سوف تقتلني هويتي


بين الجناح العسكري الفاعل على الأرض لآل المقداد والمجلس العسكري المعلن لأهل السنة والجماعة في طرابلس وما بينهما اعتصام الشيخ أحمد الأسير في صيدا وقطع الطرق في جميع أنحاء لبنان وجرائم من منابت اجتماعية واقتصادية وإرهابية، وتواصلا مع فساد سياسي واجتماعي واقتصادي وإداري لا حدود له، و«إعلام» أصفر يطل بعنقه بقوة، بالتكافل والتضامن مع عملاء لإسرائيل من كل طائفة وملَّة.. لا يبقى أمامي غير إخراج بطاقة هويتي من جيبي والتمعّن فيها قليلا: من أنا؟ هل أنتمي إلى هذا الشعب اللبناني؟ هل ولدت هنا كما ولد هؤلاء اللبنانيون؟ هل عشت كل هذا العمر هنا مع هؤلاء اللبنانيين؟ هل تعلمت هنا في المدارس والجامعات التي تعلموا فيها؟ هل تنفست الهواء نفسه معهم؟

أنظر في بطاقة هويتي، أغمض عيني وأذهب بعيدا كما لو أنني أشتبه في كون صورتي في بطاقة الهوية هي لشخصي، وهل هذا الاسم فيها هو اسمي؟ وهل تاريخ الميلاد هو حقا تاريخ ولادتي؟ وهل بالفعل أنني لبناني منذ أكثر من عشر سنوات؟

أغمض عيني وأذهب بعيدا في الذاكرة.. أبحث عن حقائق دامغة وأحداث موثقة تثبت أنني هو هذا الذي في الصورة الملصقة على بطاقة الهوية.

أذكر، مما أذكر رفاقي في سنوات المراهقة في صيدا: أحمد وحسين وبلال الذين كنت أذهب معهم إلى مسجد الزعتري. هناك تعلمت الصلاة وكان رفاقي من الطائفة السنية (علمت بذلك بعد سنوات طويلة ولا أعرف إن هم علموا أنني من الطائفة الشيعية). في مسجد الزعتري كنا نصلي وفقا للمذهب السني في الصلاة، وكان الشيخ الذي يلقننا الدروس الدينية سنيا أيضا.. اكتشفت ذلك حين توقفت عن الصلاة!

كنا في الثانوية، ولم يكن لدي أدنى شك في أن بسام وميشال وعمر وجورج لا يعرفون هويتي الطائفية. لم يكن الواحد منا يهتم أصلا بمعرفةِ من هذا النوع. في الثانوية ذهب بنا اليسار إلى وله بالحرية. كنا نهتف باسمها معا. نتظاهر ضد «الطغمة» سويا. سجنّا معا. ذهبنا إلى قتال المشروع الطائفي والإسرائيلي يدا بيد. لم ننجح في شيء!

في تلة شلعبون قرب بنت جبيل وفي مواجهة المواقع الإسرائيلية، كانت جلّنار مارونية وأبو عبسي سنيا من طرابلس، وكان مصطفى شيعياً من المنطقة (الأخيران استشهدا لاحقا في مواجهة ضارية مع قوات الاحتلال في تلة مارون الراس) كنا جميعا من الطائفة الشيوعية.

في الجامعة في بيروت وقعت في غرام منى الدرزية من الجبل، اكتشفت أنها من بني معروف يوم قالت لي إنها ستترك الطائفة من أجلي.. وفي الجامعة التحمت بكايد وسليم من إقليم الخروب في صداقة ظفر ولحم. كنا نقتسم الليرات القليلة والأطباق المتواضعة وننام كتفاً إلى كتف.

أذهب بعيدا في الأحلام وما كان من أوهام وأعود إلى بطاقة هويتي لأرى: على حاجز «لرفاق» قرب منطقة الحمرا. كانوا يبحثون عن شيعي ليخطفوه. كانت في جيبي بطاقات تثبت لاطائفيتي تبين أن لا فعالية لها.. كانت لحظات ما بين الموت والحياة انتهت بصدفة مرور من يعرف بي!

قرب أحد مخيمات بيروت، وبينما كانت عمليات مجنونة تدور بين «أهل السلاح الواحد»، حاولت الاقتراب من مسرح المعارك لأكتب تحقيقا. ضبتني مقاتل قُتل رفيقه قبل ساعات فسألني بصوت جاموس عن الجهة التي أتجسّس لمصلحتها. أجبت بأنني «رفيق» ومن الجريدة الفلانية وأعرف فلاناً وفلاناً ممن تخيّلت أن لهم في نفسه وقعاً يمنعه من الاشتباه بي. صلبني إلى الحائط زاعقا: شيوعي كمااااااان. تشهّد. في اللحظة أخذت بالصراخ في وجهه: أنا شيعي، شيوعي، وقفزت عليه متشبثا به. جذب صراخي رجلا أسمر من جهة منطقة المعارك، فركض نحونا. أفلتّ المسلح وتعلقت بالقادم بقوة. قلت له: يقتُلنا معا، وأخذت أشرح له طبيعة ما أقوم به ملقيا على مسمعه لائحة بمن يفترض أنهم من طرفه. حلّ الفرج لسماعه اسما له قوة التأثير. صفع الرجل الأسمر المسلح بقوة ونزع منه سلاحه. طمأنني ولكنه أخذ مني أوراقي وأفلام الكاميرا وقال لي: إذهب ولا تعد إلى هنا!

على مشارف إحدى القرى المفترض تطهيرها من «الانعزاليين» كنا سبعة. كانت تمطر بغزارة. نسيَنا المسؤول العسكري ونَسي موقعنا ساعات طويلة. وصلت المياه في الموقع الذي تمترسنا فيه إلى صدورنا. ثم انهالت علينا الطلقات من موقع صديق لم يكن قد أبلغ بوجودنا في مرمى نيرانه. لطف الله بنا حين نجح اللاسكلي في ربطنا بالمسؤول الساهي عنا. توقف إطلاق النار وألغيت مهمتنا. من يومها يلازمني وجع المفاصل.

أنظر في بطاقتي اللبنانية وأقول: معك حق يا أمين معلوف: سوف تقتلني هويتي؟

كاتب وصحافي ـ لبنان

تعليقات: