بوش إن حكى

عائدون الى الغندورية يلملمون آثار العدوان (أرشيف ــ كامل جابر)
عائدون الى الغندورية يلملمون آثار العدوان (أرشيف ــ كامل جابر)


المحاولة صعبة ولكن لا بأس من التكرار. المحاولة الصعبة هي تلك المتعلقة بوضع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان في سياقها، وهي القائلة أيضاً بأن من غير الجائز التعاطي مع حدث إقليمي ودولي إلى هذا الحد وكأنه حدث محلي حصراً لا بل مُغرق في محليته.

تحفل شاشاتنا اللبنانية بمساجلات في ما جرى. يمكن القول من دون خوف المبالغة، إن هذه السجالات تشكو من أمرين. الأول، الاختلال الفاضح في عرض وجهات النظر المتباينة. الثاني، الافتقاد الملحوظ لتناول هذه الحرب من زاوية طرفين معنيين بها مباشرة، إسرائيل والولايات المتحدة. أما الاختلال، فنتيجة مشهد إعلامي يشكو الكثير من التعددية. وأما الافتقاد، فمقصود لدى البعض ممّن يريد إخفاء ارتباطاته، و«عفوي» لدى من يعتقد فعلاً بأن الحروب الأهلية اللبنانية في القرن التاسع عشر بدأت بـ«خناقة» بين طفلين.

لنحاول مناقشة ما جرى في لبنان آخذين في الحساب الخطاب الذي ألقاه جورج بوش أول من أمس.

قد يقول قائل إن الرجل لا يأتي بجديد، وإنه يتكلم لتثبيت «حقائق» في أذهان مستمعيه، وإنه بات مضجراً إلى أبعد حد. هذا صحيح. وقد يقول قائل إن الخطاب موجّه في شقّ منه إلى الداخل الأميركي مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية وثبات التراجع في شعبية الرئيس وحزبه. وهذا، أيضاً، صحيح. إلاّ أن ما تقدّم لا يلغي أن من المستحيل فهم «النكبة اللبنانية»، كما يحلو لفريق تسميتها، من دون فهم السياسة الأميركية في العالم والمنطقة ولبنان، وهي سياسة يعيد الخطاب المُشار إليه تلخيصها.

هذه هي المحاور الرئيسة في كلمة بوش، وهي فاتحة كلمات عديدة سيلقيها في جولته «الانتخابية»:

أولاً ــ «إن الحرب التي نخوضها اليوم هي أكثر من نزاع عسكري»، يقول بوش، «إنها الصراع الإيديولوجي الحاسم للقرن الحادي والعشرين». لقد كانت حروب القرن الماضي بين «الحرية» و«التوتاليتاريات» (النازية، والفاشية، والشيوعية)، أما الآن فهي بين «الحرية» وبين ما يسمّيه بوش «الإسلام الفاشي».

ثانياً ــ تحتّم هذه الحرب تحوّلاً في الاستراتيجية الأميركية حيال العالمين العربي والإسلامي. فلقد اكتشفت واشنطن أن سعيها وراء «الاستقرار» وحماية «الستاتوكيو» في العقود السابقة هما مصدر الخطر عليها. لقد سمح ذلك بنموّ التطرّف في الظل بسبب سيادة القمع. لذا فإن قرارها، بعد 11 أيلول، هو مغادرة همّ «الاستقرار» نحو رفع لواء «التغيير» ونشر الديموقراطية (المُلاحظ هنا أن بوش يكرّر ما كان قد قاله، ولكنه، هذه المرة، يتعمّد عدم الإشارة الى الأنظمة «المتحالفة» مع الولايات المتحدة والتي كان ينتقدها سابقاً لقمعيتها ونشرها «الفكر المتطرّف». ومردّ هذه «الواقعية» أنه يحتاج إلى هذه الأنظمة في الحرب الفعلية التي يشنّها).

ثالثاً ــ العدو الجديد، في القرن الحالي، هو خليط من التنظيمات الأصولية الإرهابية. «القاعدة» هي مثل «حزب الله»، والأخير مثل «حماس». الكل في سلّة واحدة. ويجب أن نسجّل للرئيس الأميركي، هنا، تمييزه بين السُنّة والشيعة، وهو أمر لم يكن يعرف عنه شيئاً قبل أسابيع من غزو العراق وذلك بشهادة كنعان مكيّة (أين هو؟).

رابعاً ــ «إن الوضع القائم في الشرق الأوسط عشية 11 أيلول كان خطيراً وغير مقبول» يقول بوش. يضيف: «لذلك نحن نتّبع استراتيجية جديدة». وقوام هذه الاستراتيجية ثلاثة محاور: استخدام القوة الأميركية كاملة ضد «القاعدة» و«الإرهابيين الذين يستخدمون تكتيكات مماثلة»، ويقود ذلك «إلى البقاء في موقع الهجوم ومحاربة الإرهابيين وراء البحار حتّى لا نحاربهم وجهاً لوجه في الداخل الأميركي». هذا هو المحور الأول. الثاني هو معاملة الدول التي تؤوي الإرهابيين كأنها دول إرهابية «معادية للولايات المتحدة». وأخيراً «وضع أجندة جديدة لهزيمة إيديولوجيا العدوّ عبر دعم قوى الحرية في الشرق الأوسط وغيره».

خامساً ــ يستعرض بوش «النجاحات» في هذه الحرب من أفغانستان، إلى العراق، إلى... لبنان. يشيد بالشعب اللبناني «الشجاع»، يمتدح دور بلاده في التشجيع على إخراج القوات السورية، وينتشي بانتخاب الشعب اللبناني «حكومة ديموقراطية» (تضم «حزب الله»!).

سادساً ــ يقرّر بوش أن «أعداءنا شاهدوا التحوّل في لبنان وقرّروا ضرب استقرار الديموقراطية الوليدة». وهكذا فإن عملية «حزب الله» ضد إسرائيل موجّهة، في الواقع، ضد «الحكومة الديموقراطية في بيروت». ويخلص إلى أن المجتمع الدولي لن يقبل بعد الآن «وجود قوات أجنبية وإرهابيين في لبنان الحرّ والديموقراطي».

إن «حزب الله»، في لبنان، هو، في عُرف بوش، حلقة في الشبكة الإرهابية الكونية التي قرّرت الولايات المتحدة مهاجمتها على صعيد عالمي شامل. وما يُفاقم وضع الحزب لدى الإدارة الأميركية، أنه «خطر» يهدّد ما تعدّه هذه الإدارة نجاحاً حقّقته في الشرق الأوسط. من هنا كان لا بدّ من أن يشمله الهجوم. من هنا كانت الحرب الإسرائيلية. ومن هنا نفهم «سرّ» الرعاية الأميركية لهذه الحرب ونوع الإحباط الناجم عن عدم تحقيقها أهدافها.

تبقى قصة الذريعة. هنا، أيضاً، نعود إلى بوش وخطابه. فالرجل ما زال يتحدّث حتى اللحظة عن أن الحرب على العراق حصلت لأنّ النظام رفض «التخلّي الكامل والعلني عن أسلحة الدمار الشامل». نعم، إن رئيس أكبر دولة في العالم كفيل بترداد هذه الترّهات من دون أن يخجل من أحد. لن يقول إطلاقاً إن الحرب على العراق كانت مقرّرة سابقاً كجزء من الهجوم الشامل لإعادة هيكلة الشرق الأوسط، وإن «أسلحة الدمار الشامل» كانت مجرّد ذريعة. لن يقول ذلك، لكننا نعلم أن العالم يضجّ بذرائع لا حصر لها من دون أن تحصل حروب لا حصر لها.

كان العدوان الأميركي ــ الإسرائيلي على لبنان «مكتوباً» في سياق الاستراتيجية الأميركية ــ الإسرائيلية على المنطقة. إنه جزء عضويّ فيها. والذريعة ليست أسر جنديين. إنها الغضب من تعثّر مشروع الاستيلاء على البلد. ولأنّ الوضع كذلك، فالمواجهة مستمرّة بأشكال أخرى. ولأنّها مستمرّة فإنّنا لن نحصل على نقاش لبناني جديّ يتناول ما يجري لبلدنا.

... ومع ذلك لا بأس من التكرار.

جوزف سماحة

٢ أيلول 2006

تعليقات: