أبو مكسيم يروي قصة استشهاد شباب الجمّالية

زوجة عوض جمال الدين تبكيه (أرشيف ــ أ ف ب ــ جوزف براك)
زوجة عوض جمال الدين تبكيه (أرشيف ــ أ ف ب ــ جوزف براك)


أزهرت شجرة الجوز وعادت لتنمو من جديد بعد مرور عام على إصابتها بالصواريخ الإسرائيلية. احتضنت هذه الشجرة جثث وأشلاء شهداء قرية الجمّالية البقاعية الذين سقطوا فجر الأربعاء 2 آب عام 2006 إثر غارة للمقاتلات الإسرائيلية. كانوا قد حملوا بعض البنادق الحربية غير المجهّزة وبنادق الصيد، وانتشروا بالقرب من منزل المختار أبو مكسيم، ليواجهوا، قدر الإمكان، الإنزالات الإسرائيلية.

يمسك مختار الجمّالية حسين قاسم جمال الدين، أبو مكسيم، علبة سجائره الحديدية، يقطع إحدى أوراق اللف، يدلّك التبغ بتأنٍّ، ويبدأ بسرد تفاصيل ما حصل. يبدأ من ليل 1 آب، عند الساعة التاسعة وأربعين دقيقة تحديداً، بدأ جيش العدو عملية إنزال في منطقة وادي الصفا ـــــ الجمالية والمناطق المحيطة بمستشفى دار الحكمة، التابع لحزب الله «ظنّاً منه أنّ الأسيرَين الإسرائيليين قد يكونان هناك، أو لاعتقاده أنّ الشيخ محمد يزبك مختبئ في المستشفى»، يقول أبو مكسيم، معتبراً أنّ الإسرائيليين أرادوا رفع معنوياتهم بعد سلسلة الهزائم التي مُنوا بها طيلة فترة عدوانهم...

سمحت خبرة بعض الأهالي بتحديد العملية الاسرائيلية. «هو إنزال» لأنّ أيّ تحرّك عسكري مماثل يلزمه قطع أوصال المنطقة حسب ما تفيد الخبرة في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» وهذا ما فعلته صواريخ الطائرات التي استهدفت الطريق العام شمالي وجنوبي دار الحكمة. وتأكد هذا الاستنتاج بعدما رأى عدد من أهالي المنطقة جنوداً إسرائيليين يقطعون مسافات لا بأس بها في السهول المجاورة. وجد المختار وأخوه أبو أكرم أنّ من واجبهما التنقل بين بيوت القرية وتحذير الأهالي من عدم الحركة أو إشعال الأنوار أو القيام بأي إشارة.

ظلّت الأوضاع متوترة ساعات طويلة، لاحظ خلالها سكان الجمّالية التحليق الكثيف للمقاتلات والمروحيات وطائرات الاستطلاع الإسرائيلية فوق رؤوسهم. في هذا الوقت استعدّ عدد من الشبان في الحديقة الجانبية لمنزل المختار. لم تمنع قلّة التجهيزات والاستعدادات الشيوعيين من حمل السلاح من جديد لمحاربة الإسرائيليين. «خرجنا تلك الليلة ببنادق الصيد عندما شعرنا بأنّ الجنود الإسرائيليين قريبون ما فيه الكفاية من منازلنا».

عند الساعة الواحدة وخمس وخمسين دقيقة من فجر 2 آب، توجه أبو مكسيم وأخوه إلى منزل أحد الأقارب بعد إذاعة خبر عن تدمير الطائرات الإسرائيلية للجمّالية. عند وصولهما دوّى انفجار كبير في القرية، فعادا مسرعين إلى البيت. المنزل ليس متضرراً، لكن شجرة الجوز في الحديقة الجانبية، حيث كان يقبع الشبان، بدت من دون أغصان ولا أوراق فأيقن عندها أنّ الشباب استشهدوا.

اللحظة الأصعب التي عاشها المختار، ربما، كانت كتمانه لخبر استشهاد الشبان عن الموجودين داخل المنزل. لم يستطع الصراخ أو البكاء أو التعبير عن المشهد الذي رآه فالتزم الصمت، ولم يسمح لأي شخص بالخروج «كي لا تثير التحركات انتباه الإسرائيليين» وخصوصاً أن عدد الأشخاص الذين في منزله يفوق 96 شخصاً من الأقارب ونازحين من قرى جنوبية وبقاعية كعيترون وحولا وبعلبك.

يتوقف أبو مكسيم لحظات قبل متابعة كلامه. يمسك بعلبة السجائر من جديد ويلفّ سيجارة أخرى. ينفخ منها كثيراً قبل أن يستأنف كلامه: «دخلت بعض الأشلاء البشرية إلى المنزل عبر الشبابيك التي انهار زجاجها، تركوا من جسد ابني قطعة لحم من قدمه».

قام أبو مكسيم وعدد من «الرفاق» الآخرين بسحب إحدى الجثث إلى مقربة من حائط المنزل، فيما غطّى أحدهم ما بقي من جثة مكسيم بفراش. وكما كان متوقعاً، لفتت هذه التحركات الطائرات الإسرائيلية، فقصفت، عند الساعة الثانية وخمس وثلاثين دقيقة المكان بصاروخ أصاب الفراش حيث يقبع جسد مكسيم.

عند الساعة الرابعة والنصف فجراً خرج الأهالي من البيت «بعد أن خفّ تحليق الطيران المروحي وبان ضوء الفجر». راح الأهالي يجمعون الأشلاء المبعثرة في حديقة المختار، ووجد بعضها على مسافة تبعد أكثر من ستين متراً عن مكان سقوط الصواريخ. وتجسّد المظهر الأفظع برؤية بعض أشلاء مكسيم معلّقة على أسلاك أعمدة الكهرباء المجاورة. تطلّ أم مكسيم من الداخل، تجلس قرب زوجها، تشعل سيجارة وتنتظر بهدوء لتسنح لها الفرصة للكلام. أنا «أمّ علي» لا «أم مكسيم»، تقول والدة الشهيد. تفسّر قولها «لم أعرف أنّ اسم ابني في سجلات النفوس هو مكسيم إلا عندما ذهبنا لتسجيله في المدرسة، أخفى عنّي زوجي كل تلك المدة حقيقة الأمر وكنت مقتنعةً قَبلها بأنّ مكسيم يدعى علي». يتدخل المختار ضاحكاً «أنا أبو مكسيم».

تعود الوالدة إلى الكلام: «أنا لم أبك لأنني تعلمت من ابني أنّ الدموع تعني الضعف». وهي تعتبر أنّ ابنها ليس «أغلى من هادي، وللانتصار على العدو على كل فرد أن يقدّم تضحيات وجاء دوري خلال حرب تموز».

تتذكر أنها بعد الغارة الأولى، انهمكت بمساعدة النساء النازحات في منزلها، فوزّعت عليهن المهدئّات ولملمت ما تيسّر من الزجاج. تقدّم منها أحد الرجال وسألها عما إذا كانت تحتاج للمساعدة محاولاً طمأنتها إلى صحة الشباب في الخارج، رفعت نظرها إليه واكتفت بالقول «اذهب وتأكد ما إذا كان ابني قطعةً واحدة».

أراد مكسيم، بحسب والدته، أن يكون متميّزاً عن الآخرين، وقال في الثالثة من عمره «أحب أن أكون فوق الناس، سأصبح كابتن طيران». كان بطل البقاع في الكاراتيه، ولاعب كرة قدم شبه محترف وانضم للمنتخب اللبناني للناشئين. تتذكر الكلمات الأخيرة التي تركها قبل استشهاده: «لا تخافي، فلا داعي للخوف من إسرائيل». خلقت هذه الكلمات شعوراً غامضاً في نفسها «طيلة فترة العدوان لم أكن خائفةً، لكن عندما قال لي ابني هذه الكلمات شعرت للمرة الأولى بالخوف، كأنّ قلبي أنبأني بأن أمراً سيحصل، وهذا ما حصل».

القصة لم تنته بعد، فعند الساعة التاسعة صباح 2 آب دفن أهالي الجمّالية شهداءهم وتغيّب عدد كبير منهم بطلب من المختار لأنّ «الطائرات كانت لا تزال تحلّق في السماء، والإسرائيليون يتمنوّن مثل هذه التجمّعات لاستهدافها».

وصلت بعض الأخبار إلى الجمّالية، عبر عدد من المراسلين الأجانب الموجودين في البقاع بأنه يجب إخلاء البلدة من سكّانها. «قالوا لنا إنّ هناك مصنعاً للصواريخ». فوجئ الأهالي بهذه الأخبار إلا أنّ تحليلاتهم أصابت من جديد، إذ قدّروا أنّ طائرات الاستطلاع الإسرائيلية صوّرت أحد مصانع القساطل الحديدية وقد تكون حسبته مصنعاً للصواريخ. هكذا استمرّ القصف متقطعاً على الجمّالية حتى الساعة الأخيرة لوقف إطلاق النار في 14 آب. حتى في اليوم الأخير لم تنج البلدة من مجزرة جديدة استهدفت إحدى حافلات النقل المركونة إلى جانب أحد بيوت القرية فاستشهد تسعة لبنانيين آخرين، معظمهم ينتمون للقوى الأمنية.

تتمنّى أمّ مكسيم لو تعتبر الدولة اللبنانيين الذين قتلوا خلال حرب تموز شهداء «السنيورة لا يعاملهم بهذه الطريقة ربما لأنه يعتبر أميركا وإسرائيل أصدقاء». تكمل: «وأنا لا أبكي مكسيم إلا عندما أشعر بالخجل من هذه الدولة، ولكون السنيورة رئيسها».

الحديث عن الدولة يستدعي الحديث عن تعويضات الحرب: «لم يفارقنا السنيورة وفريق عمله منذ أن حلّت علينا الحرب وكوارثها، حتى إنه عرض علينا أن يحملنا على ظهره إذا أردنا التنقّل من مكان لآخر» يقول أبو مكسيم ساخراً. فقد اكتفت وزارة المهجرين بدفع 20 مليون ليرة على الشهيد الواحد، ولم تولِ أهمية للأبنية والأملاك التي تضرّرت أو تهدّمت. فالدولة، إذا دفعت، فمبالغ محدودة جداً، «دفعوا لي 840 ألف ليرة لبنانية تعويضاً عن أحد الجدران التي انهارت مع سقوط الشهداء والصواريخ».

شجرة الجوز حيث استشهد الشباب (وائل اللادقي)
شجرة الجوز حيث استشهد الشباب (وائل اللادقي)


تعليقات: