التبانة ولاّدة القيادات الشعبية: «أبو عربي» نموذجاً

خليل عكاوي (أبو عربي)
خليل عكاوي (أبو عربي)


تعترف القيادات السياسية والأمنية في طرابلس بأن أي اتفاق على وقف إطلاق النار، في جولات العنف المستمرة بين التبانة وجبل محسن، يحتاج الى اتصال واحد بمسؤول العلاقات السياسية في «الحزب العربي الديمقراطي» رفعت عيد، بينما يحتاج الى عشرات الاتصالات واللقاءات مع القيادات والكوادر الميدانية في التبانة المنتشرة على مختلف المحاور الساخنة.

السبب أنه في جبل محسن توجد حالة تنظيمية قادرة على ضبط الشارع والتحكم بمجريات الأمور على الصعيد الأمني، في حين أن في التبانة حالة مسلّحة غير منظمة أفرزت ـ وما تزال ـ قيادات ميدانية متعددة الولاءات والارتباطات، بعضها بالاقتناع وبعضها بحكم الضرورة وجلّها بحكم الحاجة، وتتحكم كل منها بمحور أو شارع أو حيّ أو زقاق يخضع لنفوذها.

بعد أكثر من نصف قرن على اغتياله، ما تزال التبانة تفتش عن قائد شعبي يعيد سيرة الشهيد خليل عكاوي (أبو عربي) الذي ترك بصمات في تلك المنطقة البائسة والفقيرة التي ما يزال أبناؤها، شيباً ومن المخضرمين ورجالا ونساءً، يعيشون ذكراه ويتغنون بمآثره وفضائله ونضالاته وتضحياته في سبيل التبانة، وهو ما يدفع بالجيل الجديد من القيادات إلى محاولة تقليد نموذجه لعلّ ذلك يمنحهم مشروعية وراثته الشعبية، وهو الذي كان قد رفض مغادرة باب التبانة أسوة بعدد من رفاقه في «حركة التوحيد الإسلامي» بعد «حرب طرابلس» 1985 والتي نتج عنها إنهاء سيطرة «حركة التوحيد» على طرابلس وعودة الجيش السوري والأحزاب الموالية لسوريا الى المدينة.

قد لا يوجد شارع أو بناء أو جدار في التبانة لا يحمل صورة أو شعارا لـ«أبي عربي»، ولا يوجد قائد ميداني فيها مهما كانت توجهاته السياسية أو العقائدية إلا ويمنّي النفس في خلافته، أو في الوصول الى بعض أوجه الشبه به.

من هنا فان فعل الوفاء والعرفان بالفضل لـ خليل عكاوي ما يزال مسيطرا على التبانة بكل مكوناتها، وقد ترجم في أكثر من محطة، سواء عندما أوصلت رفيق دربه الشيخ بلال مطر الى عضوية المجلس البلدي، ومنحته أكبر عدد من الأصوات خلال ترشحه الى الانتخابات النيابية، أو عندما منحت نجله عربي عكاوي أكثرية الأصوات في اللائحة التي فازت في الانتخابات البلدية الأخيرة.

والواقع أن التبانة الحالية استقطبت عبر التاريخ كثيراً من أبناء المناطق المحيطة بطرابلس، من عكار والمنية والضنية، بسبب دورها التجاري الذي كانت تلعبه تاريخياً باعتبارها سوقاً تجارية لكل الشمال حتى سميّت «سوق الذهب» تضم في عدادها مجموعة أسواق: سوق الخضار للجملة، سوق الخضار للمفرّق، سوق القمح، سوق قطع السيارات، سوق «المناشر» لصناعة صناديق الخضار، سوق الخردة، سوق الثياب الجديدة، سوق الثياب المستعملة، ومنطقة تكتظ بالمؤسسات الحرفية والصناعية الصغيرة والمتوسطة التي اجتذبت طالبي العمل من تلك المناطق.

وقد ساهم ذلك في تحسّن الظروف الاقتصادية لعدد كبير من أبنائها الذين سرعان ما غادروها إلى المناطق الجديدة في طرابلس بعد أن توفّرت لهم القدرة المالية لشراء منازل خارج التبانة، وهو ما أفسح المجال لأن يملأ الشواغر أبناء عكار والضنية والمنية الذين يعملون في أسواقها والمؤسسات القائمة فيها، لينضموا إلى أبناء التبانة الأصليين من ذوي الامكانات المتواضعة وغير القادرين على الانتقال إلى مناطق أكثر رفاهية في المدينة.

كل ذلك جعل من منطقة التبانة الأكثر اكتظاظاً بالسكان مع تراجع خدمات الدولة فيها، ربما لأن واقعها أصبح أقل قدرة على استيعاب التجديد في مظهرها، حيث جرى التعامل معها كمنطقة صناعية وتمّ إغفال الواقع السكاني فيها.

منذ عهد الانتداب الفرنسي والتبانة تعيش في حراك سياسي وشعبي، فهي كانت المحرك الأساسي في إضراب الـ 40 يوما في العام 1936 ضد السلطة الفرنسية، وكان لأبنائها اليد الطولى في تحركات الاستقلال عام 1943 وسقط منهم شهداء، ومن ثم توالى الحراك الشعبي المطلبي في التبانة ما أعطاها صبغة بأنها الخزان البشري الصالح دائما وأبدا للعمل الثوري، وهي لم تغيّر جلدها بعد التحوّل الذي أصابها سكانياً، فكانت عدوى تلك النزعة الثورية تنتقل إلى كل مقيم جديد فيها، لتتحوّل لاحقاً إلى «وكر» المتمرّدين الثوريين.

وقد أغرى ذلك الأحزاب اللبنانية فدخل إليها «الحزب الشيوعي اللبناني»، «منظمة العمل الشيوعي»، «الحزب التقدمي الإشتراكي»، «حركة 24 تشرين»، وتنظيم ما كان يعرف بـ«الألوية الثورية اللبنانية»، و«صقور طرابلس»، وكانت تضم آنذاك ناشطين من السنة والعلويين الذين كانوا يتقاسمون التبانة دون أن يعرف أحدهم مذهب الآخر.

وتبع ذلك دخول «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى التبانة، وهي وجدت قبولا كبيرا، إنطلاقا من التعاطف آنذاك مع القضية الفلسطينية.

مع بداية الستينيات من القرن الماضي بدأ نجم علي عكاوي (الأخ الأكبر لـ خليل عكاوي) يسطع بعد مغادرته تنظيمياً الثورة الفلسطينية، فشكل فصيل «الثائرون الخمسة» ومن ثم «منظمة الغضب»، وجمع عكاوي حوله عدداً كبيراً من فقراء السنة والعلويين، وذلك قبل التحول الذي بدأ مع تأسيس «حركة الشباب العلوي» التي شكلت عامل جذب لأبناء الطائفة، خصوصا بعد الخلاف الذي نشب بين الرئيس حافظ الأسد وياسر عرفات وأرخى بتداعياته المسلحة على التبانة التي وقفت الى جانب «منظمة التحرير»، وعلى جبل محسن الذي كان الى جانب سوريا.

بعد مقتل علي عكاوي، آلت مقاليد القيادة الى شقيقه خليل عكاوي الذي أسس «حركة المقاومة الشعبية» وشارك في معارك طرابلس ـ زغرتا، وقاتل مع مجموعاته المسلحة في الجنوب اللبناني، ثم اقترب من الأحزاب اليسارية قبل أن يلتحق رسميا بـ«الحزب الشيوعي اللبناني».

في نهاية السبعينيات استقل «أبو عربي» بحركته مع عدد من القيادات الشعبية التي كانت حوله وتحمل فكراً يسارياً كان لها تأثير كبير في التبانة، وبدأت ميولهم الفكرية تنحو باتجاه الالتزام الديني، وأبرز هؤلاء: بلال مطر، عزيز علوش، محمود الأسود، سمير الحسن وفايز العموري والرقيب ملص وغيرهم، كما اعتمد على عدد من المثقفين الثوريين في لبنان في مهام التثقيف السياسي للمجموعات المنضوية ضمن حركته التي شهدت وشهد «أبو عربي» معها عصرا ذهبيا امتد منذ العام 1979 وحتى العام 1982.

مع تأسيس «حركة التوحيد الاسلامي» أوقف «أبو عربي» العمل بصيغة «المقاومة الشــعبية» وانضوى في صفوف «التوحيد» بامرة الشيخ سعيد شــعبان، كما فعل كنعان ناجي الذي جمد «تنظيم جند الله»، وعصمت مراد بتجميده ايضا «حركة لبنان العربي».

لكن «أبو عربي» ما لبث أن استأنف نشاطه التنظيمي ضمن «اللقاء الإسلامي في طرابلس» تحت اسم «لجان المساجد والأحياء» إثر معركة إخراج ياسر عرفات من طرابلس في العام 1983 في ما عرف آنذاك «حرب أبو عمار»، وبقي كذلك حتى معركة عام 1985 الفاصلة.

يقول أحد المطلعين على تلك الحقبة، إنه بعد دخول الجيش السوري الى طرابلس ناضل «أبو عربي» سلميا من أجل منع دخول الجيش السوري الى الأحياء الداخلية في التبانة، وذلك حتى تاريخ 9 شباط 1986 حيث تعرض لكمين مسلح في محلة باب الحديد، خلال عودته من اجتماع في أبي سمراء ضم قيادات من «التوحيد» وضباط من المخابرات السورية، لتخسر التبانة قائدها.

بعد اغتيال «أبو عربي» ضاع القرار في باب التبانة وضعفت القيادة، وهو ما سمح لاحقاً بدخول الجيش السوري الى الأحياء الداخلية للمنطقة بالتزامن مع المجزرة الشهيرة التي ذهب ضحيتها العشرات من أبناء المنطقة.

ويؤكد أحد رفاق درب «أبو عربي» أن قائدا شعبيا من طرازه لا يمكن أن يتكرر سواء على مستوى الشخصية والشعبية والـ«كاريزما»، لافتا النظر الى أن شخصية «أبو عربي» ما تزال تغري كثيرين من قيادات التبانة الميدانيين ممن يحاولون تقليده في بعض جوانب شخصيته.

ويقول قيادي حزبي سابق إن منطقة فقيرة ومحرومة ومهمشة مثل التبانة، «يحمل أبناؤها الفكر الثوري، ويواجهون جرحا مفتوحا منذ عقود يضاعف من إلتهابه الانقسام السياسي والشحن المذهبي المتواصل، هي منطقة قابلة لاستيعاب عدد مفتوح من القيادات الشعبية والميدانية التي يرتبط صعود نجمها اليوم بقدر المساعدات والخدمات التي تؤمنها لأهلها من الفقراء، وبقدر العداء الذي تظهره لـ«الحزب العربي الديمقراطي» والمعارك التي تخوضها ضده، وقد ترجم ذلك بظهور عدد من القياديين الذين تركوا بصماتهم ومن أبرزهم الشهيد خضر المصري».

ويضيف إن هذه التعددية في القيادات باتت تنعكس سلبا على التبانة وعلى تفاصيل حياتها اليومية بسبب تشعباتها السياسية والأمنية وتعدد ولاءاتها وإرتباطاتها وضياع قرارها بين عشرات القادة الذين قد يختلفون على أشياء كثيرة ويتناحرون في ما بينهم، لكنهم يتوافقون سريعا ويتراصون ويتكاتفون تجاه أي خطر يهدد التبانة، أو عند أول طلقة رصاص باتجاه جبل محسن.

تعليقات: