اسبوعين في شوارع تل ابيب في ممارسة لعبة المطاردة مع رجال "الموساد" الذين استطاع تضليلهم والافلات منهم، حتى اعلن رؤساؤه نجاحه وتفوقه في الدورة التي خضع لها.

واستكمالاً للخطة، انتقل كوهين عام 1960 الى مدينة الناصرة في فلسطين، وقُدم للشيخ محمد سلمان بوصفه طالباً في جامعة القدس، لتلقي اصول الدين الاسلامي والشريعة الاسلامية، واستطاع حفظ الكثير من الايات القرآنية عن ظهر قلب، وصار يقوم بتأدية الصلاة الجماعية مع المسلمين.

اما المرحلة الثانية من التدريبات فتركزت على دراسة تاريخ الجمهورية العربية السورية، وعاداتها الاجتماعية، وتقاليدها، واوضاعها السياسية والاقتصادية، وحفظ اسماء المدن السورية وخصائصها. وكثيراً ما كان يمضي الساعات مستمعاً الى الاذاعة السورية، ليتمكن من حفظ اللهجة المحلية واصولها. كما ان طبيعة مهمته فرضت عليه تعلم اللغة الارجنتينية وتاريخ الارجنتين وعاداتها وتقاليدها.

في سوريا

في مستهل العام 1961، أُعطي كوهين اشارة الانطلاق. وفي الاول من آذار كانت طائرة "سويس اير" تحط في مطار "ازيزه" في بيونس ايرس، وكان من عداد ركابها ايلي كوهين، الذي كان انيق الهندام، حسن المنظر. وبعد اتمام معاملاته في المطار، توجه بهدوء مستقلاً سيارة اجرة ليقيم في فندق في شارع افنيدا نويفي دي جوليو، باسم كامل امين تابت، مهنته تاجر، يحمل جواز سفر سورياً. وبعدما امضى اياماً عدة في التنقلات والنزهات، عاد لاستئجار شقة في "1405 اتاكورا"، وبدأ يجالس ابناء الجاليات العربية، في مطاعم بيونيس ايرس، لكن تركيزه كان على الشخصيات السورية. وكان كامل امين تابت يقصّ سيرته الوهمية على زملائه السوريين والعرب، وكيف ان والده امين وامه سعيدة، غادرا بلدهما في سوريا، قاصدين العمل في بيروت، حيث ولد هناك مع شقيقته عينا، التي توفيت وهي مازالت صغيرة، وكيف ان الحظ لم يصب هذه العائلة التي عادت الى الهجرة والترحال لتقصد مصر، ثم تستقر في نهاية المطاف في الاسكندرية، حيث امضى كامل امين تابت اكثر ايام طفولته وكيف ان عائلته بقيت محتفظة بجنسيتها السورية، وان والده اوصاه وهو على فراش الموت بالعودة الى مسقط رأسه والاقامة النهائية في بلده سوريا.

في هذه الفترة زاره احد عملاء "الموساد" ويدعى اسرائيل والنجر لتفقد احواله، ثم اخذه برحلة الى سويسرا لتسوية بعض الامور، والتعرف على المصانع والمعامل والشركات التي من المفروض ان يكون كوهين قد بدأ يتعامل معها تجارياً. وفي سويسرا زُود كوهين برقم صندوق بريد في زوريخ، اضافة الى صور فوتوغرافية وهي عبارة عن منتجات تم تركيبها ودمجها باتقان، بحيث يصعب اكتشافها، وعاد كوهين الى الارجنتين ليتلقى دورات جديدة على اصول اللغة الارجنتينية، بناء على تعليمات العميل الاسرائيلي في الارجنتين "ابراهام".

وبدأ كوهين (كامل امين تابت)، توسيع علاقاته وصداقاته في اوساط المغتربين السوريين، بمآدب عشاء عامرة كان يقيمها في شقته المفروشة، في جو حميم "وكرم حاتمي"، لامثيل لهما، وحديثه الدائم عن حنينه لوطنه سوريا، عارضاً على ضيوفه صوره مع والديه في الاسكندرية، لاقناعهم بطريقة غير مباشرة بصوابية كلامه وحقيقة شخصيته، فيما لم تكن هذه الصور الا مونتاجات مزيفة من اعداد القسم الفني في جهاز "الموساد". وتمكن كامل امين تابت من توطيد صداقة وطيدة مع الملحق العسكري في السفارة السورية وقتذاك امين الحافظ (ابو عبدو)، الذي اصبح بعد ذلك رئيساً للجمهورية السورية.

رغم ذلك كله فان الشكوك ساورت رجال المكتب الثاني السوري حول حقيقة كامل تابت، وبدأوا تحرياتهم عن هذا الامر، وتحديداً حول وجود شخص يدعى كامل امين تابت، انتقل الى الاسكندرية وبيونيس ايرس، وعمل في اماكن عدة، وهو في سن ايلي بالضبط. وكثيراً ما دخل كوهين الى شقته ليجد اثاثها قد قلب رأساً على عقب، وتم أخذ صور من البوماته، الا ان المكتب الثاني السوري، توصل لنتيجة تؤكد ان كل ما تحدث به كامل امين تابت مطابق للواقع ولا غبار عليه! لذا صرف النظر عن متابعة نشاطاته.

وفي حديث مع "النهار" يؤكد (محمد ع.)، وهو كان من ضباط المكتب الثاني السوري في الستينات، ان الملحق العسكري السوري وقتذاك امين الحافظ هو الذي ساهم من - دون قصد بالطبع- في تضليل عناصر المكتب الثاني السوري، عندما اكد لهم اقتناعه بـ"صدق حقيقة كامل امين تابت، وخصوصاً ان تابت كان وقتها يغدق الاموال والهدايا على الحافظ وعلى زوجته...".

في اواخر العام 1961 اعلن كامل امين تابت لزملائه السوريين انه يستعد للسفر نهائياً الى دمشق، وغمرت الفرحة قلوب الجميع لعودة كامل تابت الى سوريا، واشادوا بوطنيته وشهامته، وعمدوا الى تزويده عناوين كبار الشخصيات السورية في دمشق، ليساعدوه ويعاونوه. وكان قرار سفر كوهين الى سوريا بناء لامر من قيادة "الموساد". وقبل انتقاله الى سوريا زار اسرائيل، وتفقد زوجته التي كانت مازالت تجهل حقيقة عمله، واجتمع كوهين بقادته الذين زودوه التعليمات اللازمة، وبادوات الكترونية واقراص سامة على شاكلة اقراص الاسبرين لاستعمالها عند الضرورة، وبمواد تساعد على صنع المتفجرات، اودعها في انابيب معجون الحلاقة وكاميرات وافلام مصغرة وغيرها من لوازم تدخل في اطار عمله ومهماته.

انطلق كوهين برحلته المثيرة عبر ميونيخ، واثناء سفره على متن السفينة تعرف الى رجل سوري ثري يدعى مجدي شيخ الارض، ولكثرة ما اعجب بشخصية كامل تابت، قام عند وصوله الى سوريا بنقله بسيارته من المرفأ عابراً الحواجز الجمركية من دون تفتيش لما لشيخ الارض من سطوة ونفوذ. واستأجر كامل امين تابت شقة فخمة في حي ابو رمانة في دمشق، وهو احد ارقى الاحياء الدمشقية الذي يضم عدداً من مقار السفارات الاجنبية، وكانت شقته مواجهة لمبنى قيادة الاركان السورية. ولابعاد الشبهات من حوله، أنشأ كامل تابت شركة استيراد وتصدير، لاقت نجاحاً باهراً منذ انطلاقتها، لما له من خبرة ودراية، وساعدته طبيعة عمله على توثيق علاقاته وصداقاته مع كبار التجار ورجال الاعمال، ومع عدد من الشخصيات السياسية والامنية والعسكرية السورية. وحين كان ينتصف الليل كان كامل تابت يعود الى شقته، يسدل الستائر، يغلق الابواب والنوافذ، ليتناول جهاز الارسال المصغر، الذي خبأه في قدح نحاسي داخل ثريا بلورية كبيرة ليترجم رسائله بالشيفرة ويرسلها الى قيادته في تل ابيب، عبر هوائي الارسال الذي ركّزه بين ركام هوائيات التلفزيون على سطح شقته. كان كوهين يلتقط الصور، يختزلها الى افلام مصغرة يرسلها عبر زوريخ بواسطة صديقه العميل الاسرائيلي زالنجر. وكان يستقي معلوماته بطريقة غير مباشرة من كبار اصدقائه السوريين منهم العقيد سليم حاطوم (قائد لواء المظلات الممتاز) وجورج سيف (المسؤول عن الاذاعة في وزارة الاعلام السوري)، والملازم معز زهر الدين (ابن شقيق رئيس الاركان السوري عبد الكريم زهر الدين) وغيرهم.

موقع شقة كوهين الكائن في منطقة السفارات في دمشق، ساعده كثيراً على أداء مهمته بشكل جيد، لجهة الشيفرة التي كان يتولى ارسالها الى اسرائيل لان المنطقة كانت تشهد باستمرار بثاً لاسلكياً نشيطاً، فلم يكن من المحتمل اكتشاف دفقات الشيفرة التي كان يبعثها كوهين.

معلومات عسكرية مهمة

ويؤكد سياسيون وحزبيون بعثيون، عاشوا تلك الفترة، ان كوهين تمكن من ارسال معلومات عسكرية ذات اهمية لقيادته في اسرائيل، ومنها احتمال تعرض القوات الاسرائيلية لهجوم ما، بعدما لاحظ ان الانوار بقيت مضاءة لثلاث ليال في مقر القيادة العسكرية العامة حتى الفجر، وتأكد "الموساد" من صحة المعلومات عندما كانت طوابير المدرعات السورية تشق طريقها من دمشق نحو الحدود السورية – الاسرائيلية. حتى ان بن غوريون اتخذ الكثير من قراراته العسكرية - السياسية، بناء لتقارير عميله كوهين، وان الحرب التي شنتها اسرائيل في حزيران 1967 ارتكزت في معظمها على المعلومات العسكرية التي قدمها كوهين أثناء وجوده في سوريا.

عام 1962 زار كوهين عائلته في تل ابيب، وامضى اجازة طويلة تخللتها اجتماعات مع مسؤوليه، ليعود بعدها الى عمله في سوريا.

تعمقت صداقة كامل تابت (كوهين) مع جورج سيف، الذي كان مسؤولاً عن جمع الوثائق الحكومية لأغراض الدعاية، وكان سيف يقدم مكتبه الى صديقه كامل امين تابت لاستخدامه في اعماله التجارية، واستغل كوهين هذه الصداقة ليصور وثائق ومستندات خفية عن سيف، الذي كان يتركها بين يديه لثقته العمياء به. وتوصل كوهين الى زيارة مرتفعات الجولان برفقة صديقه الملازم معز زهر الدين، وزيارة احدى المناطق العسكرية القريبة من القنيطرة، وتمكن من مشاهدة مخططات مشروع للتحصينات الدفاعية، كما كان كوهين يزور صديقه امين الحافظ الذي صار رئيساً للجمهورية، وبرفقتة وزير الاعلام سامي الجندي. في آب 1963، صار كامل تابت حديث الساعة في سوريا، وصار مرشحاً طبيعياً لمنصب وزاري تقديراً لخدماته وعطاءاته، لا بل ان الرئيس السوري امين حافظ همس في اذنه "سنعينك وزيراً للدفاع، ومن يدري ربما بعدها ستصبح رئيساً للجمهورية!"، الا ان كامل امين تابت كان يتظاهر بعدم الاكتراث، مؤكداً انه يسعى لخدمة سوريا ليس الا، ولا يفكر بأي منصب...

بعد زيارة لاسرائيل، التقى فيها زوجته ناديا التي أبدت استياءها من غربته الدائمة عنها وعن اولادها، عاد كوهين الى سويسرا، ومنها الى دمشق بعدما وعد زوجته بأن سفرته هذه المرة ستكون الاخيرة، ولم يدر ان سفرته فعلاً ستكون الاخيرة، لانه لم يعلم ما هو المصير الذي كان ينتظره.

ففي احدى ليالي كانون الثاني من العام 1965، وبينما كان مستلقياً على فراشه في شقته في دمشق، والى جانبه جهاز الارسال اللاسلكي منتظراً من خلاله جواباً من تل ابيب، سمع طرقاً عنيفاً على باب شقته. وقبل ان يقوم بأي رد فعل، كان باب شقته قد تحطم على ايدي ثمانية رجال مسلحين شاهرين مسدساتهم، يرتدون البسة مدنية، وعلى رأسهم العقيد احمد سويداني، رئيس شعبة الاستخبارات المضادة، سائلاً كوهين: "من انت؟" ليرد بكل رباطة جأش وبدون خوف: "كامل امين تابت!" فما كان من سويداني الا ان انقض عليه مع الجنود قائلاً: "ستذهب الى السجن وهناك ستتمنى لو امك لم تلدك؟ وعندها ستقول لنا من انت !!".

اكتشاف الحقيقة

اما عن كيفية اكتشاف حقيقة كامل تابت، فقد صرح سويداني يومها لاكثر من صحيفة لبنانية، مؤكداً انه اشتبه بكامل تابت منذ زمن، وكان يقوم بمراقبته، وشاهد بنفسه هوائي جهاز الاتصال اللاسلكي الذي يستعمله فوق سطح شقته، وقام بالتنصت على هاتفه ورسائله. واهم عامل أدى الى افتضاح امر كوهين، تلك الشكوى التي دأب عاملو الراديو في السفارة الهندية في دمشق والمجاورة لشقة كوهين على رفعها الى السلطات السورية، عن وجود تشويش على ما يبثونه من رسائل بالراديو اللاسلكي الى نيودلهي، الامر الذي دفع السلطات السورية الى البحث عن مصدر هذا التشويش. هكذا قامت المخابرات السورية بقطع التيار الكهربائي عن المنطقة، لحصر مصدر هذا التشويش، الامر الذي دفع كوهين الى مواصلة بثه مستخدماً البطاريات، فكان تحديد موقع التشويش سهلاً وصائباً.

بعد القاء القبض على كوهين وتفتيش شقته بدقة عثر رجال الاستخبارات السورية على جهاز الارسال، ومواد التفجير، واصابع الديناميت، وآلات الكترونية كان كوهين يستخدمها في عمله. ويشير دبلوماسي مصري – سبق ان عمل في لبنان - الى "ان الاستخبارات المصرية ساهمت في الكشف عن حقيقة كوهين بعد عثورها على صورة قديمة له في ارشيفها ايام اقامته في مصر ومشاركته في اعمال شغب وتظاهرات وانشطة مشبوهة".

النهاية

في مقر القيادة العسكرية للواء السبعين المدرع خارج دمشق، خضع كامل امين تابت لتحقيقات مكثفة، ليعترف اخيراً "انا ايلي شاؤول كوهين من تل ابيب، جندي في الجيش الاسرائيلي".

وفي الايام التالية، كانت المسدسات مصوبة نحو رأس كوهين، وهو ينفّذ اوامر رجال الاستخبارات السورية، بتوجيه رسائل الى قيادة "الموساد" في تل ابيب لتضليلها، والكشف عن عملاء آخرين. وكان الفنيون السوريون يراقبون كوهين وهو يرسل الرسالة، الا انه وبسبب براعته في استخدام الشيفرة، تمكن من تبديل فحوى رسالته لتصل الى مسؤوليه في تل ابيب حاملة النبأ الآتي: "لقد وقعت في الاسر".

وقوع كوهين في قبضة الاستخبارات السورية رافقه حملات اعتقال شملت حوالى 500 رجل وامرأة في سوريا، من بينهم مضيفات في شركات الطيران وسكرتيرات، كما زج بالملازم معز زهر الدين وجورج سيف ومجدي شيخ الارض في السجن، اضافة الى عدد من النافذين ورجال الاعمال لشكوك حول صداقتهم الحميمة التي كانت تربطهم بكامل امين تابت، وما اذا كان قد استطاع تجنيدهم للعمل مع "الموساد".

حاولت اسرائيل انقاذ جاسوسها عبر الاتصالات التي اجرتها مع كبار الرؤساء والشخصيات، للضغط على الرئيس السوري للعدول عن فكرة اعدام كوهين، ورفضت سوريا طلبات العفو التي وردت اليها من معظم بلدان العالم، وفي مقدمتها الفاتيكان، كما رفضت حينذاك عرض المبادلة الذي قدمته اسرائيل والذي يقضي باطلاق سراح كوهين مقابل الافراج عن عدد من المعتقلين السوريين في السجون الاسرائيلية بتهمة التجسس لمصلحة سوريا.

وطار محاميان فرنسيان الى دمشق لحضور المحاكمة بصفة مراقبين، وكان احدهما جاك مرسييه الذي اشتهر بدفاعه عن المعتقلين الجزائريين في السجون الفرنسية ابان الاحتلال الفرنسي للجزائر، ومع ذلك لم تفلح الوساطات ولا التدخلات ولا العروض الاسرائيلية ولا تظاهرات الاحتجاج التي قادها بن غوريون شخصياً في شوارع تل ابيب، من منع صدور حكم الاعدام بحق هذا الجاسوس الخطير.

وفي الثامن من شهر أيار من العام 1965، وفي تمام الساعة الثالثة والنصف صباحاً، اعدم ايلي كوهين شنقاً وله من العمر 41 عاماً وسط حشد ضم الالاف من الناس، ووسط اجراءات امنية مشددة شاركت فيها فصائل من الجيش والشرطة وقوى الامن. هكذا انتهت اسطورة ايلي شاؤول كوهين، الذي اطلقت عليه عدة القاب وتسميات: "جاسوس العصر"، "الجاسوس الشيطان"، "محارب دمشق"، "ثعلب الجواسيس"...

تعليقات: