استثمار جديد للمغتربين جوامع... لا تجمع

9 مساجد في مجدل سلم و8 في شقرا و8 في بنت جبيل (أرشيف)
9 مساجد في مجدل سلم و8 في شقرا و8 في بنت جبيل (أرشيف)


هل هي فورة في بناء المساجد، تشهدها قرى الجنوب؟ قد يكون الكلام مبالغاً فيه، إلا أن الأمر يكاد يتحوّل إلى ظاهرة. ففي وقت تتضاءل فيه فرص العمل جنوباً، تبدو الحركة نشطة على صعيد أعمال البناء، ولا سيما الجوامع التي يحرص المغتربون اللبنانيون على إنشائها بهدف إرضاء الله، حتى لو كلّفهم الأمر ملايين الدولارات

في الماضي القريب، كانت الصورة المتناقلة عن أي قرية جنوبية محدودة. مزارعو تبغ مع عائلاتهم، فلاحون، نساء متحلقات حول «خلقينة» الهريسة، و... جامع يصلي فيه أبناء الضيعة، بجميع حاراتها. لكن هذا كان في الماضي، قبل أن «تتمدّن» القرى، وتكبر الأحزاب ويبدأ المغتربون بالعودة حاملين أموالهم ومشاريعهم التي يرغبون بتحقيقها في وطنهم.

أبرز هذه المشاريع بناء القصور وشراء الأراضي، التي زاد الطلب عليها كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بنحو جنوني لا يتناسب مع أوضاع الفقراء ومتوسطي الدخل. «حتى الأراضي النائية باتت حكراً على الأغنياء، الذين يشترونها بأسعار مرتفعة، ويتركونها خالية ويحرمون الفقراء زراعتها» يقول خليل قوصان (فرون).

لا أفكار يحملها المغتربون من أجل استثمار أموالهم في بناء معامل أو مصانع أو مؤسسات تخلق فرص عمل في المنطقة وتسهم في تحريك العجلة الاقتصادية، في منطقة تتقلّص فيها فرص العمل. فباستثناء المدارس الرسمية والخاصة، وبعض دوائر الدولة الرسمية، لا مؤسسات في بنت جبيل ومرجعيون لاستيعاب العاطلين من العمل من أصحاب الإجازات التعليمية والكفاءة المهنية، وحتى الأجراء. لا أثر لمؤسسات تعود إلى القطاع الخاص، ولا للمصانع والمعامل وغيرها. وحدها ورش البناء المتنقلة تستوعب ما تيسّر من الأُجَراء السوريي الجنسية، وبعض المهنيين اللبنانيين من أصحاب الخبرات. واللافت أن الكثير من ورش البناء اليوم يقوم على بناء المساجد. «رجال الأعمال من المغتربين، وبعض الأغنياء المقيمين هنا، لا يقومون بأي مشروع إنتاجي أو خيري سوى بناء المساجد والنوادي الحسينية التي تخلّد ذكراهم، بل يتنافسون على مثل هذه الأعمال في ما بينهم»، يقول علي شرّي (خربة سلم)، الذي أشار إلى «وجود عدد كبير من المساجد التي لا حاجة إليها أصلاً، بنيت على نفقة الأغنياء، حتى بات في كل قرية أو بلدة أكثر من 7 مساجد، وهو أمر لا يسهم إلاّ في تفرقة أبناء البلدة، الذين كانوا يجتمعون في مسجد واحد». ويحصي شرّي «تسعة مساجد في بلدة مجل سلم، وثمانية في شقرا، وأربعة في خربة سلم وثمانية في بنت جبيل، وغيرها الكثير، وهي متقاربة في ما بينها».

هي إذاً مساجد «تفرّق ولا تجمع»، بحسب ما يقول العديد من أبناء المنطقة. يقارنون بين الوضع اليوم، وما كان عليه «أيام ما كان الجامع يجمع كل أبناء حارات الضيعة، ولا يفرّق بين الأسر والأحياء السكنية». يفترض أن هذه المساجد تشيّد لكي تستقبل مصلّين ومتعبدين إلى الله. وفي ظل الظروف الحالية، يمكن القول إنها يجب أن تمتلئ، بما أن غالبية الشبان عاطلين من العمل، والفرص ضئيلة. هذه أبواب الهجرة باتت تقفل، و«الواسطة» شرط للدخول إلى سلك وظيفي نادر، أو الحصول على عقد لعدد من ساعات التعليم الرسمي.

في المقابل، يتداول الأهالي باستغراب خبراً عن «البدء في بناء مسجد كبير في بلدة جويا، على نفقة أحد الأغنياء، تزيد كلفة بنائه على 15 مليون دولار»، ما يجعل الكثيرين ينتقدون هذا «العمل الخيري»؛ لأن «ما يحتاجه أبناء المنطقة هو الخدمات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة».

يتساءل مهدي قازان (الطيبة) عن الجدوى من بناء هذا المسجد مقارنة بأعمال أخرى كثيرة أكثر فائدة لأبناء المنطقة. ويقول: «15 مليون دولار أميركي كفيلة ببناء أكثر من 50 مبنى سكنياً يوفّر السكن لأكثر من خمسين عائلة من الكثيرين الذين لا يملكون المنازل». ويذكّر بأن «عدداً من أغنياء بلدة جويا بنوا سابقاً المساكن وقدموها لأبناء قراهم، من دون أي بدل مالي، وهذه سابقة يبدو أنها لم تتكرّر، إلا في شقرا التي لجأ فيها أحد المغتربين أخيراً الى بناء مبنيين سكنيين للمحتاجين من أبناء بلدته، رغم أن عدداً كبيراً من الأغنياء قرّروا بناء المساجد بدلاً من ذلك».

يذكر أن حزب الله حاول إقناع المتموّل الذي بدأ ببناء المسجد الكبير في جويا، بإنجاز مشروع خيري بديل من البناء في المنطقة، لكن المتموّل أصرّ على عمله. وفي بلدة الطيبة (مرجعيون) عمد أحد أغنياء البلدة إلى هدم النادي الحسيني الرئيسي في وسط البلدة، بعدما حصل على موافقة من المجلس الشيعي الأعلى، لبناء نادٍ حسيني آخر أكبر حجماً، رغم المحاولات الحثيثة لإقناعه بترك المبنى وبناء آخر في مكان آخر. فالبناء، بحسب أبناء البلدة، «كان صالحاً ويكفي حاجة المقيمين القليلين، وكان من الممكن أن يستغلّ المال لإقامة مشاريع خيرية أكثر فائدة للأهالي».

ويؤكد قازان «عدم وجود أي معمل أو مصنع في المنطقة، رغم إمكانية نجاح مشاريع كثيرة، ولا سيما الزراعية، ما كان يسهم في تحسين الإنتاج الزراعي وزيادة فرص العمل، لكن أحداً لم يساعد على ذلك، وكل المحاولات التي يقوم بها اتحاد بلديات جبل عامل وغيره هي تصبّ في التدريب المهني، وليس في خلق فرص عمل جديدة عبر تشجيع المستثمرين والأغنياء لإقامة المشاريع الإنتاجية في المنطقة». ويشكك عدد من الأهالي في «رغبة السياسيين وأصحاب النفوذ في السلطة في تشجيع الأغنياء على الاستثمار؛ لأن ذلك قد يسهم سلباً في تراجع الحاجة إليهم»، بينما تذهب مسؤولة الشؤون الاجتماعية في بنت جبيل ندى بزي إلى أن «بعض المحاولات لتشجيع الاستثمار باءت بالفشل، وسبب ذلك الخوف من عدم القدرة على إدارة هذه المشاريع أو استغلالها لتحقيق مصالح خاصة». وتشير إلى أن «دراسات سابقة أشرف عليها المركز أكدت زيادة نسبة التسرّب المدرسي وعمالة الأطفال بنحو لافت، ما يفسّر حاجة أبناء المنطقة إلى العمل والإنتاج في ظلّ اختفاء المشاريع الإنتاجية والاقتصادية».

تعليقات: