عندما لم يبق إلا «حروف» الخبز

الحاجة نمرة في بيت ابنها
الحاجة نمرة في بيت ابنها


... غادر مركبا مَن يملك سيارة من أهاليها تباعاً. ولم يبق فيها أكثر من خمسين مواطناً انتقلوا على مراحل إلى الحارة القديمة (التي دمرّت بشكل شبه كامل). هناك أقاموا في زريبة للماشية (المشتى) وجدت صاحبتها أم عماد أنها آمنة، فنام الأهالي جنباً إلى جنب مع الماعز بعدما فرشوا الأرض بالـ«حصر».

عن هذه الأيام تحكي الحاجة نمرة وابنتها ميرفت، فيما يرفض قريبهما المقاوم الإفادة بأي معلومة لها علاقة بالمواجهات التي دارت في البلدة بين المقاومة والاسرائيليين. «لست مسامَحاً» يقول بخجل، وتتبرّع الحاجة نمرة بالقول إنها لم تره طوال الحرب، «مرة واحدة لمحته ابنتي من بعيد فلوّح لها واختفى».

عندما زرنا العائلة التي تدمر بيتها، وتقيم اليوم في منزل ابنها المغترب الذي لا يزال قيد البناء، كانت ميرفت تحتفل بذكرى الحرب على طريقتها. ترتدي «البيجاما» البرتقالية اللون، «لم أخلعها طوال الحرب، وبقيت فيها بعد ثلاثة أيام من انتهائها لأن البيت دُمّر وكان عليّ أن أذهب إلى بيروت لأشتري ثياباً جديدة».

لولا هذه الملاحظة التي توردها ميرفت ضاحكة لما كان الحديث بدأ بالسؤال عن «الكماليات»: الثياب، النظافة، الطعام... رغم أن هذه الأمور بالتحديد كانت مدار الحديث اليومي للعائلة الكبيرة التي اجتمعت في زريبة الماشية بعد 22 يوماً من بدء الحرب.

قبل هذا، كانت العائلة تقيم في بيتها الكائن في وسط البلدة، قرب الجامع. منذ الأيام الأولى قرروا أن لا يناموا جميعهم في بيت واحد. «إذا حصل شيء لا نموت كلنا» تقول ميرفت التي تتذكر الأيام الأولى بضحكة: «كان لا يزال عندنا طحين وأمي تخبز، فصرت أبادل الجيران الخبز بالبنزين لكي أستطيع مشاهدة التلفزيون». ولا تزال ميرفت تتساءل عن الصدفة التي جعلتها تدير التلفزيون في الوقت الذي كان فيه السيد حسن نصر الله يعلن أولى المفاجآت: قصف البارجة «كيّفت الناس لما سمعت الخبر».

لكن هذا لا يعني غياب الخوف: «أكيد كنا نخاف... عندما يشتدّ القصف كنا نلوم الحزب، لكن ما إن يهدأ القصف قليلاً حتى نروح ندعو لهم بالنصر، كنا نناقض أنفسنا كثيراً» تعترف ميرفت، لكن اللحظة الحاسمة كانت رسالة السيّد إلى المقاومين التي سمعتها عبر مسجلتها التي لم تفارقها: «عندما قال لهم أقبّل أقدامكم رحت أقول لنفسي إذا كان السيّد يقول هذا الكلام، فماذا نقول نحن؟». يبتسم المقاوم القريب، و«يعترف» بعد إلحاح بأنه سمع هذه الرسالة في الوقت الذي سمعها فيه كلّ العالم متحفّظاً على وصف مشاعره ورفاقه في تلك اللحظة.

أما كيف اتخذت العائلة قرار المغادرة: «تعرّضت الحارة التي نقيم فيها للقصف المباشر، ونجا حفيدي ابن شهر واحد بأعجوبة من الموت لأن الحجر سقط بعيداً عنه أمتاراً معدودة فقط».

القرية كانت تتعرّض بكاملها للقصف، وخصوصاً بعد محاولات الدخول الفاشلة إليها. وأصيب أكثر من شخص بجراح، منهم صاحب الدكان علي جميل (أبو أمين)، حاول الأهالي الاعتناء به قدر استطاعتهم: ملح، قهوة،... وراحوا ينقلونه من مكان إلى آخر، لكن الاسرائيليين كانوا يستهدفون كلّ بيت ينتقل إليه، «عن جد، تنقل في 7 بيوت، وكلّها تعرّضت للاعتداء... حرام، طلبنا من شباب البلدة الاهتمام به لكي لا نتعرّض كلّنا للخطر». وأصيب أفراد عائلة فارس رشيد، بعضهم معوّقون، ونقلتهم والدتهم واحداً تلو الآخر إلى «المشتى»... وكانت والدة أبو عماد شهلا هي الحالة الأكثر إثارة للاستغراب: لم تغادر منزلها القريب من الزريبة، وعندما عرفنا ان القصف استهدف منزلها توقعنا أن تكون ماتت، «بعدما هدأ القصف ذهبنا إلى البيت فوجدنا الركام يحيط بها من كل جانب والزجاج يملأ سريرها أما هي فلم تصب بخدش».

توفير الطعام كان هاجساً، وخصوصاً أن بين الصامدين عدداً كبيراً من كبار السن. يحكي معظم أهالي مركبا عن أم عماد التي أخذت على عاتقها هذه المهمة، لكن المونة راحت تنفد في الأيام الأخيرة. تروي الحاجة نمرة: «فتحنا دكاناً وصرنا نسجّل لصاحبها ما أخذناه منها»، وصار الأهالي يبحثون عن آبار يسحبون منها المياه التي شحّت. أما ميرفت فاكتفت بالنيسكافيه: «عندما فتحنا الدكان أخذ كلّ شخص ما يريده، لم يبق شيء يمكن أن يؤكل فاكتفيت بالنيسكافيه وبطاريات المسجلة لكي أستمرّ في سماع الأخبار»، لافتة إلى أن عدداً من الأهالي «كان يأكل الشعيرية فقط». (من المعجنات التي تطهى مع الأرز). وقبل يومين من انتهاء الحرب لم يكن بقي شيء يؤكل «إلا حروف الخبز» (محيط رغيف الخبز المرقوق).

شعر الأهالي بأنهم انقطعوا عن العالم الخارجي لولا وجود هاتف واحد كان أحد الشباب يحتفظ به ويتصل به الجميع للاطمئنان، «أكثر ما كان يزعجه أن يسمع سؤالاً من قبيل: «هل تضرّر منزلي؟» في وقت كنا فيه أكثر من خمسين إنساناً نواجه خطر الموت. أحد أصحاب الدكاكين رفض السماح لنا بفتح محلّه، سررنا كثيراً عندما تهدّم».

أما وسيلة الصمود الوحيدة فكانت الدعاء والصلاة، «كان معنا رجل مؤمن كثيراً، وجوده بيننا أشاع في نفوسنا الاطمئنان...».

قبل يومين فقط من نهاية الحرب تهدّم المنزل. «كيف عرفتم؟»، «كوكي أخبرنا»، «ومن هو كوكي؟».

كوكي هو كلب الحراسة الذي يرافق شقيقها الراعي والماعز إلى البرية. «عندما غادرنا البيت لم يلحق بنا بل بقي مع الماعز، لكنه نزل في أحد الأيام التي تعرّضت فيها البلدة لقصف مباشر. افترضنا أنّ البيت تضرّر. صار يروح ويجيء وكأنه يطلب منا مرافقته. عندما هدأ القصف لحقنا به. كان البيت مهدّماً فعلاً، وواحدة من الماعز عالقة تحت الركام. فوجئنا بالكلب يعمل على إزالة الركام عنها بكلّ ما أوتي من قوة ولم يغادر المكان إلا بعدما أنقذها»... تتابع ميرفت: «هي الوحيدة التي بقيت حية على رغم إصابتها، رفيقاتها ماتت لاحقاً بسبب الجوع والعطش».

تلفت الحاجة نمرة إلى أن الحيوانات كانت تخاف أيضاً خلال الحرب، «كانت تصرخ مثل بني آدم فزعاً» تقول وتدلّ إلى كوكي النائم: «هو صُدم في الحرب، لو كان طبيعياً لما استطعتم الدخول بهذه السهولة، لكن حركته همدت كثيراً». الحيوانات لم تكن تخاف فقط... بل كانت تنافس الأهالي على الطعام: «عندما فتحنا الدكان هجمت الماعز على كلّ شيء وأكلته، الشاي وبطاطا الشيبس...» تقول ميرفت ضاحكة.

انتهت الحرب، وسبق الصامدون العائدين إلى التهنئة بالسلامة... بيوت كثيرة تهدّمت أقام أصحابها في خيام منتظرين التعويضات وإعادة الإعمار والكشوفات المتعدّدة للمؤسسات المعنية...

تعليقات: