«جنوبيّو» سوريا: عودة لم تكن في البال

كان الخوف من القتل على الهوية هو الدافع الحقيقي للهروب (روميت بكتاس ــ رويترز)
كان الخوف من القتل على الهوية هو الدافع الحقيقي للهروب (روميت بكتاس ــ رويترز)


أكثر من 40 عائلة لبنانية غادرت، أخيراً، سوريا هرباً من الحرب الدائرة فيها، وعادت إلى مسقط رأسها في قرى الجنوب. العائلات التي مضت على إقامتها في سوريا عشرات السنين تروي ظروف الحياة هناك وصعوبة الاستمرار هنا

داني الأمين

قبل عقود، هاجر العديد من أبناء القرى الجنوبية إلى مناطق مختلفة في سوريا لأسباب أمنية واقتصادية. مرّت السنون، استقرّت الأحوال في لبنان لكنهم لم يفكروا بالعودة إلّا مع الأحداث الأخيرة. فالاستقرار هناك لم يكن يقارن بالوضع اللبناني، كما يقولون. يؤكد أبو علاء، العائد من مدينة درعا السورية إلى بلدته بنت جبيل «أننا لم نعان يوماً في سوريا من قلّة العمل أو الرزق، ولا من أي مشاكل طائفية أو مذهبية». يضيف الرجل الذي عاد مع 38 أسرة «لم نكن نتخيّل يوماً أن نعود إلى بلدتنا بنت جبيل، هرباً من الأوضاع الأمنية أوالاقتصادية. كان حلمنا أن نعود بملء إرادتنا إلى وطننا».

ليست بنت جبيل البلدة الوحيدة التي شهدت عودة أبنائها وأحفادهم من سوريا، بل حدث ذلك في قرى وبلدات مختلفة مثل شقرا والطيبة والغازية ومعروب وغيرها... هذه العائلات التي تحرص على عدم الظهور الإعلامي، خوفاً على من بقي من أبنائها وممتلكاتها هناك، تعيش اليوم بين نارين. نار العودة مجدداً إلى سوريا لما قد ينتظرها بعد التهديدات التي تعرّضت لها، ونار البقاء في الجنوب حيث تضيق بها سبل العيش وشحّ الخدمات والرعاية في ظلّ الغلاء الفاحش للمواد الغذائية وانعدام فرص العمل وانقطاع المياه والكهرباء. تتحدث أم هشام (اسم مستعار)، الوافدة مع أربعة من أبنائها من مدينة حلب السورية، عن الأوضاع المعيشية الصعبة في حلب بسبب انقطاع الغاز والطحين والخبز وجشع التجّار، حتى باتت معظم العائلات المتواضعة تعتمد على ما تبقى من التموين المنزلي، بانتظار ما هو أعظم، ما اضطرّها إلى ترك زوجها وابنها هناك على أمل الّلحاق بها وأولادها في ما بعد. تقول إن «الخوف من القتل على الهوية أو الانتماء للنظام السوري هو الدافع الحقيقي للهرب، إضافة إلى الوضع الاقتصادي». وصلت السيدة إلى منزل أخيها المتواضع في شقرا، لتجد شقيقتها الصغرى زينب، التي كانت تقيم في بلدة قارا السورية على الحدود مع بلدة عرسال البقاعية، قد سبقتها مع أبنائها أيضاً. تؤكد الأخيرة أنها هربت «خوفاً على الأولاد من القتل، ليس من أبناء قارا، بل من الغرباء الذين دخلوا البلدة، التي كان عدد سكانها 23 ألف نسمة، وبات اليوم يقارب اليوم 100 ألف نسمة». تضيف «من بين هؤلاء من لا يرحم، ويتعامل على أساس الانتقام من أي موالٍ للنظام». كذلك تشير إلى «الغلاء الفاحش للمواد الغذائية، ارتفاع سعر قارورة الغاز الذي وصل إلى 1700 ليرة سورية وانقطاع الخبز». تروي كيف أنّ المسلحين باتوا يحتكرون شراء المواد التموينية والبنزين والغاز ومن ثم يبيعونها للأهالي في السوق السوداء، وهم يفرضون على الجميع المشاركة في الاعتصامات وتشييع القتلى وإلّا تحرق منازلهم ومحالهم التجارية وتهدّد حياتهم بالقتل. اليوم، تعيش زينب وشقيقتها وأولادهما حالة تقشّف في منزل أخيهما، ولم تصل إليهما أية مساعدة تذكر رغم الوضع الاقتصادي الصعب.

في شقة صغيرة تضم غرفتين ومطبخاً صغيراً ومرحاضاً، يعيش أبو أيوب مجير منذ 3 أشهر مع 10 أفراد من أولاده وأحفاده وصهره السوري الجنسية، بعدما تعرّض وعائلته للتهديد المتكرّر وشاهد العديد من جرائم القتل، «شاهدت المسلّحين وهم يجلدون أحد أبناء الحيّ الذي أسكن فيه في بلدة داعل في محافظة درعا، ثم يطلقون الرصاص عليه ويقطعون جسده بالسكين». يضيف: «سبق للعديد من المعارضين السوريين أن تظاهروا تحت منزلي، وهدّدوا باعتقال ولدي، وسرقوا سيارتي وبعد مجيئي إلى هنا أقدموا على سرقة المنزل وتكسير أبوابه». لكن مجير يعيش اليوم ضائقة مالية ويبحث عن العمل ولا يجده، «فالحدّ الأدنى من المعيشة يتطلّب يومياً أكثر من 50 دولاراً، ونضطرّ لشراء المياه، حتى أن المساعدات الغذائية كنا نحصل عليها في شهر رمضان فقط، لذلك كل همي اليوم إيجاد عمل لي ولصهري، وإلّا فقد اضطر للعودة إلى سوريا كما فعل عمّي منذ أيام».

في مدينة داعل في محافظة درعا تعيش أسرة أبو مجير منذ عشرات السنين. اندمج أفرادها في مجتمعهم الجديد وحصلوا على مراتب علمية لافتة، ويزيد عددهم على 200 شخص، كما يعيش في المحافظة عينها عدد كبير من عائلات بنت جبيل. ويشير المختار محمد عسيلي إلى أن «15 أسرة من بنت جبيل تعيش في حيّ الست زينب في دمشق، تعرّضت في الأشهر الماضية لتهديدات واستفزازات بسبب انتمائها المذهبي، وكتبت شعارات تهديد على منازلها من قبل ملثّمين وهي اليوم تتخوف من البقاء في منازلها رغم عودة الأمن إلى الحيّ».

يذكر أنّ هجرة العشرات من اللبنانيين إلى سوريا والأردن، تعود إلى أيام الانتداب الفرنسي عندما رفض العديد منهم الاستعمار الفرنسي، فحاربهم الفرنسيون، وولّوا هاربين إلى أماكن مختلفة، لا سيما تلك القريبة من جنوب لبنان. «كانوا يفرّون سيراً على الأقدام أو بواسطة البغال والحمير»، يقول أستاذ التاريخ بلال ياسين، الذي فوجئ بوجود «مئات اللبنانيين من قضاء بنت جبيل في مناطق قريبة في الأردن وسوريا، بينهم أسر تنتمي بجذورها إلى مقاومة الاستعمار». ويشير المؤرّخ محمد جابر آل صفا إلى أنّ المرجع الديني الراحل السيد محسن الأمين أدى دوراً في إقامة العديد من العائلات الجنوبية في سوريا، لا سيما بعدما أسس مدرسة في دمشق سميت «المدرسة العلوية» وسميّ حيّ سكني وسط دمشق باسم «حيّ الأمين» تقديراً لدوره العلمي والإصلاحي. وبحسب المؤرّخ الراحل الدكتور علي مرتضى الأمين، في كتابه «ثائر من بلادي»، «قاد أحد أبرز مقاومي الاحتلالين التركي والفرنسي في جبل عامل علي حرب، من بلدة تولين في قضاء مرجعيون إلى جانب المقاومين أدهم خنجر وصادق حمزة الفاعور، مجموعة عسكرية لمقاومة الاحتلال الفرنسي، في كلّ من تبنين والشقيف وصور وقد حاربه الفرنسيون إلى أن فرّ متنقلاً بين سوريا والأردن». ويقول مختار تولين السابق محمد ابراهيم عوالة إنّ حرب وعدداً كبيراً من أبناء جبل عامل تركوا البلاد مرغمين هرباً من الجنود الفرنسيين بسبب محاربتهم للاستعمار. ويشير ياسين إلى انّ الجيش الفرنسي شن حملة «النيجر» واجتاحوا جبل عامل وكان شعارهم القضاء على رجال العصابات، مستفيدين من السموم التي تنشرها إحدى الصحف اللبنانية، «وقتها تم تدمير بنت جبيل، بهدف اعتقال رجال المقاومة، لا سيما أدهم خنجر وصادق حمزة الفاعور وعلي حرب، بعدما أطلق خنجر النار على الجنرال غورو وأصابه، عندها استطاع عدد من الثوار الفرار إلى سوريا».

مساعدات طالت 38 أسرة

تحتضن مدينة بنت جبيل أبناءها الآتين من سوريا، فتقدم لهم المساعدات المختلفة، رغم قلّة الحيلة كما يشير المختار محمد عسيلي، الذي كان على تواصل دائم مع هذه العائلات منذ العام 2003. «البلدية وحزب الله وهيئات المدينة المختلفة تعاونوا على تقديم ما تيسّر من المساعدات للعائلات الـ38، فاستأجروا لهم الشقق السكنية ويؤمنون بدل الإيجار الدائم لهم، إضافة إلى تأمين الأثاث اللّازم (لكلّ شقة: برّاد ماء، وغاز وتلفاز وفرش ومقاعد للجلوس)». ويلفت عسيلي إلى أنّ حزب الله اشترى بالتعاون مع البلدية ولجنة الوقف ومكتب الخدمات الاجتماعية التابع للمرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله وعدد من أبناء بنت جبيل ومؤسساتها قطعة أرض كبيرة لهؤلاء كي يتسنى لهم بناء المنازل عليها، إضافة إلى تقديم المساعدات المختلفة واستئجار المنازل، وتوفير ما تيسّر من فرص العمل للشباب».

...

..

.

فقراء يستضيفون فقراء



لا يزال ضجيج الاهتمام بالنازحين السوريين في لبنان يتصاعد. ينتشر النازحون بصورة رئيسية في الشمال، وخصوصاً في عكار ووادي خالد، ما يزيد المناطق البائسة بؤساً ويدفع إلى مساءلة المرجعيات المتعاقبة على الحكم، ما إذا كان باستطاعتها إغاثة النازحين فعلياً، فيما تحتاج المناطق التي تستقبلهم إلى من يغيثها

روبير عبد الله

عكار | الطريق إلى وادي خالد سالكة وآمنة. وتيرة نشاط أسطول «الفانات» الذي كان يملكه أبناء الوادي تراجعت. فلا الركاب في سائر الأنحاء اللبنانية يحتاجون إليه، ولا عبور العمال السوريين إلى لبنان من معابر وادي خالد الشرعية وغير الشرعية بقي له أثر. في وادي خالد قد تمرّ ساعة كاملة من دون أن تظهر سيارة واحدة. الدراجات النارية وسيلة النقل الأساسية المعتمدة هنا، نظراً إلى ما توفره في استهلاك الوقود، الذي بات بالأسعار اللبنانية، وهو ما لم يتعوّده أبناء الوادي، الذين كانوا في الماضي يستخدمون البنزين والمازوت السوريين، أكان ذلك للتجارة والتهريب أم للاستهلاك الخاص على الأقل. أبواب المحال التجارية مشرّعة على مصراعيها، لكن من دون فائدة.

لا تلمح أحداً يدخلها أو يخرج منها، بما في ذلك أصحابها، الذين يظهرون جماعات، تتحلق لشرب الشاي أمام باحة إحداها ليس إلّا.

وادي خالد التي آوت النازحين السوريين وأسهمت في إغاثتهم باتت تحتاج اليوم إلى من يغيثها. ألف عائلة من أصل عائلاتها الخمسة آلاف، استلمت حصة غذائية من «جمعية العرانسة» في شهر رمضان الماضي، يقول رئيس الجمعية الشيخ عبد الله الدويك، مضيفاً أن جمعيته هي الوحيدة بين الجمعيات الخيرية التي قدّمت مساعدات إلى أهالي وادي خالد. ليس مهماً ما يقوله الدويك بمقدار أهمية قبول ابن وادي خالد فكرة تلقيه مساعدة على هيئة حصة غذائية، فابن الوادي يمكن أن يقتل طلباً للثأر، ويمكن أن يهرّب، باعتبار أن التهريب بالنسبة إليه ينطوي على شيم الرجولة والقوة، لكنه لا يقبل أن يكون هدفاً لمساعدات المحسنين.

هكذا، لم يحصل أن طرأ على وادي خالد تطور مفاجئ مثل الذي وقع في أعقاب الأزمة السورية، من دون أن يتمكن أهالي الوادي من العثور على بدائل لتأمين مصادر العيش. فبعد إقفال خط البقيعة التجاري مطلع تسعينيات القرن الماضي، اقتنى هؤلاء أسطولاً من «فانات الميني باص» لنقل الركاب تجاوز عددها الخمسمئة، ما مثّل مصدر دخل لنحو ألف عائلة، باعتبار أن «الفان» الواحد يمكن أن يشترك في ملكيته أكثر من شخص، ويمكن أن يملكه شخص ويعمل عليه شخص آخر. علماً أن إقفال خط البقيعة باعتباره أحد أكبر الأسواق التجارية في الشرق الأوسط، لم يكن يعني وقف التجارة الحدودية بصورة نهائية ومبرمة، فقد استمرت هذه الأخيرة بوتائر مختلفة، كما استمر الأهالي في التزوّد بحاجياتهم من سوريا سواء من باب السلع أم الخدمات. كذلك نشأت تجارة «معولمة» في سياق تطور خط البقيعة التجاري، وبعيد إقفاله، من أبرز معالمها امتلاك تجار الوادي أهم المحال التجارية في شارع المئتين في طرابلس، وامتلاكهم معظم المحال التجارية في أحد شوارع مدينة حلب الأساسية. وفي المدينتين استحوذ تجار الوادي على وكالات تجارية عالمية من الصين وإندونيسيا وروسيا وغيرها، لكن الأزمة السورية زادت من اختناق الاقتصاد الطرابلسي، وشاء سياقها أن تكون مدينة حلب مسرحاً لأم المعارك بين النظام السوري ومعارضيه.

«الأوضاع سيئة للغاية، شغلة عملة ما في»، يقول نائب رئيس بلدية المقيبلة أحمد العكاري. ويضيف إن «أوضاع النازحين السوريين باتت أفضل من أوضاعنا، فحركة البضائع توقفت عبر الحدود بصورة نهائية، والطريق التي تسلكها البضائع السورية إلى وادي خالد باتت من أطول الطرقات مقارنة بباقي المناطق العكارية، لأن المعبر الوحيد المتاح هو معبر الدبوسي مقابل بلدة العبودية الأقرب إلى بلدات السهل والشفت وجزء من القيطع والجومة».

تجوب القرى والبلدات العكارية شاحنات صغيرة محملة بصهاريج الغاز. بائعو الغاز في بعض المناطق «احمرّت أعينهم»، لكون «الرزقة انقطعت» بعدما أغرق تجار الوادي السوق بمادة الغاز، لكن عمر حسن من بلدة رجم عيسى يرى أن «الشغلة ما بتجيب تعبها، ابن عمي يبرم كل الأسبوع بين قرى جبل أكروم ووادي خالد من دون أن يتمكن من تصريف حمولة صهريج واحد». حسن، عضو مجلس الأهل في مدرسة رجم عيسى، يخشى ألا يتمكن معظم الأهالي من دفع رسوم التسجيل في المدرسة، ففي العام الدراسي الماضي «تسجل التلامذة على حساب صندوق المدرسة بعد موافقة وزارة التربية والتعليم العالي»، أما السنة «فالوضع أسوأ، وخصوصاً أنني كنت أعمل في التجارة عبر الحدود واليوم توقف هذا العمل، ولم أعد أدخِّل ليرة واحدة». ويقول إنّ ابنه المتزوج اشتغل سائقاً خاصاً لدى أحد الأشخاص لمدة خمسة أشهر، لكن المستخدِم استغنى عن خدماته. والجدير بالذكر أن نحو مئة عائلة من سكان الوادي، بحسب تقديرات جمعية العرانسة، غادرت الوادي للسكن في مكان عمل معيل الأسرة منذ بداية الأزمة السورية.

حال التردي لا تقتصر على وادي خالد، بل تعدّتها أيضاً إلى المناطق المجاورة. ففي مشتى حسن يقول المختار ميسر خالد إن أكثر من خمس وستين عائلة تحتاج إلى إغاثة، وإنه جرى توزيع حصص غذائية لنحو خمس وثلاثين عائلة لبنانية في البلدة. ويؤكد مختار المشتى ما ترويه المصادر في وادي خالد عن سوء الأوضاع، مضيفاً إن الناس هناك أصبحوا «بعضهم فوق بعض، وهم القلة القليلة». أما الأغلبية الباقية، فهي تعيش تحت خط الفقر. وعن الشاحنات التي تمر يومياً في مشتى حسن محملة بصهاريج الغاز، يؤكد المختار أنها قانونية مئة في المئة، لأن الحدود حتى آخر زاوية في بلدة قرحة، أقفلت نهائياً.

هكذا، كشفت الأزمة السورية واقع المناطق الحدودية، وهو ما تحفّظ عن معالجته الموالون للنظام السوري في لبنان، كما تحفظ عن ذكره المعارضون، فلا أنصار الأخوة والتعاون اكترثوا لمناطق التآخي الحدودية، ولا أنصار السيادة تعرفوا إلى تلك المناطق عطفاً على نازح، إذ لطالما عاش النازحون السوريون واللبنانيون على مقربة منهم تحت جسور بيروت وجبل لبنان.

لا يقبل أهالي وادي خالد بأن يكونوا هدفاً لمساعدات المحسنين (مروان بو حيدر)
لا يقبل أهالي وادي خالد بأن يكونوا هدفاً لمساعدات المحسنين (مروان بو حيدر)


تعليقات: