أوروبا و«الملك جورج»

نازحون الى سوريا (أرشيف ــ عفيف دياب)
نازحون الى سوريا (أرشيف ــ عفيف دياب)


الأوروبيون قادمون. أيام وينتشر آلاف الجنود منهم في جنوب لبنان. لم يسبق لما يسمى «القارة القديمة» أن شاركت بهذه الكثافة في مهمة من مهمات حفظ السلام التي قررتها الأمم المتحدة. السؤال الذي يخطر في البال فوراً هو: هل تدرك النخب الأوروبية دقة الوضع وحساسيته؟

نبادر الى القول إن اسهل ما يمكن أن يحصل هو أن تبدو هذه القوات طلائع «حملة صليبية» متأخرة جمعها وأوفدها إلينا «الملك جورج» من اجل محاربة «الإسلام الفاشي». ليس هذا أسهل ما يمكن أن يحصل بل إنه حاصل فعلاً لدى أوساط عربية وإسلامية. نكون، في هذه الحالة، أمام مرحلة تصعيدية خطيرة في «صدام الحضارات» الذي بدأ طرحاً خرافياً ثم شرع يكسب صدقية يوماً بعد يوم بفعل غطرسة الإدارة الأميركية ورعايتها لانفلات إسرائيل من عقالها.

فرنسا وإيطاليا دولتان محوريتان في الحضور الأوروبي في لبنان. حصل نوع من تبادل الأدوار بينهما في السنوات الأخيرة. ففي خلال حرب العراق قادت باريس الانشقاق عن سياسة واشنطن، فيما كانت روما سيلفيو بيرلوسكوني تمارس نهجاً عبّر عنه رئيس الوزراء آنذاك بفظاظة وتولت الصحافية اوريانا فالاتشي كشف مكنوناته. أما في هذه الحرب فلقد مارس الثنائي رومانو برودي ــ ماسيمو داليما قدراً من الاعتدال بينما التصق جاك شيراك بجورج بوش قبل أن يحاول الابتعاد عنه في عملية تشبه عمليات فصل التوأم السيامي.

من المبكر، بعض الشيء، الحسم في ما قد يستقر عليه الموقف الوسطي الأوروبي. إلا أن النخب الأوروبية الحاكمة والمؤثرة مطالبة بأن تعي حيوية الدور الذي تضطلع به بلدانها. فلقد كان يقال، في السابق، إن أوروبا عملاق اقتصادي وقزم سياسي. غير أن المهمة اللبنانية توحي أن أوروبا هي، متى أرادت، عملاق، أو شبه عملاق، عسكري. فهل يمكن لها أن تكون حاضرة ميدانياً إلى هذا الحد من دون إرفاق ذلك بسياسة خارجية جديرة بهذا الاسم هي سياسة مفتقدة حتى اليوم؟

تقتضي الصراحة القول إن شيئاً ما يثير القلق في التوجهات الأوروبية. لقد انشقت أوروبا خلال حرب العراق وقاد المحور الفرنسي الألماني (مدعوماً من روسيا) جبهة الاعتراض على الانفراد الأميركي. إلا أن مرور زمن ضئيل على هذه الواقعة التي عكرت صفو العلاقات الأطلسية أنتج واقعاً مختلفاً وهذه المرة ايضاً بقيادة فرنسية ألمانية. إن باريس هي المسؤولة، الى حد ما، عن أخطاء السياسية الأميركية في لبنان وذلك لأسباب يطول شرحها. وحلول أنجيلا ميركل محل غيرهارد شرودر أحدث انزياحاً واضحاً إلى مواكبة السياسة الأميركية. وهكذا بدا، بعد 12 تموز، أن ما كان انشقاقاً مزدوجاً في العراق أصبح توافقاً مزدوجاً في لبنان. القلق واجب إذاً وذلك بالرغم من تباشير الانفتاح التي بدت في الخطاب الأخير للرئيس الفرنسي.

ليس التحول الأوروبي ملموساً في الموضوع اللبناني فقط. إنه حاضر بقوة في ما يخص القضية الفلسطينية أيضاً. لقد انحازت دول الاتحاد فلسفياً الى الإدارة البوشية. لم يعد الاحتلال هو المشكلة وإنما «الإرهاب»، والفرق بين الأمرين شاسع ويقود، في ما يقود إليه، إلى تجويع الشعب الفلسطيني عقوبة له على اختياره الديموقراطي. ومن نافل القول أن أي التحاق أوروبي بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط هو الباب الملكي للدخول في الهامشية.

من المؤسف جداً أنه في الوقت الذي تؤكد فيه الوقائع العراقية والفلسطينية واللبنانية قرب المواقف الأوروبية السابقة من الصواب نجد أن أصحابها تخلوا عنها، أو يكادون، من أجل دعم سياسة أميركية (وإسرائيلية) ثبت بالبرهان القاطع أنها وصفة لعدم الاستقرار وللتوتر.

هل يجوز الاعتقاد بأن المشاركة الأوروبية الكثيفة في «اليونيفيل» هي علامة صحو؟ يفترض أن يحدث ذلك. إن الحضور القوي في لبنان مدخل الى امرين: الأول انتزاع أوروبا حقها في أن تكون لها كلمة مسموعة في قضايا لبنان طبعاً، ولكن أيضاً في قضايا المنطقة كلها. أما الثاني فهو ضرورة أن تكون هذه الكلمة مغايرة حتى تكون مسموعة.

ثمة ملفات كثيرة بيننا وبين الأوروبيين، تبدأ بالتعامل التجاري وتمر بواقع الجيرة ولا تنتهي بقضايا الهجرة التي تضع القارة، أو بعضها، أمام تحدي العلاقة بعربها ومسلميها. الولايات المتحدة بعيدة عن هذه العناوين وهي تتصرف، كما إسرائيل، مثل فيل في دكان الخزف: لم تضع يدها على بلد إلا انهار.

وإذا كان الأوروبيون يترددون أمام الجبروت الأميركي حتى وهم يدركون أخطاءه فإن «الفرصة اللبنانية» تتيح لهم مصارحة حليفهم الاطلسي. وتنهض هذه المصارحة على التأكيد أن أوروبا لا يمكنها ان تؤدي دور الصيانة وخدمة ما بعد البيع عند الأميركي (والإسرائيلي) الأهوج، وأنها لا ترسل الآلاف من شبابها للعيش الصعب في لهيب أزمات تفتعلها واشنطن وتل أبيب.

ندرك تماماً أن العنصر الحاسم في دفع أوروبيين كثر إلى المشاركة الجدية في «اليونيفيل» وإلى تحديد نوع هذه المشاركة، هو الاهتمام بإسرائيل وأمنها أولاً وبلبنان خامساً. وهذا ما يقوله أحد «أفضل» الأوروبيين هذه الأيام، ماسيمو داليما.

إلا أن هناك اهتماماً واهتماماً. ويكاد المرء يجازف بالقول إن المهتم فعلاً بإسرائيل هو من يرشدها لا من يحوّل جموحها إلى استدراج ناجح لوصاية غربية على لبنان وغيره بقيادة «الملك جورج» المتأخر قروناً عن زمنه.

الأوروبيــون قادمون للإقـامة في جنوب لبنان. أي، عملياً، عند الحدود مع فلسطيــن. إذا اعتبـروا أنهــم حماة إسرائيل التي تبطش بالفلسطينيين وحماة الاحتلال الأميركي التدميري للعراق، وحماة الاختراق اليومي للسيادة اللبنانية، فإن إقامتهم لن تطول. وهي لن تطول، بالتأكيد، مدة الغزوات الصليبية

الغابرة.

جوزف سماحة

١ أيلول 2006

تعليقات: