علـي عـاد يبحث عن بيتـه، فلـم يجد الحي برمتـه
الضاحيـة فـي عـام: حـارة حريـك نموذجـاً

مبنى الامانة العامة في صيف 2006(م.ع.م)
مبنى الامانة العامة في صيف 2006(م.ع.م)


في واحد من أيام الحرب، نزل علي محمد من مكان نزوح عائلته في الجبل الى «نزهة» في المحيط. قادته النزهة الكاذبة، وصديقه، الى الضاحية الجنوبية.

أراد الوصول الى البيت بأي ثمن. والبيت على حدود المربع الأمني. لم يكن علي يعرف بعد اذا كان المبنى الذي يقطن فيه قد قصف. سمح له عناصر «حزب الله» بالذهاب صوب البيت. لكن، وفي الطريق، ارتفع هدير الطيران الحربي. دب الرعب في أوصال الصديقين وتلطيا في مدخل المبنى الاقرب اليهما. وقفا هناك قليلاً، وانتبه علي الى غباء فكرة التلطي في مدخل مبنى، لأن الطائرات تستهدف الابنية فقط. لم يعد هناك إلا إطلاق السيقان للرياح.. الى السيارة، ومنها الى الجبل.

الطالب الجامعي، ذو العشرين عاماً، كان يريد إنقاذ أي شيء يمكن حمله. ثيابه. جهاز الكومبيوتر وفيه صوره ودروسه الجامعية وألعابه المفضلة وموسيقاه. كان يفكر بنظاراته الشمسية حتى.

يومها، خرج من الضاحية بالذكرى المرعبة فقط.

انتهت الحرب وعاد الى البيت. لم يجد المبنى، ولا البيت. لا.

لم يجد الحي برمته. وللمرة الأولى، رأى علي سطح المبنى الذي كان يقطن فيه.

يضحك وهو يتذكر الأيام الأولى بعد الحرب. «كنت ترى كل الناس يمشون وسباباتهم أمامهم. يقول الواحد لمن معه: انظر. هذا صالون البيت وتلك غرفة الجلوس. يبحثون عنها والغرف باتت كالصفحات المغلقة بعضها على بعض».

شارع الشهيد راغب حرب، حيث عاش علي أكثر من 13 سنة، كان قد دكّ حتى تهاوت معظم أبنيته. علي، حين رأى الشارع، شعر أن حياته بدأت من جديد. العبارة توحي بإيجابية ينفيها تفسيره: صرت فجأة من دون ذكريات.

«لحظات بعيدة»

لم ينتظر المجتمع الآخذ بالتوسع في الضاحية نهاية الحرب الأهلية كي يبدأ بالبناء. الأبنية راحت ترتفع بكثرة في منتصف الثمانينيات. المساحة الممتدة بين شارع بئر العبد وطريق الحارة الرئيسي شهدت فورة فعلية. تجار عقارات جنوبيون راحوا يتنافسون في البناء والبيع، وتوافدت طبقة شيعية ميسورة الحال من أهالي مغتربين وتجار وأصحاب مصالح وغيرها تنتقل إلى شقق جديدة في أبنية عالية تجاور أخرى قديمة.

فورة تزامنت مع صعود «حزب الله». مسجد الإمام الرضا حيث كان السيد محمد حسين فضل الله يصلي ويلقي خطبه، ليس بعيداً عن هذه المنطقة التي باتت منكوبة. والشارع حيث يقع المسجد ظل مقطوعاً من طرفيه لسنوات طويلة قبل أن ينتقل السيد فضل الله الى مسجد الحسنين. هذا المسجد كان نقطة ارتكاز للفكر الآخذ بالتوسع في كل الاتجاهات في الضاحية.

في التسعينيات امتلأت البقعة برمتها. لم يعد هناك من مساحة إلا وارتفع فيها بناء. وتركزت مؤسسات «حزب الله» الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية في هذا المحيط. وقطن فيه السيدان فضل الله ونصر الله. لم يكن مجرد مزاح القول المألوف بين مسؤولي «حزب الله» ومناصريهم حين الإشارة الى المربع الأمني: نعلم أنه سيصير ملعب كرة قدم في النهاية. هو قول أقرب الى تنبؤ واقعي، وقد تحقق.

قبل هذا، كان محيط المربع الامني قد أخذ طريقه كما سائر المناطق في الضاحية الجنوبية الى الاكتفاء الذاتي. حياة بمتناول اليد من الطبيب الى المختبر الطبي الى أنواع السلع كافة الى المصانع حتى. حياة كاملة أخليت في ليل الثاني عشر من تموز، وبدأ الطيران بعدها بسحق كل شيء. الصورة المرعبة التي كانت صباح انتهاء الحرب زالت.

لكن الآن بعد سنة، تبدو الأبنية المنتصبة المتباعدة نافرة في هذه المساحة الكبيرة من الحفر العميقة المسيجة بأسوار حجرية صغيرة.

المبنى الذي انتقل اليه علي طفلاً في السابعة من عمره، كان قبل سقوطه، يختنق من جهاته الأربع بالابنية المتلاصقة. الوصول اليه كان يتطلب المرور في زقاق ضيق مقطوع في آخره وتصطف السيارات على أحد جانبيه. في هذا الزقاق كان علي يلعب مع أصدقائه الأطفال كرة القدم، ويظنون أن المكان هائل الاتساع. الآن، ما زال الزقاق على حاله، يمر بين حفرتين هائلتين. يؤدي الى حفرة ثالثة.

يقف علي أمام الحفرة. فيها ينقب شبان في الردم وينتزعون الحديد ليبيعوه. من هنا، صار يمكن رؤية صف المباني البعيد. هذا كان قائماً منذ السبعينيات. توراى عن الأنظار وعاد اليها. صُلّحت واجهاته وعاد سكانه اليه. كان حسن قد انتقل مع أمه وشقيقتيه الى واحد من هذه الابنية قبل سنة على حرب تموز. أتوا من شقة صغيرة مستأجرة في برج البراجنة بعد بيعهم شقة كانت للعائلة في النبعة وظلت محتلة الى أواخر التسعينيات. حسن هاجر الى كندا قبل حرب تموز. والآن يفكر في أخذ أمه وشقيقتيه اليه. العائلة التي هربت من ضجيج برج البراجنة كانت كمن وجدت ضالتها في هذه المنطقة. لكن الامر لم يعد كذلك. الغبار استمر طويلاً بعد الحرب، والضجة ستعود قريباً، حين يبدأ مشروع الإعمار. وهذه عائلة غير مستفيدة من المشروع الجديد «وعد». على أن «وعد» هو ما يمني عزّت نفسه به، هو الذي كان يملك «ميني ماركت» وشقة في مبنى غير محظوظ.

يمشي علي في الزقاق أمام السور الحجري. يضحك وهو يردد الجملة الاعلانية: ذكريات. الأيام السعيدة.. لحظات بعيدة. يخرج من الزقاق الى شارع الشيخ راغب حرب. هنا كان دكان كنعان. وهنا محل الأنترنت، أمضي فيه وأصدقائي ساعات متواصلة. يمشي قليلاً. يشير الى شارع فرعي: عند ذاك العمود الكهرباء تعلمت تدخين النرجيلة. العمود ما زال في مكانه، لكن لا علي ولا أحد من أصدقائه بقي هنا. ينهي عبارته وإذا به يلتقي بشاب، يحييه ويقـــبّله. أحمد. صديق في شارع آخر. لا يتذكران الكثير. لكن أحمد يقول إن حياته صارت من البيت الى الجامعة وبالعكس. لا يرى الشارع إلا اذا نزل ليشتري شيئاً.

من هذا الشارع الى شارع المربع الأمني. يتابع علي: هنا كانت مكتبة. عملت فيها بدوام «قصير»: من الخامسة صباحاً وحتى الثانية فجراً. وبمئتين وخمسين دولاراً، ظننت أن الامر يستحق، وانني دفنت الفقر. هنا مطعم كنا نتناول من عنده السندويشات ونمرض طوال الليل، لكننا كنا مدمنين عليه.

يختلط مزاح الشاب بجديته وهو يشير الى فراغات يساراً ويميناً. في هذه الشوارع تسكع علي وأصدقاؤه حتى ارتووا. كبروا هنا حقاً. صنعوا يوميات جاء من اقتلعها كلها. يجرّد الشاب ما حدث لمنطقته من الحرب. يضعها في إطار أكثر سؤاله: كيف يحدث مثل هذا؟ يقول إنه لو في ظروف غير هذه غادر الى منطقة أخرى وظل الحي على حاله، فسيعلم أن كل ما كان، ومن كان، ما زال موجوداً. تكفي الزيارة لاستعادة صور حياة. غير أن الصور نفسها والناس كلهم غادروا.

أكثر من ذلك، اقتلع البيت بكل ما فيه. جدرانه وأثاثه ومطبخه. اقتلعت الحياة التي كانت في البيت. الآن، وان بنيت هذه المنطقة وعادت أحلى مما كانت، وعاد علي الى البيت الجديد، فهناك نقص لن يعوض. المشهد المحفوظ في ذاكرته لن يعود. ربما لن يجيد حتى التسكع في الشوارع التي ستصير جديدة عليه. غير أن علي يستدرك: ربما الجديد، النظيف البراق، سيكون تعويضاً.

لكن، الآن، المشي هنا يبدو صعباً. بعد مجيئه للبحث عن أغراض البيت في الركام المرفوع، اتخذ الشاب قراره بأنه لن يمر مجدداً من الحي. أراد الحفاظ على شعور أخير غمره بالسعادة وراوده في لحظة شبه درامية. كان قد وجد كيس الصور الغالي وتابع البحث. فجأة وقع كفاه على مسطح خشبي. مسح الغبار عنه، فإذا به باب خزانته. رفعه. وجد كل ثيابه تحته، كما هي من دون خدش، وكأنها مكوية. انتشلها. ثم وجد نظاراته الشمسية. بدت هذه الاغراض كنزاً. كانت كل ما تبقى له من حياة سابقة.

.. وضاحية اليوم (بلال قبلان)
.. وضاحية اليوم (بلال قبلان)


تعليقات: