أداء الأركان العامة للجيش الإسرائيلي: إنّه الفشل!

رئيس الأركان الإسرائيلي دان حالوتس أثناء جولة على جنوده بالقرب من الحدود اللبنانية خلال<br>حرب تموز (أرشيف - رويترز)
رئيس الأركان الإسرائيلي دان حالوتس أثناء جولة على جنوده بالقرب من الحدود اللبنانية خلال
حرب تموز (أرشيف - رويترز)


# تأليـــف أكثـــر مـــن أربعيـــن لجنـــة تحقيـــق داخليّـــة

استدعى المناخ السلبي الذي نشأ بعد حرب تموز تحرّكاً مضاداً من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي بحثت عن مخارج لتهدئة الرأي العام الداخلي وإعادة ثقته بمؤسسته العسكرية، وإظهار أن الجيش ما زال يمسك بزمام الأمور، وأنه قادر على إعادة إصلاح ما انكسر نتيجة للفشل في الحرب. والهدف كان إعادة الجيش الإسرائيلي إلى الصـورة المكوّنة عنه طوال عشرات السنين، سواء لدى الرأي العام الداخلـي أو الرأي العام في دول القوس المعادية لإسرائيل وسواء في العالم، وتحديداً لدى الولايات المتحدة الأميركية

استنفر الجيش الإسرائيلي لمواجهة الواقع السلبي الذي نشأ بعد حرب تموز، وخصّص أكثر من أربعين لجنة تحقيق داخلية للنظر في فشل الحرب. كانت مهمة هذه اللجان أن تنظر في ما سمّاه الجيش الإسرائيلي «إخفاقات» الحرب لا فشلها، لما لمصطلح الفشل من مدلولات خاصة، تؤدي بتأثيراتها السلبية إلى مراكمة سلبيات إضافية على السلبيات القائمة.

كانت الرغبة لدى دان حالوتس، في افتراض أساسي حكم قراره بتأليف لجان التحقيق، أن يتوسل هذه اللجان التي ينشئها الجيش عادة لتقويم أي عملية عسكرية يقوم بها، من اجل تقطيع الوقت وتوليف مهمة جديدة له (حالوتس) تستند إلى وضع الخطط التنفيذية المبنية على توصيات لجان التحقيق المختلفة، الأمر الذي يتيح له مواجهة المطالبة الشعبية وغير الشعبية بتقديم استقالته من الجيش الإسرائيلي. بمعنى آخر، أراد حالوتس تقزيم واقع الفشل إلى واقع «إخفاقي» وتقزيم نتائج التحقيقات وحصرها بتوصياتها باعتبارها مهمة قادر على إنجازها وإعادة الجيش إلى صورته الأساسية، صورة الجيش الذي لا يقهر والذي مر «بنكسة» قادر على معالجتها.

كان يفترض بلجان التحقيق أيضاً، أن تلتزم، باعتبار المشرفين عليها من صلب الجيش نفسه، مراعاة خصوصية المؤسسة العسكرية وعدم تسريب فضائحها إلى الجمهور الاسرائيلي. وكان يؤمل، أقلّه لجهة دان حالوتس، أن يعمد رؤساء لجان التحقيق إلى حجب أي مادة عن الإعلام الإسرائيلي، من شأن تسريبها أن يصعّب عليه الانفلات من مسؤولية الفشل، وعلى الجيش مهمة إعادة هالة القدسية المفقودة إليه وثقة الإسرائيليين به. لكن حجم الخلل كان كبيراً، وقد بُثّ جزء مهمّ من مضمون التحقيقات رغم قلة التسريبات نسبياً والتزام عدد كبير من مسؤولي اللجان عدم تسريب استنتاجاتهم والمعطيات التي حصّلوها.

نشر الإعلام الإسرائيلي خلاصة نتائج أقل من عشر لجان، كان أهمها وأكثرها حرجاً لحالوتس وللمؤسسة العسكرية برمّتها، لجنة التحقيق الناظرة في أداء هيئة أركان الجيش الإسرائيلي.

تجاوزت نتائج التحقيقات ما رغب به حالوتس، رغم محاباة بعض المسؤولين عن التحقيقات لحالوتس نفسه. لكن بعض الاستنتاجات جرى تسريبها إلى الإعلام الإسرائيلي وكانت أكبر بكثير من قدرته على احتوائها ووقف تداعياتها وتدحرجها، وهي مادة تلقّفها الإعلام تلقّفاً لافتاً وبنى عليها تقاريره وتحليلاته، وركّز من خلالها على مهاجمة حالوتس تحديداً، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى استقالته من الجيش.

ويُعدّ تحقيق الجيش الإسرائيلي في ما خص أداء هيئة الأركان العامة خلال الحرب، الذي أوكل الى الرئيس السابق لأركان الجيش الإسرائيلي دان شومرون، إضافة إلى تقرير اللواء أودي شيني، الذي رأس طاقم تحقيق خاص للنظر في أداء الجيش بين هيئة الأركان العامة وقيادة المنطقة الشمالية خلال الحرب، أهم تحقيقين من بين التحقيقات الأربعين التي نظرت في أسباب الفشل، وإليه تستند معظم المعطيات التي تدين حالوتس، وتظهر إخفاقات ضباط الأركان وعدم أهليتهم ودرايتهم وخبرتهم، رغم محاولة شومرون نفسه، إبعاد حالوتس عن مسؤولية الفشل.

شغل دان شومرون منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بين عامي 1991 و1998، وهو أهمّ الجنرالات الإسرائيليين وأكثرهم خبرة ودراية، وتناول تقريره أداء هيئة الأركان العامة خلال الحرب وأسلوب تفعيلها لإدارتها، وخلص إلى نتائج اقل ما يقال عنها إنها فضائحية، من بينها استنتاجه بأن فشل هيئة أركان الجيش خلال الحرب كان بنيوياً، وأن عدداً كبيراً من ضباط الأركان كان فاقداً للأهلية والخبرة المطلوبتين لإدارة أي حرب، الأمر الذي يفسر إخفاء معطيات التقرير عن الإعلام الإسرائيلي مدة طويلة، استطاع دان حالوتس عبرها أن يخفيها عن التداول إلى أن قدّم استقالته.

يشكك تقرير شومرون بما حاول ثالوث الحرب إيهام الإسرائيليين به، من أن حزب الله خرج من الحرب ضعيفاً وخائفاً، ويرى أن «ما يزعمونه من خروج حزب الله ضعيفاً مسألة مشكوك فيها، والعكس هو الصحيح، إذ إن قدرتنا على تصفية حزب الله، إذا عاد وبادر في المستقبل إلى ضرب السيادة الإسرائيلية، تضررت بسبب الحرب، وبسبب استمرار تسلح حزب الله ووجود الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة تطبيقاً للقرار 1701»، وبذلك ينسف تقرير شومرون أحد أهم الإنجازات التي يرددها ثالوث الحرب في مواجهة شبه اقتناع إسرائيلي معاكس.

وبحث شومرون في التزام الأركان العامة بالرؤى والاستعدادات السابقة للحرب التي تبنّتها القيادة وأجرت على أساسها مناوراتها المتكررة. وخلص إلى أن فشل إسرائيل في تموز 2006 «كان واضحاً جدّاً. فخلال العامين اللذين سبقا الحرب، نفّذ الجيش الإسرائيلي مناورتين للتدرب على النظرية الجديدة المسمّاة الحسم بواسطة الروافع وردود الأفعال، في مناورة أطلق عليها تسمية حجارة النار 9، وجرى تنفيذها في حزيران عام 2004، شارك فيها كل من هيئة الأركان العامة وقيادة المنطقة الشمالية». وبحسب الوقائع، يضيف التقرير، وقعت هيئة الأركان خلال المناورة في كثير من الاخطاء، لكنها في الحرب، و«بصفتها هيئة أعدت نفسها لمقاتلة حزب الله، لم تتعلم شيئاً من الواقع وكررت خلال الحرب كل الأخطاء التي حدثت خلال المناورة».

يُظهر التقرير أيضاً أن «خمسة فقط من جنرالات الأركان العامة من أصل 14، شاركوا في عمليات تقويم الوضع خلال الحرب وإقرار الخطط، وهم لم يتجاوزوا دورات مهنية تخصصية في قيادة الاركان، الأمر الذي يقف وراء تبنّي الجيش الإسرائيلي نظرية قتالية غير مناسبة في الحرب»، وصفها شومرون بأنها نظرية لم يكن أي جيش متطور ليتبناها.

لم يكن لضباط قيادة الاركان أي توجّه عسكري محدّد، وحتى ما قبل العملية البرية للوصول الى الليطاني في آخر ايام الحرب، عجز هؤلاء الضباط عن تحديد وجهة عسكرية محددة، إذ يرى تقرير شومرون، بعد درس عميقٍ لبروتوكولات جلسات رئاسة هيئة الأركان خلال الحرب، وتحليل الأوامر العملية الصادرة عنها وإجراء مقابلات مع المناصب الرفيعة في هيئة الأركان والأذرع المختلفة ومسؤولي قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، أنه «حتى الثامن من آب، أي اليوم الذي تقرّر فيه خوض عملية برية واسعة النطاق في جنوب لبنان، لم يكن للحرب أي هدف عسكري محدد»، ويردّ التقرير ذلك إلى أن «الأوامر التي أصدرتها هيئة الأركان العامة حدّدت أهدافاً غير قابلة للقياس. على سبيل المثال، استخدام الضغط على حكومة لبنان، أو ردع حزب الله، أو إنزال ضربات قوية بالقدرات العسكرية لحزب الله..»، وهي أوامر عامة غير محددة وغير مبنية على تفصيلات عملية وخطط موجودة وقابلة للتنفيذ عملياً، الأمر الذي منع قياسها وتحديد نتائجها.

ويكشف تقرير شومرون، أنه في التاسع عشر من تموز، طلبت القيادة السياسية من الجيش ايقاف إطلاق الصواريخ على الأهداف الاسرائيلية وإبعاد التهديد عن التجمعات المدنية في العمق الإسرائيلي. لكن المعطيات توضح أن خمسة ألوية قد استُخدمت في هذه المنطقة في عمليات صعبة ومتنوعة، وجلّ ما أنجزته لا يرتبط بالضرورة بالهدف الواضح الذي حدده السياسيون للجيش، وهو ما يعني غياب الهدف والأسلوب والجدول الزمني لهذه العملية. وفي ذلك يذكر شومرون في تقريره أن التفاهم بين المستويين العسكري والسياسي لم يكن قائماً، إذ عارض المستوى السياسي العملية البرية في السابع والعشرين من تموز (أي رئيس الحكومة إيهود أولمرت)، لكن الجيش استعدّ لهذه العملية في التاسع والعشرين من الشهر، رغم هذه المعارضة.

يكتب المعلق العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت» اليكس فيشمان معلقاً على ذلك بالقول، إن «شومرون قرأ بحراً من الأوامر، وبحراً من المداولات، لكنه لم ينجح في فهم ما الذي يريده الجيش بالضبط. على ماذا يُركز، ما هي نقاط الثقل، وما هي الأمور الحيوية التي يسمح بضربها لتحقيق الأهداف».

ويسجّل في الحرب أن الوحدات العسكرية الميدانية عانت من عدم فهم القيادة لقدراتهم والمهمات التي أعدّوها وتدربوا عليها، اذ استنتج التقرير أن رؤية هيئة الأركان العامة للحرب وكيفية ادارتها «أوجدت فجوة عميقة بين دماغ الجيش، أي هيئة الأركان العامة وقيادة المنطقة الشمالية، وبين جسم الجيش، المتمثل في الوحدات الميدانية التي أعدت وفقاً لمبادئ الحرب التقليدية». أي أن قيادة الجيش وأركانه كانوا في مكان، والوحدات العسكرية الموجودة على الأرض الهادفة إلى تحقيق رؤية القيادة في مكان آخر، وهو ما أدى إلى فشل في تحقيق الأهداف المرسومة.

رغم أن استنتاجات شومرون حاولت إبعاد حالوتس عن مسؤولية الفشل، فهو في الوقت نفسه وفّر كل الأسباب لاتهام حالوتس نفسه بصفته قائداً لأركان الجيش بعد استنتاجاته القاسية بشأن أداء الجيش عموماً، ومن أهمها أن أعضاء قيادة الاركان لم يكونوا في صورة الحرب ومجرياتها، ولم تتم مشاورتهم بل لم يكونوا على مستوى المسؤولية، الأمر الذي أدى إلى تغيير في خطط الحرب بشكل متواصل ومتكرر.

في خلاصة تقرير شومرون، كانت هناك لائحة طويلة من التوصيات، من بينها «تجميد العمل بنظرية القتال الحالية، وإعادة تعديل كل الخطط الاحتياطية الميدانية وملاءمتها مع النظرية الصحيحة المستحدثة، وإعادة اختبار حجم القوات البرية، والتعامل مع الردع الاستخباري كأنه شيء زائد، لا يمكن بناء الجهوزية الفورية عليه، إضافة إلى تنفيذ مناورات للقيادات العليا في هيئة الأركان والمناطق هذا العام (فوراً)، وتنظيم حلقات دراسية لكبار الضباط لتعميق النظرية التقليدية العسكرية لديهم، كما هي الحال في الجيوش المتطورة». بمعنى آخر، نسف التقرير الأسس التي يعمل عليها الجيش الإسرائيلي وجهوزيته لخوض الحروب ومواجهة الأخطار، وهو بمعنى آخر أيضاً، إعلان أن الفشل في إدارة الحرب لم يكن إخفاقاً يمكن تداركه باختيار أساليب دون أخرى لإدارة الحرب، بل هو فشل بنيوي يحتاج إلى عزل نظريات تشغيلية واستحداث أخرى وملاءمة القدرات العسكرية مع حقائق كانت غير مفهومة ومستحضرة قبل الحرب، وأكثر من ذلك يطالب التقرير بالتعامل مع الردع كأنه شيء زائد، وهو في ذلك يقر بأنّ الردع الإسرائيلي لم يعد رافعة لتحقيق نتائج في هزيمة العدو، في عملية انزياح عن العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي حكمت الفعل العسكري الإسرائيلي منذ سنين طويلة.

تراشق اتّهامات: الكلّ يبحث عن مخارج من مسؤوليّة الفشل

ما كانت إسرائيل لتصاب بـ«حكمة ما بعد الفعل» لو أن الفصل الأخير في الحرب أشار إلى نجاح في تحقيق أهدافها. لكن الخيبة والفشل اللذين واصلا حضورهما، سواء لحظة إعلان وقف الأعمال الحربية في آخر أيام الحرب أو خلال العمليات البرية أو ما بعد الحرب، دفعا كل من لديه مصلحة في إظهار براءة نفسه من الفشل أو خشي إلحاقها به، إلى إيصال المعلومات التي يملكها والتي تلقي باللائمة على مرؤوسيه أو زملائه، وكان لدى لجان التحقيق المختلفة كمّ هائل من الشهادات التي أدت إلى وضوح الرؤية ووضوح التسلسل الحقيقي للأحداث.

في هذه الحرب، على عكس كل حروب إسرائيل تقريباً، أتيح للمـــــــراسلين والباحثين الإسرائيليين الاطلاع على مجريات الحرب وعلى كيفية إدارتهـــــــــا وكيف جرى تلقي الأوامر وتنفيــــــذها والنتائــــــــج الماديـــــــة التي خلصت إليها، سواء عمد هؤلاء إلى نشر ما توصلـــــــوا إليه أو لا، إذ إن بعض المعلقين الإسرائيليين رفض ما يسمى «جلد الذات الجماعي»، وفضّل إخفاء الحقيقة على نشرها، لكن ما نشر كان كافياً لإظهار حجم الفشل الإسرائيلي، رغم أنهم عادوا أخيراً إلى لجم أقلامهم وإيقاف تدفق المعلومات إلى العلن.

سيطر على كل من شارك في التحقيقات الداخلية التي أجراها الجيش، أو لدى لجنة فينوغراد الحكومية، هاجس الدفاع عن النفس وإبعاد المسؤولية عنــــــه، ومن يقرأ كل استنتاجات التحقيقات المنشورة يرَ نوعاً من تراشق الاتهامات. المستوى الأركاني في الجيش يلقي المسؤولية على قيادة المنطقة التي لم تفهم ما توجيهاتها، بينما تلقي قيادة المنطقة المسؤولية على الأركان، في حين تلقي الوحدات الميدانية المسؤولية على الإثنين معاً. حتى الجنود الذين شاركوا في الحرب سرّبوا كمّاً هائلاً من المعلومات التي فعلت فعلها في زيادة منسوب الخيبة لدى الإسرائيليين وصعّبت على القيادة السياسية والعسكرية تجاوز الفشل. وهناك جنود تحدثوا عن أدوية فاسدة، أو قائد لواء أمر بقصف منزل تواجد هو فيه، أو أن الخرائط الموجودة كانت قديمة ولا تتماثل مع الخرائط الموجودة لدى القيادة التي تصدر الأوامر العملياتية بناءً عليها... وهناك الكثير من التسريبات المشابهة التي تسابقت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى

نشرها.

باراك وأولمرت خلال حفل تخرّج في معهد الأمن القومي<br>في القدس المحتلّة أوّل من أمس<br>(سيباستيان شاينر - أ ب)
باراك وأولمرت خلال حفل تخرّج في معهد الأمن القومي
في القدس المحتلّة أوّل من أمس
(سيباستيان شاينر - أ ب)


الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب<br>(أرشيف - وائل اللادقي)
الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب
(أرشيف - وائل اللادقي)


تعليقات: