المجبر العربي.. أبو عبدالله نعيم غيث: ترك بصمة لا تمحى من ذاكرة الخيام

أبو عبدالله نعيم غيث ( المجبر العربي )
أبو عبدالله نعيم غيث ( المجبر العربي )


تحت ترابكِ، جمعت كل أبنائكِ وأحبابك.

على تلالكِ وربوعك، ترعرعت كل أجيالك.

حضنت في طياتك، كل أطياف وذكريات شيوخك وشبابك.

ضـيـعـتـي ألـحـبـيـبـة !!!!!

أنت التي تجمّلت بجمال روح أهلك.

حملوا العلم والثقافة والأدب والشهادة، لتبقي مرفوعة الرأس، عالية الجبين.

تغنّوا بك، وغنمت بهم، رجالاً كبار اشداء.

نعم هذه ضيعتي الحلوة. هذه ضيعتي الـخـــيــام .....

سأسرد لكم اليوم قصة رجل، هو إبن هذه البلدة العريقة. بعض من صفاته وليس كل سيرة حياته.....

من لم يسمع بأبو عبدالله (المجبر العربي) ؟؟؟؟؟

إن لم تكن تعرفه أنت شخصياً، فاسأل ذويك أو جدك أو جدتك عنه.

لقد جـبّـر أبو عبدالله نعيم غيث)، أغلب الأيادي والأرجل التي كانت مصابة عضامها بكسور لأبناء الخيام وايضاً ابناء باقي الضيع المجاورة، ولكل من فكش أحدى يديه أو رجليه أو خلع كتفه من محله .....

إنه رجل ولا كل الرجال فعلاً.

ليس لأنه جدي فحسب، فهو كان يقوم بعمله الإنساني هذا، بيد واحدة ورجل، معطوبة بسبب إصابته في الحرب العالمية الثانية. لقد فقد ذراعه اليمنى وإنعطبت رجله اليسرى، فإلتوت عن الركبة.

أذكر أني كنت مرة في بيت جدي في ضيعتي الحبيبة، خلال العطلة الصيفية، وهذا طبعاً قبل الحرب الاهلية في لبنان، وفي يوم من الايام، جاءته سيدة ومعها طفلها، وكان عمره حينها (من عمري) حوالي ثماني سنوات، وكان المسكين، كاسراً يده من عند المعصم.

وكان هذا الولد يصرخ صوتاً مدويا في السما، وصوتاً على الارض.

فأخذ جدي يهديء من روعه ويطيب خاطره بالكلام الحنون حيناً وينهره حيناً آخر بأنه رجل، ولا يجب أن يبكي وأن هذه اإصابة ما خوف منها... وإلى ما هنالك من ضربة على الحافر وضربة على المسمار حتى يخفف بكاءه ويعرف جدي اين مكمن الخطر والخطأ في يد هذا الصبي.

كنا أنا وأولاد أخوالي وإخوتي حوالي سبعة أولاد في باحة البيت.

منّا من كان يضحك ، ومنّا من يقول يا حرام، ومنّا من يضع يده على فمه لكي لا تظهر ردة الفعل، وتنعكس على الولد سلباً، ويتوجع أكثر مما هو موجوع.

طلب جدي من خالتي أن تحضر له بيضة نيئة وخل، وأحضر هو قطعة من الخشب الذي يصنع منها سحاحير الخضار، نظّفها جيداً، وجلب أيضاً قماشاً نظيفاً للف الكسر بخليط البيض والخل والطحين.

ركضت أنا وراء خالتي، وقلت لها: هاتي عنك البيضة لأعطيها لجدي. وكان كل تفكيري أن أساعده وأساعد هذا الولد، وأخفف من وجعه ( أي أن اقوم بأي شيء ولا أقف هكذا مكتوفة الأيدي، أتفرج فقط).

أعطتني خالتي البيضة ونبهتني كي لا أتفركش بعتبات البيت التي كانت عالية بين الغرفة والأخرى. قلت لها: ولا يهمك خالتو انا متنبهة.

ومن كثرة حرصي على عدم كسر البيضة، ركزت نظري فقط عليها كي لا تقع، والمسافة بين المطبخ والباحة ليست بقليلة، وحين وصلت الى آخر عتبة، وحان وقت تسليم جدي البيضة، تفركشت بالعتبة ورحت واقعة على طولي، وطارت البيضة من يدي وإنكسرت طبعاً. وشوف وقتها الضحك عليّ، وخاصة الولد الموجوع. لقد نسي وجع يده وجاء ليمسكني ويرفعني هو عن الأرض.

وصرخ بي جدي:

ولِك يا جدو إنت شوخصِك؟

وشو حمّلك البيضة؟

قومي لشوف، صرلك شي يا روحي؟؟؟

وقفت وكانت أكواعي تؤلمني، لأنني وقعت مباشرة عليها لكي أحمي البيضة، ولكني لم أفلح. أتت خالتي وبدأت تمسح زنخة البيض عن ألأرض وتطرطشت أم الولد و"شوفوا ملاّ منظر"...

المهم تأكد جدي من أنني بخير، وكانت وقعتي ليس فيها لا كسر ولا فكش، فقط رضّة، أجلسني إلى جانبه، وأكمل للولد تجبير يده وأنا أتأمله، كيف كان يقوم بهكذا عمل بيد واحدة وأنا بيدي الاثنتين لم أتمكن من حمل بيضة واحدة !!!!

وبعد الظهر كان يجالسنا جدي في صف واحد متوازي أمامه على سطيحة البيت، ويبدأ بقراءة كتب : عنترة بن شداد – الزير سالم – وبعض شخصيات الاساطير والحكايا القديمة التي كانوا يتغنون ببطولاتهم ومغانمهم وعبقرية شخصياتهم الفذة في ذلك الزمان.

كنا أولاد صغار ولا نفهم بُعد المعاني من تلك القصص، ولم نكن ندرك مثلاً عنترة بن شداد كم كان قوياً وكم ضحى من أجل حبيبته " عبلا" .

بعد ربع ساعة بالكثير يبدأ التململ فيما بيننا ونبدأ بالثرثرة والتأفف، ينتبه جدي لنا ويقول:

- جمدوا لشوف!

- وسمعوا منيح!

وكان ينبهنا بعصاه التي كان يتكيء عليها ليستطيع المشي، نسبة الى وضعه الصحي الذي ذكرته آنفاً، فكان يضربها بالارض منبها ايانا لضرورة المتابعة معه.

هذه شخصية أبو عبدالله – المجبر العربي – في أقصوصة صغيرة جداً، بالنسبة لتاريخه الكبير الذي لا أعرف عنه شيئاً سوى تجربة شخصية لطفلة صغيرة ، لا يسكن في ذاكرتها، سوى هذه الأحداث الصغيرة.

أرجو أن أكون أضأت في عتمة الماضي، على رجل أصبح من الماضي، شمعة عن روحه وروح كل إنسان من بلدي، ذكره أحد ما أم لم يذكره.

تحية إجلال وإكبار لكل رجل وإمرأة، سجلوا في دفتر ذاكرتنا شيئاً جميلاً، طال أي محور أو مركز أو صفة معينة في حياتنا الإجتماعية، وتركوا بصمة لا تمحى من ذاكرة الأجيال والأزقة الضيقة وجمال روح تلك الفترة من الزمن...

تعليقات: