زيتوننا أيضاً شهيد

دخل مزارعو الزيتون موسماً جديداً في وقت لم يسددوا فيه حساباتهم عن الموسم الفائت (كامل جابر)
دخل مزارعو الزيتون موسماً جديداً في وقت لم يسددوا فيه حساباتهم عن الموسم الفائت (كامل جابر)


زيتون لبنان: ليس بخير



مهى زراقط

لمَ الاستغراب؟ لمَ الاستنفار؟ ما المشكلة؟

هذه وغيرها من الأسئلة الاستفهامية، كرّت دفعة واحدة، استنكاراً لاستغرابنا «تسعيرة» أجر العمّال في قطاف الزيتون. قد يكون مفهوماً بالنسبة إلى البعض أن تختلف التسعيرة بين منطقة وأخرى، فتصل إلى ثلاثين ألفاً في البترون، وأربعين ألفاً في مرجعيون. لكن ما ليس مفهوماً أن يكون أجر الرجل أعلى من أجر المرأة. في أحسن الأحوال، إذا تقاضى الرجل ثلاثين ألفاً، تقاضت هي خمسة وعشرين. وإذا تقاضى أربعين، تقاضت هي ثلاثين. والسبب؟ لا يوجد سبب.

هذا الأمر بديهي. ما هذا السؤال أصلاً. «هذا قانون» يجيب الرجل وينتقل إلى الشكوى من مشكلة التصريف. ولدى الإصرار على تحديد سبب، يعترف بأن «المرأة تعمل عدد الساعات نفسه، بل إنها تقطف بشكل أفضل وتعتني بحبّات الزيتون، ولكن... هكذا تعوّدنا». سيدة أخرى، أحضرت رجلاً وزوجته ليساعداها في القطاف، توقفت عند الأمر. بدا وكأنها انتبهت إليه لأول مرة رغم سنواتها التي تجاوزت السبعين «طول عمرنا هيك مندفع. الرجّال بياخذ أكثر من المرا. بس معك حق، ليش؟». هي أيضاً تؤكد أن السيدة تعمل أكثر من زوجها، وتهتم بالزيتون وتنظّفه من الأوراق والحبّات المتضرّرة. «معك حق، غلط»، تقول بأسف.

بالتأكيد ليست هذه المشكلة الأبرز التي يُفترض أن يفتتح بها ملف عن الزيتون في لبنان. لكن لم يكن ممكناً تجاهل مرور هذه المعلومة هامشية في أحاديث المزارعين وأصحاب البساتين. يقولونها وكأنهم يحكون عن مسلّمة يفترض التعامل معها من دون نقاش، أو حتى سؤال. ترى، هل تتعامل الدولة بالطريقة ذاتها مع مطالبهم المحقة؟ ألا تسمع صرختهم: أين سنذهب بزيتوننا؟ موسم السنة الماضية لا يزال مكدّساً، يباع بـ«تراب المصاري». والموسم الحالي مهدّد بمواجهة المصير ذاته. لا تقتصر المشكلة على غياب دعم الدولة فحسب، بل تتعدّاها إلى سماحها باستمرار استيراد الزيت من الخارج. المزارعون من كلّ لبنان يصرخون، فيما تصدح الأغنية: كان غير شكل الزيتون.

....

..

وادي التيم «يخزّن» مواسمه



على كتف جبل الشيخ، ناسٌ لا حول لهم ولا قوّة غير كروم رماديّة وشجرٌ كريم. موسم القطف بدأ في قرى حاصبيا، وموسم العام الماضي صامدٌ في الخوابي. والأمر الاعتيادي الآخر: الدولة غائبة عن السمع

فراس الشوفي

لو كان لحاصبيّا علم، لوضعت زيتونة في وسطه. هذه البقعة الذهبيّة من وادي التيم، لا يصيبها من بلاد الأرز سوى الإهمال. وإذا وقف الناس في أقبيتهم ليعدّوا خوابي الزيت الباقية من السنة الماضية، لفهموا ما قصده الرئيس نبيه برّي حين قال: أخشى ما أخشاه أن يترحّم أهالي المنطقة المحرّرة على سنيّ الاحتلال الإسرائيلي.

تلملم حاصبيا جرحها في كلّ عام. هذا الشجر العتيق المعطاء لا يعنيه إن اشترى الجيش اللبناني ثمرة ورده أو لم يشتر، لا يهمّه إن كان في هرمية الدولة اللبنانية من يقدّر أن أناساً يعيشون أو يموتون إن باعوا زيتهم أو كدّسوه في الغرف المظلمة. هذا الشجر يعطي كما اعتاد أن يعطي مذ بدأ الزمان هنا على جبل الشيخ.

«بلّشت تقطف، بلّشت تعصر، كم مدّ عندك؟ قدّي باقي من السنة الماضية؟» هذا حديثهم. المتعبون هنا «من الفجر إلى النجر» في الكروم. لا «جمّيزة» ولا «مونو» في حساباتهم. الحياة تتوقّف عندهم «على كم مدّ زيتون» وعلى كمّ التنكات التي قد يضمنون بيعها.

حركة القطف والعصر في قرى حاصبيا والعرقوب بدأت ببطء. بعض القرى كشويّا وعين قنيا وحاصبيا وميمس والخلوات لا تستعجل القطف، فــ«الحصّ» ما زال صغيراً، لأن السماء لم تمطر بعد ما يكفي. بينما صار القطف في راشيّا الفخّار وكوكبا والماري في عزّه. لا يخفي الحاصبانيون أن قطف الزيتون قبل المطر يعطي زيتاً عالي الجودة بينما تتراجع النوعيّة درجة أو أكثر إذا شرب الشجر مطراً، «لكنّ الظروف تحتّم أن ينتظر المزارعون قليلاً علّهم يزيدون غلّتهم»، يقول بسّام كازيلا صاحب إحدى المعاصر في حاصبيّا.

في معصرة بسّام، ينزل الزيت كالذهب الخالص السائل من أسطوانة فضيّة، وبقايا الزيتون على يدي الشيخ سلمان أبو ضرغم كبطاقة هويّته. يتنقّل الشيخ بين المعصرة وخزانات «الستانليس»، وهو يتمتم «اسمالله اسماالله»، وعيناه لا تحيدان عن مراقبة الزيت الذي يميل الأصفر فيه إلى الأخضر، ورائحته تستثير كلّ الحواس.

يتّفق الحاضرون هنا على أن اللبنانيين والعرب عموماً يفضّلون الزيت السميك، بينما يفضّل الأوروبيون الزيت الرقيق الأصفر، «هذا سبب إضافي إلى جانب الإهمال لمنع تصدير الزيت اللبناني» يقول كازيلا.

في حاصبيّا والعرقوب ومرجعيون، تعيش على الأرض بين 700 إلى 800 ألف شجرة زيتون، بعضها معمّر يعود إلى الألف الأول الميلادي، على ما يقوله المهندس غيث معلوف مدير المدرسة الزراعية في الخيام. معلوف ابن راشيّا الفخار، والتجوال معه في سيارته الرباعيّة الدفع بين البساتين والكروم الرماديّة، يوصلك إلى زيتونة رحروح. الأخيرة تبلغ من العمر، مع زيتونات أُخر، أكثر من 1700 عام. حتّى الزيتونة المعلم هذه، دمّرت قسماً كبيراً من أغصانها دبّابة ميركافا في اجتياح عام 1978. لم تعرف الميركافا حينها أنّ الزيتون سيتعلّم لاحقاً إطلاق الصواريخ المضادة للدروع.

يحدّثك معلوف عن ذبابة الزيتون. الذبابة تبيض في الشجرة وتتحوّل بيوضها إلى دودٍ ينخر الجذع ويقتل الورق والخشب مع الوقت. العلب الصفراء المعلّقة على بضع زيتونات مصمّمة بشكلٍ يجذب الذبابة ويدفعها إلى الدخول، ثمّ يمنعها من الخروج فتموت بفعل «الأسر». يتابع معلوف عن حياة الشجرة، «يبدأ شجر الزيتون بالعطاء بعد 12 عاماً تقريباً من تاريخ زرعه، ويزيد إنتاجه تدريجاً. يزهر بين منتصف نيسان حتى أيار. وحين تتلوّن الثمرة بين الصفرة والسّواد يكون الوقت المناسب لقطفها، أي 15 تشرين الأوّل تقريباً. الطرق الحديثة تغيّر كثيراً في طرق الزرع والعناية، وتكسِر ما اكتسبه الأهالي بالخبرة المنقولة عن الأجداد؛ فست عشرة زيتونة على مساحة دنم واحد كانت طريقة الزرع في الأربعينيّات، واليوم يزرع بين 40 إلى 45 شجرة في المساحة ذاتها».

يعود السبب الذي يدفع بسكّان هذه القرى لزراعة الزيتون إلى قلّة الأراضي المرويّة. وحسب معلوف، فإنّ ما يقارب 20 إلى 25% من السكّان يعتاشون من إنتاج الزيت والزيتون.

نودّع راشيّا الفخّار عند أبو سعيد وفخّاراته. أشكال ورسوم جبلها السبعينيّ على جرّات وأباريق وتحف في قبوه المظلم. وتحت الصنوبرة الكبيرة زرع في الأواني الفخّارية المكسورة ما يطيب وتشتهي من الحبق والمردكوش والصعتر.

أبو سعيد يريد لصوته أن يصل. على الدولة أن تشتري الزيتون وإلا على الناس النزول إلى الشارع. يمازحك الفاخوري والفلاح الهادئ بكوميديا سوداء، ويقترح أن يضع الناس على تنكات الزيت رسماً يشير إلى خطورة زيت الزيتون وسُميّته، علّ الدولة تهتم به كما تفعل مع التبغ.

أزمة التصريف مشكلة قاتلة بالنسبة إلى المزارعين ومصير هذا النوع من الزراعة. في العام الماضي، قُدّر إنتاج حاصبيا ومحيطها بما يزيد على 120 ألف تنكة، يتراوح تصنيفها بين باب أول، ثاني وثالث، ويذهب البعض إلى القول إن الرقم بلغ 180 ألف مع تنكات غير صالحة للأكل. المفارقة أن قرار الحكومة آنذاك شراء 50 ألف تنكة من كلّ لبنان للجيش اللبناني، نالت حاصبيا منه ما يقلّ عن 5500 تنكة. أي 4.6 من نسبة الإنتاج على أبعد تقدير. ولا يعلم أحدٌ بعد ما خطط الحكومة السحريّة لهذا العام.

زيت العام الماضي ما زال يباع هنا بسعر أقل من الكلفة تتراوح بين 45 و50 دولاراً أميركياً، في حين كان يتراوح السعر العام الماضي بين 100 و110 دولارات. وأزمة التصريف تضاف إليها أزمة كلفة الإنتاج أيضاً، إذ ارتفع سعر العصر وكلفة اليد العاملة بنسبة عشرين في المئة، فضلاً عن كلفة النقل والتوضيب والفلاحة والمبيدات. ولا يمكن أن نعمي العيون عن أزمة زيبار الزيتون. فنهر الحاصباني رئة حاصبيا وأزمة تلوّثه مزمنة. لم تقم بلدية حاصبيا بحلّ حقيقيّ حتى اللحظة غير إجبار المعاصر على استحداث حفر كبيرة وتعبئتها بالزيبار، فيما الحلّ الوحيد هو تكرير الزيبار وتحويله إلى سماد بحسب بعض الخبراء.

باختصار، الحاصباني يركض، ويركض رغيفه المغمّس بالزيت أمامه، فلم تعد تجارة الزيت «أكلة».

...

..

زيتون الكورة حطب للمدافئ!



عمر بعض أشجار الزيتون في الكورة يفوق الخمسمئة سنة. لزيت الكورة وزيتونها الفضل في تخرّج الأطباء والمهندسين. كان ذلك قبل العقدين الأخيرين. لكن في هذه الأيام، صار البعض يفضّل أن يحوّل تلك الأشجار إلى طعم للمدافئ، لأن الزيت يبقى في الخوابي من عام إلى آخر، وكلفة الإنتاج باتت أعلى من سعر المبيع

روبير عبد الله

«الحمد لله. قلعت خمسين كعباً من أشجار الزيتون هذا العام». هكذا يستهلّ أحد أكبر مزارعي الزيتون في الكورة حديثه. في العقد السابع من العمر، خلص ابن بلدة كفر حزير، ألفرد ضاهر، إلى أنه «لا يشتغل بخسارة غير المجنون». ورغم ترحمه على والده، يقول «شو كان صاير عليه حتى يتعذّب بزرع الزيتون، ويورثنا أو يورطنا بمهنة ما فيها غير وجع القلب».

لكثرة ما في جعبته من أخبار وتجارب، يرى ضاهر أن مشكلة الزيتون على ضخامتها هي تفصيل بسيط في دولة تكرّس اهتمامها الفعلي لمسؤولي الدولة في قطاع السياحة.

ولأن شرّ البلية ما يضحك، يضيف عضو الجمعية التعاونية لمزارعي الزيتون في الكورة بطريقة طريفة، إن استفادته الفعلية من أحراج الزيتون التي يملكها تكاد تقتصر على توفير مؤونة الموقد (Cheminée)، لذلك عقد اتفاقاً مع صاحب جرافة قوامه قسمة أخشاب الزيتون «ما فوق التراب لي وما تحته لصاحب الجرافة».

من بين المشاكل العديدة التي يعانيها القطاع، يركز ضاهر على ما يعدّه الأهم: انخفاض سعر الزيت بسبب الغش. والغش يتم بتسويق زيت مصنّع لا تكلف التنكة الواحدة منه أكثر من عشرة دولارات ويتم بيعه باعتباره زيت زيتون أصلياً. وقد وصل مستوى الغش إلى أن الزيت اللبناني المصدّر باعتباره «زيت زيتون لبناني ممتاز»، وتسوّقه شركات (محترمة) يتنافس المعلنون في التغنّي بجودته، قد غزا الأسواق العالمية. ضاهر الذي يملك أبناؤه محالّ تجارية كبيرة في كاليفورينا، حاول أن يعرض بضاعته هناك، فأرسل الزيتون إلى الولايات المتحدة، ليفاجأ بأنه لم يستطع منافسة تجار الزيتون اللبنانيين هناك، رغم أنه هو صاحب الأرض في لبنان، وأبناؤه أصحاب المحال التجارية، أي باختصار كما قال بالتحديد: أنا المزارع، وأنا المصدّر، وأنا البائع». ومع ذلك، لا يزال يحتفظ بدونمات كثيرة تحوي أشجار زيتون يقدر عمرها بخمسمئة سنة.

في جولة بين بلدات قضاء الكورة، يتضح أن أي كوراني لديه حكاية مع شجرة الزيتون. من لا يملك بستان زيتون هناك، فجاره أو أخوه أو قريبه يفعل. وسيكون بالتأكيد عمل على ضمان أحد المواسم، أو المتاجرة بزيته، أو استخراج الزيت أو الصابون.

لا تملك الكورة تعريفاً أفصح من تعريفها ببلاد الزيتون. ليس هناك بلدة في القضاء خالية من كروم الزيتون. كما أن أغلب البلدات تحوي معصرة أو اثنتين، منها ما يعمل على البارد بالطريقة التقليدية، فينتج أفضل الأنواع وأكثر فائدة من الناحية الصحية، ومنها ما يعمل بالطرق الأوتوماتيكية الحديثة، ويتميز بغزارة إنتاجه. وإلى الزيت والزيتون الأخضر، اختص ابن الكورة بصناعة الصابون، فأنشئت معامل لتلك الغاية، كما تشهد بلدات القضاء وقراه وجود حرفيين، يجولون على المنازل لصناعة الصابون في داخلها.

ولكن، هل يفاخر الكوراني بهذا التعريف؟ يجيب جورج قسطنطين عيناتي، رئيس جمعية مزارعي الزيتون في الكورة ومنسّق تجمع الهيئات الممثلة لقطاع الزيتون في لبنان، بقوله إن كثيراً من المزارعين لم يقطفوا مواسمهم، لأن الزيت مخزّن لديهم من العام السابق بسبب إغراق السوق اللبنانية بالزيت المستورد، مع العلم بأن جودة الزيت اللبناني سمحت له بالفوز بأكثر من معرض عالمي، وجعلت لبنان أحد أفضل خمسة بلدان في إنتاج الزيتون الجيد. ويستغرب عيناتي كيف تتخلى الدولة عن زراعتها الوطنية خدمة «لعصابات استيراد الزيت وتزويره»، في حين أن وزارة الزراعة الأردنية أمرت منذ أيام قليلة بمنع استيراد زيت الزيتون. وكذلك تفعل حكومة غزة. وحتى الاحتلال الإسرائيلي الذي دمر آلاف الدونمات في فلسطين المحتلة، وفي لبنان خلال عدوان تموز 2006، تضع حكومته رسوماً مرتفعة جداً على استيراد الزيتون.

وعن شراء الحكومة اللبنانية خمسين ألف تنكة زيت لصالح الجيش اللبناني، العام الماضي، يلفت عيناتي إلى أن الكمية التي كان يفترض شراؤها تصل إلى أربعمئة ألف تنكة، ورغم ذلك برزت عوائق كثيرة حالت دون تسديد ثمن ما اشترته الدولة. فيوماً قيل إن القرار غير مكتمل، ومرة أخرى إن الموازنة المرصودة غير كافية. وأخيراً صدر مرسوم نقل الاعتماد المخصص لزيت الزيتون في منتصف تموز الماضي. لكن المفاجأة أن طريقة الدفع جاءت على طريقة الحوالات. وهي علاوة على مرورها في قنوات مصرفية دولية، وعلاوة على التأخر الطويل في السداد، تصعّب على المزارع البسيط إجراءات الحصول على حقه، وكأن هناك تأثيراً للتجار الذين «ضاقت في عيونهم أن يشتري الجيش اللبناني من المزارع مباشرة».

وعن الغش في صناعة الزيت، يرى عيناتي أن ثمة فنوناً للاحتيال ذكية وقديمة جداً تعود إلى القرن الثاني عشر، اشتهر بها التجار الإسبان عندما كان رجال الدين يشترون منهم زيت الزيتون لإضاءة الكنائس، ثم ما عرف بمتلازمة الزيت السامة toxic oil syndrome التي أودت بحياة 800 شخص في مدريد وبتسمّم 25 ألفاً في عاصمة إسبانيا وجوارها. وعلى المنوال نفسه، يعمد بعض ضعاف النفوس في لبنان الى استيراد زيوت مكرّرة، يضيفون إليها مواد كيميائية ملوّنة، فتصبح على قدر من الخطورة وتباع إلى قسم كبير من المطاعم.

وفي عكار أزمة تصريف

إذا كانت الكورة مشهورة بإنتاج ما يقارب ثلث الزيتون اللبناني، فإن عكار أيضاً عرفت زراعة الزيتون منذ القدم. تشهد على ذلك الأحواض والمجاري المحفورة في الصخور في أعالي جبل أكروم، والتي كانت مخصصة للطرق التقليدية في استخراج الزيت. أبناء أكروم عادوا بكثافة إلى زراعة الزيتون في العقدين الأخيرين، فيما احتفظت برقايل وبقرزلا بزراعة الزيتون وبإنتاج أنواع الزيت الممتاز الذي يماثل الزيت الكوراني. ويعزو موريس توما الذي ينتج مع أخيه زهاء خمسمئة تنكة زيت سنوياً، جودة الزيت في بقرزلا إلى نوعية التربة وإلى الخبرة المتوارثة في اختيار أنواع الأشجار وفي معالجتها وتسميدها. ولكن يشكو المزارعون أيضاً سوء التصريف، وارتفاع كلفة الإنتاج، علماً بأن التعاونية الزراعية في بقرزلا، يقول توما، رفعت قائمة بالزيت المنتج في البلدة إلى وزارة الزراعة، على أمل تصريفه.

....

...

في الهرمل: «بكر ممتاز»



يزخر قضاء الهرمل ببساتين الزيتون الدائمة الخضرة. لكن هذه المساحات «المقدّسة» بالنسبة إلى الأهالي تعاني، إلى انعدام الأسواق التصريفية، من مشكلة عدم الترويج لها رغم جودتها المشهود لها

رامح حمية

يؤمن حسن أمهز بعطاء شجرة زيتون الهرمل، وجودة إنتاجها. لا يقتصر إيمان ابن الهرمل على قدسية تتحصّن بها تلك الشجرة، بل على ثقة «بقدرة فريدة على إنتاج مذاق رفيع، سواء في الزيتون أو الزيت، يضاهي سائر الأنواع الموجودة في المناطق اللبنانية وحتى الدول المجاورة»، كما يؤكد. منذ ثمانية عشر عاماً أقدم أمهز على غرس ما يقارب 300 من شتول الزيتون، وذلك بعد سنوات من تدقيقه وتفتيشه عن زراعات تتناسب مع تربة الهرمل وطبيعتها المناخية، وترضي طموحه في الحصول على «منتج عضوي فاخر بعيد كلياً عن كل الملوّثات الكيماوية، ويمكن من خلاله أن أمنح زيتون الهرمل الشهرة التي يفتقر إليها» يقول.

«بكر ممتاز» هي العبارة التي تتصدّر نتائج الاختبارات على غالبية إنتاج زيتون بساتين قرى الهرمل، وبشهادة اختصاصيين فرنسيين وإيطاليين ووزارة الزراعة اللبنانية. هكذا يشاطر نمر المقهور، أمين سر الجمعية التعاونية الزراعية في الهرمل، أمهز في رأيه عن النوعية الفاخرة لزيتون المنطقة، لافتاً إلى «الدور الإعلامي الذي ينبغي أن تلعبه وزارة الزراعة من خلال لفت النظر إلى نوعية الزيتون في المنطقة. فهو «خضير بكر»، يتمتع بمواصفات عالية وبنسبة حموضة لا تتعدى 1%، إضافة إلى خلوّه من الأمراض». يبرّر المقهور كلامه هذا بأن «الثقة بنوعية زيتون الهرمل تكاد تقتصر على أبناء القضاء، وبعض القرى المجاورة».

لكن ما سبب عدم توافر هذه الشهرة التي قد تساعد في معالجة مشكلة التصريف التي يواجهها المزارعون هناك؟ سؤال سرعان ما تجد الإجابة عنه لدى مزارعي الزيتون في الهرمل، الذين يجمعون على أن أشجار الزيتون حديثة العهد في قرى القضاء، ولا يتجاوز عمر أقدم بساتينها أربعة عقود. ويؤكد المقهور أن أول بستان زيتون زرع في الهرمل كان في عام 1974، في الوقت الذي بدأت فيه هذه الزراعة تشهد ازدهاراً ورواجاً كبيرين منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بعدما «أيقن المزارعون والتعاونيات الزراعية أن تربة قرى قضاء الهرمل ومناخها، وارتفاع بعضها عن سطح البحر ما بين 600 و900 متر، يناسب زراعة أشجار الزيتون، فضلاً عن الانتكاسات المتتالية في السنوات الأخيرة في الزراعات التقليدية وتحكّم التجار في المزارعين، وهو الأمر الذي لا يمكن حصوله في إنتاج الزيتون حيث يمكن تخزين الزيت لأكثر من سنة وبيعه». بساتين الزيتون المترامية ضمن مساحات الهرمل الشاسعة، تظهر كواحات خضراء تزيّن جاراتها الجرداء والقاحلة. في الشربين وسهل الهرمل وسهل القاع والكواخ والقصر، ثمة ما يقارب 130 ألف شجرة زيتون، وجميعها من أنواع مختلفة، منها ما هو خاص بالأكل دون الزيت (كأشجار البلدي أبو شوكة»، والكلاماتو المهجّن، والسوري الإدلبي والصوراني والفاروقي والنيبالي)، في حين تنحصر جودة زيت الزيتون في «الطلياني» الذي أظهرت نتائج مختبرات فرنسية وإيطالية، وحتى المكتب الزراعي في وزارة الزراعة اللبنانية، «جودة هذه النوعية وبنسبة البروكسايد المتدنية جداً مقارنة مع أنواع الزيتون في بقية المناطق اللبنانية ودول الجوار في فلسطين والأردن وسوريا».

رغم ذلك، يواجه مزارعو الهرمل مشكلة عدم وجود أسواق محلية أو خارجية لتصريف إنتاجهم، خصوصاً مع ارتفاع الإنتاجية بشكل تصاعدي مع كل موسم. فقد تبيّن وفق إحصائيات الجمعية التعاونية الزراعية في الهرمل أن بساتين الهرمل أنتجت العام الماضي ما يقارب 4000 طن من الزيتون، وحوالى 2500 طن من زيت الزيتون على مستوى معاصر الهرمل الثلاث. ويشير المقهور إلى أنه «بنتيجة الضغط ورفع الصوت، أقدم وزير الزراعة حسين الحاج حسن بالتنسيق مع الهيئة العليا للإغاثة على شراء 1200 تنكة زيت زيتون من إنتاج الهرمل لهذا العام»، مشدداً على أن ذلك غير كاف لتصريف ما يقارب 2500 طن، وهي الكمية المتبقية.

موسم قطاف الزيتون انطلق في الهرمل على أن يستمر حتى نهاية الشهر الجاري، في حين يبقى أمل المزارعين هناك بأن تسعى الحكومة إلى شراء الموسم أو توفير أسواق خارجية، «حتى لا تتكدس مواسمنا كما إنتاجية الأعوام الماضية» يقول المزارع محمد دندش ابن الهرمل، الذي يرى أن على الحكومة أن تمارس دورها في حماية المزارعين من خلال خطوات جدية، منها دعم المزارعين، ووقف استيراد الزيوت من الخارج وبيعها على أنها بلدية». ليس بعيداً عن الهرمل، ثمة بساتين لمواطنين لبنانيين ضمن الأراضي السورية في قرى حوض العاصي، بات أبناؤها يحملون إنتاجهم لعصره في الهرمل، بعدما سدّت سبل عصره في طرطوس.

جفت الزيتون حطب الفقراء

في محاولة من معاصر الزيتون في الهرمل للحدّ من أيّ تلوّث بيئي قد ينتج من «جفت» الزيتون، عمدت غالبيتها إلى تصنيع جفت الزيتون «كحطب صالح لاستعماله في التدفئة»، بحسب ما يؤكد نمر المقهور أمين سر الجمعية التعاونية الزراعية في الهرمل. ويشير إلى استقدام آلة حديثة من تركيا لتصنيع قطع الجفت ومن ثم لفّها في أوراق وتوضيبها داخل أكياس من النايلون، وبيعها بأسعار لا تتعدى مئة دولار للطن الواحد.

بعض العائلات المحدودة الدخل باتت تعتمد على حطب جفت الزيتون بعد الارتفاع الكبير الذي لحق بأنواع الحطب الأخرى، إذ وصل سعر طن حطب السنديان إلى 375 ألفاً، وحطب اللوز إلى 300 ألف، في حين بلغ سعر حطب «البلاول» وقطع خشب البناء إلى 350 ألفاً لحمولة البيك _ آب.

....

...

في الجنوب: غزارة إنتاج وضعف تصريف



داني الأمين

دفعة واحدة، بدأ الأهالي والمزارعون في بنت جبيل ومرجعيون قطف أشجار الزيتون المنتشرة في حقولهم. الموسم هذا العام يبشّر بالخير، لا شكاوى حقيقية من الموسم على غير العادة، ومعظم أشجار الزيتون تحمل حبّاتها بكثافة. «يأتي هذا الموسم في وقت الحاجة إليه، لا سيما في هذا العام الذي تضاءلت فيه فرص العمل ومصادر الرزق»، يقول المزارع فادي حيدر، من بلدة عيترون. وهذا ما يفسّر تهافت العائلات على قطف أشجارهم بأنفسهم، والاستغناء قدر المستطاع عن العمال. فالأوضاع الاقتصادية سيئة جداً، و«على الجميع أن يبذلوا جهوداً مضاعفة لقطف أشجار الزيتون من دون الاستعانة بالعمال، للحصول على أكبر قدر من الإنتاج وتغطية مصاريف الأيام العجاف».

هذا ما يفسّر خروج أرباب العائلات مع نسائهم إلى الحقول، بعدما توقفوا عن ممارسة أعمالهم المعتادة، «حتى إن عدداً كبيراً من الأهالي علّقوا دراسة أولادهم لإعانتهم في قطاف الزيتون بدلاً من العمال» بحسب أحمد قشمر من بلدة العديسة. يتوجه قشمر في الصباح الباكر مع زوجته وأولاده الى حقله البعيد في بلدة يحمر في النبطية، لقطف أكثر من 50 شجرة زيتون. لم يستعن بالعمّال، لأن الأمر «يكلّف نصف الموسم» الذي يبدو جيداً جداً هذا العام، «لكننا لا نعلم إن كنا سننتج زيتاً كثيراً، فالسماء لم تمطر بعد عكس السنوات الماضية». يجزم محمد خلف بأن «كمية الزيت ستكون أقل من العام الماضي» بدليل أن «أربعين مدّاً من الزيتون أنتجت لنا 4 تنكات زيت فقط، رغم أن الكمية نفسها في العام الماضي أنتجت 10 تنكات».

خلف يلفت إلى عدم إمكان الاستغناء عن العمّال في القطاف، «لأن عدد المزارعين في القرى تراجع كثيراً بسبب الهجرة، ومعظم أصحاب البساتين هم من المغتربين الذين لا بديل لهم من استئجار الأيدي العاملة المكلفة». هؤلاء يحصلون على نصف الموسم، كما يطالب أصحاب المعاصر بحوالى 10% من الإنتاج.

هذا الأمر يشجع الكثيرين على العمل في القطاف، تراهم يتنقلون من بلدة إلى أخرى للاستفادة من فرصة عمل موسمية توفر لهم مؤونتهم من الزيت والزيتون عدا عن أجرهم. محمد أيوب، ابن حولا، يعمل اليوم في شقرا المجاورة مع زوجته وأولاده. يقول «نتقاسم الموسم بيننا وبين أصحاب البساتين ما يحقق لنا فائدة مالية كبيرة إذا استطعنا بيع إنتاجنا من الزيت». لكن المشكلة هذه الأيام، عند محمد وغيره، تكمن في أن «الموسم لا يمكن تصريفه كاملاً، ونضطرّ إلى حفظ الزيت لسنتين أو أكثر، ما يؤدي إلى انخفاض سعره». لذلك يفضّل معظم عمال الزيتون تحصيل أجرهم نقداً، وهذا أمر صعب، لأن أصحاب البساتين لا يستطيعون تصريف الزيت أيضاً ويفضّلون تقاسم الإنتاج مع العمال. مشكلة عدم التصريف تهدّد بتدنّي سعر تنكة الزيت الذي لا يقلّ اليوم عن 120 دولاراً أميركياً. ويشير بعض المزارعين الى أن عدداً كبيراً منهم لا يزال يحتفظ بكميات كبيرة من الزيت من الموسم الماضي. ويؤكدون أن قيادة الجيش تعمد الى شراء أطنان من الزيت المخزّن، ولكن بأسعار متدنية جداً نسبة إلى سعره المتداول بين الأهالي. وقد عمدت في العام الماضي إلى فحص جودة الزيت ليتبين أن معظم الزيت متدني المواصفات نظراً إلى عدم وجود ثقافة علمية عند المزارعين تتعلّق بكيفية تخزينه. ويلفت محمد يعقوب إلى أن «زيت الزيتون يحتاج إلى عناية مركّزة، فهو يجب أن يوضع في غالونات معتمة من غير البلاستك المعروف، لأنه يتأثر بسرعة بالهواء والضوء والحرارة ونوعية الوعاء وهذا أمر مكلف ودقيق وصعب».

الملاحظة الثانية التي يحرص المزارعون على الإشارة إليها هي جفاف الأشجار، بدليل تساقط حبّات الزيتون أرضاً، بسبب العطش. يعيد قشمر السبب إلى أن «الأشجار لا تُروى خلال الصيف، ويعتمد المزارعون على سقوط الأمطار في شهري أيلول وتشرين، وهذا ما لم يحصل هذه السنة، لذلك قرّر جميع أصحاب أشجار الزيتون الاستعجال في قطف أشجارهم قبل أن تتساقط حبّاتها».

وبحسب سامي رمال «لا يعود جفاف أشجار الزيتون والعنب و«الصحاري» إلى تغيّر المناخ فحسب، بل إلى عدم الاهتمام بالأراضي الزراعية التي كانت تعتمد سابقاً على الأسمدة الطبيعية، وهي إلى انقراض». ويشير إلى أن «العناية بأشجار الزيتون تحتاج الى ثقافة وخبرة وتدريب علمي، وهذا غير متوافر، لا سيما أثناء قطف الزيتون. فضرب الأغصان بالعصيّ، أو تشحيل الأشجار بطريقة غير مدروسة، يؤديان إلى تدنّي الإنتاج في الموسم التالي، لذلك فالشجرة التي تنتج كثيراً هذا العام يتدنى إنتاجها في العام المقبل».

تجدر الإشارة إلى أن موسم قطاف الزيتون هذا العام وفّر فرص عمل لمعظم النازحين قسراً من سوريا، الذين هم من أصل لبناني أو سوري. هؤلاء الذين يزداد عددهم يوماً بعد يوم في القرى والبلدات الحدودية يعانون من قلّة فرص العمل، وقد وجدوا في قطاف الزيتون فرصة مؤقتة للإنتاج، كما يؤكد محمد الصفدي، المقيم في بلدة الطيبة (مرجعيون). وهو، بحسب قوله، «واحد من عشرات اللبنانيين الذين كانوا يقيمون في سوريا وعادوا في الأشهر الماضية إلى بلداتهم بسبب الأوضاع الأمنية، لكنهم يعانون من الإفلاس وقلّة العمل، لذلك نبحث عن أي فرصة عمل ممكنة، من بينها قطاف الزيتون». وتتراوح أجرة العامل اليومية في قطاف الزيتون بين 25 و30 دولاراً يومياً، لذلك يفضّل المزارعون تقاسم الغلّة مع العمّال.

...

...

بعد العصر: زيت و«مش زيت»



70% من إنتاج الزيتون يتحوّل زيتاً وتبقى 30% للمائدة (الأخبار)

بين زيت الزيتون والنوعية... معصرة. هذه الخلاصة جزء أساس من الدرب الطويل الذي سيخرج بعده الزيتون زيتاً بكراً ممتازاً. لكنّ ثمة أجزاءً أخرى تؤثر، مثل كمية الزيتون ونوعيته وطريقة التخزين ومدة الانتظار في المعصرة

راجانا حمية

عندما نسأل إحدى العاملات في وزارة الزراعة عن «مستوى» زيت الزيتون اللبناني، تقول بالحرف الواحد: «زيتنا is the best» (الأفضل). هذا في المنطق اللبناني الصرف. وإن كان يمكن الاعتراف بالنوعية الجيدة للزيت اللبناني، حسب ما يقول العارفون بأحواله، إلا أنه ليس الأفضل دائماً. فالمنطق اللبناني يبتعد بعض الشيء عن المنطق العلمي الذي يرافق الزيتون «في دربه الطويل من الشجرة إلى نوعية القطاف وزمن الانتظار في المعصرة إلى آخر عصرة ترشح»، يقول الدكتور رامي زريق. هذا الدرب هو الذي يحدّد «مكانة» الزيت، ما بين زيت بكر ممتاز أو جيد أو سيّئ أو... أسوأ.

لكن، مع هذا الدرب، ثمة رابط قوي بين نوعية الزيت ونظافة المعصرة. وهذا الرابط شكّل قبل سنوات عنوان مشروع مركز دراسات الزراعات العليا المتوسطية عن زيت الزيتون اللبناني. يومها، كان السؤال عن العلاقة بين «النوعيتين»: الزيت وتقنيات المعصرة. وجاء الجواب «الزيت يتأثر أيضاً بطريقة عصره». وحسب ما يقول زريق، هناك «تأثير كبير لتقنية عصر الزيتون على نوعيته، تقاس بالفارق بين العصرة على مراحل وعصرة الدفعة الواحدة». ففي لبنان، ثمة الكثير من معاصر «العصر على دفعات»، والتي تقدّر بحوالى 82%. أي حوالى 435 معصرة من أصل 544، تعتمد العصر التقليدي _ المكبس. وهذه الطريقة تتطلب «منا أن نتعامل مع المعصور والمجروش والمكبوس، أي أن نعمل مرحلة بمرحلة ننقل خلالها عجينة الزيتون من مكانٍ إلى آخر». وهنا، قد تتأثر النوعية «وفي أغلب الأحيان سلباً». فالزيتون كالقلب. دقيق وحساس. لا يمكن التعاطي مع «عصيره على أساس أنه أيّ سلعة أخرى»، يضيف زريق.

أما بقية الـ82%، فمقسومة بين المعاصر «الأوتوماتيكية الحديثة» و«نصف الأوتوماتيكية». الأولى، وهي طريقة «العصرة الواحدة، فتشكّل 3% فقط من مجمل المعاصر، فيما تبلغ نسبة الثانية 15%. على أساس هذه القسمة، التي يتغلّب فيها التقليدي، لا يمكن القول إن «زيتنا هو الأفضل، فإمكان الفساد أكبر في المعاصر التقليدية». أما كيف الأحوال في الإجمال؟ يقول زريق «أحوال الزيت اللبناني متقلّبة ومتغيّرة، إذ لا نستطيع القول إنه جيد أو عاطل». والمقياس هنا «مدى النظافة في آخر الطريق»... من دون أن ننسف أهمية «أول الطريق التي يفترض أن تكون خلالها الحبة محمية في القطف وفي التخزين ومدة الانتظار أيضاً».

هذا في المنطق العلمي. أما في المنطق اللبناني، فالأمور تسير على ما يفعله مزارعو الزيتون الذين يعصرون زيتهم ويشترون زيتاً آخر. وهنا، تكون العودة دائماً إلى «طريقة العصر». هذا هو الفارق إذاً. ثمة فوارق أخرى مصاحبة للنوعية. ففي التقليدي، تكون كمية المادة المترسبة في الزيت أعلى من طريقة العصر الحديثة. وأكثر من ذلك، فإن «المياه العادمة» التي تخرج من المعاصر الحديثة «تكون نسبة تركيزها بالمواد الملوثة أقل من مياه التقليدية». ولكن، هناك ما هو أكثر أهمية، وهو أن «كل 100 كيلوغرام من الزيتون تنتج ما بين 50 و80 ليتراً من الزيت في المعاصر الحديثة، بزيادة تبلغ حوالى 20% عن التقليدية». هذه نقطة قوةٍ أخرى، بحسب زريق. مع ذلك، يتحدث عن إمكان الحصول على نوعية جيدة مع التقليدي «فيما لو تم تحسين سبل الإنتاج، وهو شرط لا يفرّق بين مزارع وصاحب معصرة». لكن، ثمة مسؤولية تلقى على عاتق الأخير، «وهي مسؤولية النظافة في العصر».

في عودة إلى المعاصر الموجودة في لبنان، لا بد من الإشارة إلى أن 21% من تلك المعاصر مسجّلة رسمياً على المستوى الوطني، مقابل 46% ذات تسجيل محلي، وهو الجانب المتعلق بالرخصة الرسمية لإنشائها. أما البقية، فـ«متحرّرة» من الوطني ومن المحلي! وهنا، لا رخصة إنشاء ولا رخصة عمل، إذا كان لا بد من الالتزام بنظام التسجيل الذي تضعه وزارة الصناعة، والذي يحتّم على صاحب المعصرة الحصول على رخصتين، واحدة للإنشاء وأخرى للعمل.

أما حصّة المناطق من هذه المعاصر، فيستحوذ الشمال على النصف 50%، مقابل 21% في جبل لبنان و14.5% في الجنوب و12% في النبطية و2.5% في البقاع. وتعمل هذه المعاصر على عصر 70% من إنتاج الزيتون اللبناني، فيما 30% تبقى «زيتوناً للمائدة».

ثمة سؤال أخير، لا علاقة له بالنوعية ولا بالكمية: هل تعرفون ما هي كمية استهلاك اللبناني لزيته؟ الجواب مصيبة أخرى، وهو أن اللبناني «أقل مستهلك لزيت الزيتون، حيث لا تتعدى نسبة استهلاكه السنوي الـ2,5 كيلوغرام، مقابل اليوناني مثلاً الذي يستهلك 20 كلغ».

....

...


عقد ضاهر اتفاقاً مع صاحب جرافة «ما فوق التراب لي وما تحته لك» (الأخبار)
عقد ضاهر اتفاقاً مع صاحب جرافة «ما فوق التراب لي وما تحته لك» (الأخبار)



تعليقات: