السيّد يؤنّب خادمه

نازحة من بنت جبيل يوم الهدنة (أرشيف ــ وائل اللادقي)
نازحة من بنت جبيل يوم الهدنة (أرشيف ــ وائل اللادقي)


«ما خلا وضع إعلانات على الطرق فإن من الصعب جداً على إدارة بوش أن تكون قد أعلمت إسرائيل بقوة أكثر، أنها راغبة في أن يُقدِم الجيش الإسرائيلي على سحق حزب الله بعنف وقوة وبدون تردد». هذا ما قاله ناشط في منظمات يهودية أميركية (آرون راسكاس، «جيروزاليم بوست»).

لا لزوم للإعلانات على الطرق. السياسة الأميركية معروفة جيداً في لبنان إلى حدّ أن الشائعات تقول إن هامشيي الأكثرية كانوا محرجين لدى استضافة رايس وولش قدر إحراج ضابط مرجعيون لحظة تقديم الشاي.

لقد توّجت واشنطن، في الحرب على لبنان، سياسة مديدة من الدعم لإسرائيل. لم تعد الولايات المتحدة بعد 2001، تحمي الأمن الإسرائيلي والتفوّق على العرب. باتت تشجّع التوسعية الصهيونية وتراها ترجمة للعدوانية الأميركية. ولقد حصل تماهٍ كامل في تعريف «الإرهاب» يلغي، من الأساس، فكرة المقاومات الوطنية، ويشمل دول الممانعة، ويرفع مزاعم «الديموقراطية أولاً» للتغطية على إعادة الهيكلة الجذرية.

وليس سرّاً أن الولايات المتحدة، بمساعدة حثيثة من فرنسا، ساهمت في تهيئة المسرح اللبناني لتقبّل التدخل الإسرائيلي، لا بل، لاستدعائه. كما ليس سراً أن واشنطن حرّضت إسرائيل على الذهاب في إجرامها الى أبعد حدّ ممكن ولو أدى ذلك الى المجازفة بـ«ثورة الأرز الأميركية» التي بدت، لفترة، درّة تاج الإدارة في «الشرق الأوسط الكبير». لقد شاركت الولايات المتحدة مباشرة في الحرب عبر الجسر الجوي للأسلحة، وعطّلت المؤسسات الدولية قبل أن تحاول تطويعها. والأهم من ذلك أن بوش غامر بمزيد من انكشاف بلاده في المنطقة، وتعميق الكراهية لسياستها الخارجية، وتعريض أنظمة عربية «حليفة» لضغط شعوبها.

باختصار، تصرّفت الولايات المتحدة كما لو أن 99 في المئة من أوراق اللعبة في يد إسرائيل. وكانت تتوقع، وهذا من حقها، أن ينجز الجيش الحليف «سحقاً» كاملاً للمقاومة في لبنان يبرر عشرات مليارات الدولارات التي تدفعها له الإدارات الأميركية منذ عقود معتقدة أنها تستثمر أموالها فيه.

لم يطابق حساب الحقل حساب البيدر. لم تكن إسرائيل عند مستوى الأماني الأميركية المعلّقة عليها، تماماً كما في وسع إسرائيل أن تزعم أن الجيش الأميركي لم يكن في مستوى الأماني التي تعلقها عليه تل أبيب في... العراق!

انتهت الحرب العدوانية من دون نصر. يعني ذلك، استطراداً، أنها انتهت إلى ما يشبه الهزيمة. وارتدّت مفاعيلها إلى الداخل الإسرائيلي الذي شرع في مراجعة مؤلمة للذات.

إذا تركنا إسرائيل تعيد النظر في الكثير من حساباتها واستعداداتها فإننا سنلاحظ قلقاً واضحاً جدّاً عند داعميها الأميركيين، سواء في الأوساط اليهودية المغالية في يمينيتها أو في أوساط الأصوليين المسيحيين المتصهينين.

يرى هؤلاء أنهم فعلوا ما في وسعهم من أجل توليد القناعة بتطابق المصالح بين إسرائيل والولايات المتحدة، ويلاحظون أن التعثر في لبنان يهدّد الجهد الذي بذلوه لأن «الأميركيين إذا كانوا يحبّون الضحايا فإنهم لا يحبّون الخاسرين».

ثمّة قناعة شرعت تبرز ضمن هذه البيئة تقول إن الفشل أضرّ بمكانة إسرائيل بصفتها مرتكزاً استراتيجياً أساسياً للولايات المتحدة في المنطقة. لقد جرى تحويل أطروحة «المرتكز الاستراتيجي» إلى حقيقة دامغة لا تقبل شكّاً. ولذلك فإن تسرّب الأسئلة إليها يمكنه أن يقود أطرافاً في المؤسسة الأميركية الحاكمة إلى البحث عن سبل لسياسة أكثر توازناً في المنطقة.

إلى ذلك فإن التعثر الإسرائيلي ألحق ضرراً بالحرب الأميركية الكونية على «الإرهاب». وبما أن هذه الحرب هي الاسم الرمزي لإعادة إنتاج شرق أوسط مستسلم للمصالح الأميركية، فإنّ من حق السيّد أن يؤنّب خادمه على أدائه.

ولم يكن باقياً سوى أن تدخل إسرائيل في مرحلة ارتباك حتى يشعر أصدقاؤها الأميركيون بأنهم باتوا في موقع يُضعف قدرتهم على تسويق الأهمية الفائقة لهذا السند الإقليمي.

ربما كان من الواجب أن نتذكّر أن نظرية «إسرائيل المرتكز الاستراتيجي» هي نظرية واكبت حرب حزيران 67 وتلتها. كانت الإدارة الأميركية قد شرعت تتنبّه إلى أهمية إسرائيل قبل ذلك بوقت قصير، إلا أن الانتصار المدوّي في «حرب الأيام الستة» فتح الأعين في واشنطن: ها هي الدولة الطامحة إلى صداقة أميركا تقدّم لها عربوناً ثميناً ليس أقل من «رأس الحركة القومية العربية». منذ ذلك الوقت حصل تحوّل في الولايات المتحدة بأن ازدادت سياستها الشرق أوسطية «إسرائيلية» وازداد يهودها صهيونية.

يمكن التأريخ بحزيران 67 لبداية انقلاب إيديولوجي في الولايات المتحدة أدخلها، في ما يخص «الهولوكوست» مثلاً، في إطار وعي أوروبي لعقدة الذنب الناجمة عن الجريمة التاريخية. إلا أنّ التعديل على الإيديولوجيا لا ينبغي أن يخدعنا كثيراً. لقد أصبحت إسرائيل اعتباراً من ذلك الوقت «أهمّ توظيف أميركي خارجي على الإطلاق» على حدّ توصيف شهير أطلقه آرييل شارون.

إن الحسم في تحوّل إسرائيل إلى أبرز مرتكز استراتيجي أميركي في الشرق الأوسط، هو الذي أعلى من شأن «أصدقائها» الأميركيين وزاد نفوذهم. وهكذا فإن قوة «اللوبي اليهودي أو الصهيوني» في الولايات المتحدة هي نتيجة لقوة إسرائيل أولاً، وقبل أن تتحوّل إلى عنصر مهمّ من عناصرها.

ومن هنا فإنّ أي تراجع في هيبة إسرائيل وقدرتها الردعية ينعكس سلباً على الموقع المميّز للمدافعين عنها في واشنطن، مع ما يمكن لذلك أن يتركه من أثر على الدعم الأميركي لإسرائيل. ليس غريباً، والحالة هذه، أن يبرز قلق لدى هذه الأوساط في أميركا ما دامت تدرك أن بعض سلطتها مرتبط ببقاء الجيش الإسرائيلي قوة لا تقهر واحتياطياً بالغ الأهمية للسيد الأمبراطوري.

وما يعزّز هذه المخاوف، أن التعثر الإسرائيلي (ونتائجه) يحصل في ظل «التجرّؤ» على طرح قضية نفوذ «اللوبي» علناً ولأول مرة (الدراسة الصادرة عن هارفرد)، وفي ظلّ الفشل الأميركي في العراق وما قد ينجم عنه من تحميل للمسؤولية إلى الجناح «الإسرائيلي» في الإدارة وفي النخبة الأميركية الحاكمة.

من المبكر الحسم في نتيجة هذه التفاعلات. إلا أنها موضوع مهمّ للمتابعة. فإذا سارت الأمور في وجهة محدّدة تكون هذه واحدة من النتائج المهمّة لـ«النصر التاريخي والاستراتيجي» الذي أشار إليه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. هل تمحو حرب تموز ــ آب 2006 بعض آثار عدوان حزيران 67 في هذا المجال تحديداً؟

جوزف سماحة

29 آب 2006

تعليقات: