سيدتي الحكومة اللبنانية: هذه سيرتي!


في العام 1994 كنت أملك إقامة عمل في باريس. عملي كان في إذاعة فرنسا الدولية، وأكتب في صحف عربية وأجنبية. الوضع مستور ودراستي في مرحلة الدكتوراه في السوربون منتظمة. المقاهي تحبني والنساء من حولي والأصدقاء والحدائق والماء والكهرباء. كنت قادرا على «الفوز» بالجنسية الفرنسية في غضون سنة أو سنتين على الأكثر. لم يتعرض لي فرنسي أو أجنبي على الأراضي الفرنسية بالسوء لمدة خمس سنوات. لم تواجهني مشكلة عنصرية. بيتي على تواضعه كان يكفي خيالي لأن الخارج كان متاحا برحابة. لم يحصل معي أي حادث سيارة لأنني لم أكن أملك سيارة والنقل العام متوفر ورائع ومريح. لم تستوقفني الشرطة ولا للحظة واحدة. في منطقة سكني كان هناك اليهودي والمسيحي والمسلم والملحد والاشتراكي واليميني والأصولي والنازي. وكنا جميعا نشتري الدجاج والنقانق والخبز من متجر واحد. لم يزعجني واحد منهم. جيراني كانوا في غاية التهذيب والهدوء.

سيدتي الحكومة اللبنانية،

ذات يوم، قلت لأستاذي في الجامعة: بلغ حنيني إلى موطني حدا جارحا. أريد ان اعود إليه ويمكنني استكمال دراستي من هناك. فهل تأذن لي؟ قال بحب: عد يا بني.

عدت يا سيدتي الحكومة اللبنانية ذات ليلة بعد سهرة طاحنة مع الأصدقاء. كان قلبي ساعتها يكاد ينشق عن بحر بيروت وشوارعها. في المطار ، شيّعني أصدقائي على عربة نقل الأمتعة (الشاريو). في تلك اللحظة قلت لن أُبقي أي احتمال لعودتي إلى باريس. رميت إقامة العمل في صندوقٍ في بهو المطار. قلت لعل ما أفعله يقطع بيني وبين باريس والغربة.

قطعت مع الغربة يا سيدتي الحكومة اللبنانية.

آه، نسيت يا حكومتي أن أخبرك أنني أنني عندما سافرت من لبنان تحت غطاء من صواريخ أهلي اللبنانيين العام 1989، كنت يائسا من البلد. الانهيار يكاد ينهي آخر الأعمدة. بعت سيارتي بـ 700 دولار اميركي . لم أتمكن من السفر عبر المطار. حجزت مقعدا لي من مطار دمشق. قبل العبور إليها من «المصنع» وفي ما بعد منتصف الليل، استوقفني الأمن العام السوري الشقيق. قالوا إن عليّ رؤية الضابط. رأيته. كان جالسا على كرسي هزاز. وقفت أمامه. سألني عشرات الأسئلة وأنهاها بأن علي أن أسمي له اسم جدي. سمَّيته. سألني ما إذا كان لديه أشقاء مع أسمائهم . سمَّيتهم (هم تسعة عشر). عندها سألني أسماء زوجات أشقاء جدي! قلت له: «كعيت» اي استسلمت. فنادى على الحارس وقال له: امنعه! أي يمنعني من دخول الأراضي السورية!

كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل. العبور من المصنع إلى لبنان شبه معدوم. وصلت سيارة أجرة بالصدفة نقلتني إلى البقاع، مررت بحاجز للمخابرات السورية فسألني أحدهم عن جواز السفر. تمعَّن فيه وسأل: «أين كنت. خرجت من لبنان ولم تدخل الأراضي السورية؟ أين كنت بحق السماء؟». شرحت له. ابتسم برعب وقال: الحمد لله على السلامة. لا تفكر في العودة. اذهب بسرعة». من هناك «تكرفتُّ» تقطيعا إلى بيروت. اشتريت بطاقة سفر وحجز من قبرص. من مرفأ طرابلس أبحرنا على متن مركب صغير. ثلة من المهاجرين. عبرنا الأمواج وأهوالاً بحرية، لينتهي بي المطاف في باريس.

هكذا يا سيدتي الحكومة اللبنانية غادرت لبنان.. وعدت إليه.

عدت إلى الوطن. سنتان قضيتهما بين منزل في بناية للمهجرين. كنت أدفع إيجار الشقة بشق النفس. لم تقبل بي بيروت. الراتب الشهري لم يكن يكفي. الماء مقطوعة. الكهرباء نادرة. الشارع يحكمه القبضايات والزعران. نجوت من حادثي سيارة. وفوَّتّ على متوحشين في الطرقات فرصة ضربي حتى الموت. يومها كانت الفرص بحياة لائقة غير متوفرة إلا للمقرّبين من «هوامير» السياسة والطوائف. قريتي الخيام محتلة. الأوباش في كل مكان والفوضى مدمرة في كل مناحي الحياة.

قلت، يا سيدتي الحكومة اللبنانية، يجب أن أنجو بنفسي. عليَّ أن أجد فرصة للحياة في مكان آخر.

كانت دبي هي الحل. استقبلتني رمال الصحراء بدفء يصل إلى 50 درجة. هناك اشتغلت كمن يحفر في الرمل. ذات يوم عمل في الشارع، وفي طقس جحيمي، التصق نعل حذائي بالإسفلت. صمدت، لأن لا أحد يمكنه أن يعتدي عَلَيّ أو يهينني او يسرقني أو يأخذ حقي. عاملني أهل دبي باحترام. الشرطة كانت في خدمة الناس. المؤسسات تعمل بانتظام هائل. الكهرباء والماء كما «الكشك» في البقاع. لا نقصان ولا استهتار ولا زغل ولا ما ينغِّص الحياة. تصوري يا حكومتي اللبنانية أن حاكم دبي كان يدعوني إلى العشاء أو الغداء أو أي من الاحتفالات التي يقيمها. تصوري أنه كان يناديني باسمي ويعرفني معرفة جيدة كما كل زملائي. هو حاكم دبي وانا صحافي أعمل في إمارته. كنا نلتقي كثيرا، في قصره أحيانا، في مضمار الخيل، في مناسبات عدَّة . كان قريبا منّي ومن زملائي. تصوري ذلك يا حكومتي اللبنانية التي لم أر وجهك على مرّ من مُرِّ السنوات الغابرة!

في اواخر العام 2003 يا صديقتي الحكومة اللبنانية، عَرَضَت عليَّ إدارة الشركة التي اعمل فيها الذهاب إلى باريس للعمل هناك. ذهبت. السفارة الفرنسية أعطتني الفيزا كإنسان محترم. لم أقف على بابها مثلما فعلت عذابا مريرا في بيروت. ذهبت إلى باريس واستأجرت بيتا محترما كان فيه ماء وكهرباء. سلكت الطرقات النظيفة الجميلة مرة أخرى.

هل تصدقين يا حكومتي اللبنانية أنه لم يمض عليّ 4 أشهر في العاصمة الفرنسية حتى عدت إلى نزعة الحنين القاتل للمدينة الواقعة تحت حكمكِ؟! ستقولين، أيتها الحكومة، انني مجنون أو مضطرب أو منافق أو سريع العطب أو مستهتر وسوى ذلك من أوصاف تليق برجل فعل ما سأفعله مجددا!

حزمت أمتعتي وعدت إلى بيروت. تركت عملي الرائع وفرصة العيش في أجمل العواصم مرة أخرى!

شهور قليلة في بيروت التي تضمني معكِ وفُتحت في وجهي، يا حكومتي الرائعة، أبواب جهنم. حاولوا قتل النائب مروان حمادة. قتلوا الرئيس رفيق الحريري. زلزلت الأرض ونفثت ماكينات الشر نارها في المدينة. طارت السيارات في الفضاء وتشظى رجال ونساء وانفجرت احياء وشوارع.

كانت ابنتي تركض على الشرفة حين بدأت الطائرات تضرب روح الأبنية من عيتا الشعب إلى الضاحية الجنوبية. تموز العام 2006 حرب وهجرة ورعب وموت في كل الاتجاهات.

في الطريق إلى صنين، كملجأ لابنتي، تذكرت يا حكومتي اللبنانية ، كيف رميت إقامة العمل الفرنسية في باريس العام 94 وكيف غادرتها مستقيلا من فرصة العمر في العام 2004 . تذكّرت، ولم يكن في وسعي غير التذكّر والدعاء أن لا تدمر الطائرات الإسرائيلية جبل صنين!

أمّا بعد يا حكومتي اللبنانية، فقد نجوت من القتل الطائفي في العام 2008 في الشوارع التي تركت الدنيا لأجلها. لاحقني رصاص القنص وصراخ الوحوش. حاصرتني الميليشيات والسفاحون والسفلة في كل مكان. كالنعجة الضعيفة حوصرت في بيتي.

منذ ذلك التاريخ وأنا نعجة يا حكومتي اللبنانية. أشعر بأنني ملاحق ومهان ومقهور ومتعب ومسروق ومنتهب ومسلوب الإرادة. أخرج من البيت كمن لن يرجع. أكتب كمن ستقطع يده بعد حين. أجتاز الشارع كمن سيدهس في اللحظة. أمرض كمن سيموت بدواء فاسد. آكل وأفكر في أقرب مستشفى. أتحسس رأسي كمن سيقطع رأسه.

أَمْشي أَمْشي ، يا حكومتي اللبنانية، كمن لا يهتدي ولا يؤمن ولا يرى.

..

* حسن محمد عبد الله

كاتب واعلامي ـ لبنان (من بلدة الخيام - نشأ في مدينة صيدا)

تعليقات: