الانتخـابـات إلـى.. المجهـول!

 أعضاء في اللجنة يستمعون إلى غانم «قبل العاصفة» (مصطفى جمال الدين)
أعضاء في اللجنة يستمعون إلى غانم «قبل العاصفة» (مصطفى جمال الدين)


لم يكن السجال الذي شاهده اللبنانيون مساء أمس، ومباشرة على الهواء، بين عدد من أعضاء «لجنة التواصل النيابي» المعنية بمناقشة قانون الانتخاب، سوى صورة مصغرة عن حال البلد كله، على مسافة اشهر قليلة من الموعد الافتراضي للانتخابات النيابية.

ولعل لحظة الاشتباك العلني بين «المستقبل» و«التيار الوطني الحر»، عبر الشاشة، كانت الأصدق تعبيراً عن مسار عمل اللجنة وحسابات أعضائها، على مدى 16 جلسة من النقاش البيزنطي الذي كان مفخخاً منذ بدايته بالنيات المضمرة، وموصولاً بساعة تفجير.

اتهامات بالتكاذب والتعطيل والتشويه والتضليل تبادلها بعض أعضاء اللجنة، بصوت عالٍ، في انعكاس لأزمة الثقة المستفحلة بين مكونات الاكثرية والمعارضة، وسط تضارب حاد في المصالح الانتخابية التي يبدو انها لا تحتمل حتى الآن القسمة على ثنائية.. الاكثري والنسبي.

في الاساس، كانت مهمة اللجنة تقطيع الوقت.. قبل أن يقطعها. مشاريع وأفكار بالجملة طُرحت على بساط البحث، في انتظار بساط الريح. كانت اللجنة تملأ «الفراغ» بالمناورات والمزايدات والمناقصات، الى حين أن يأتي الحل المنتظر على ظهر.. أرنب.

حتى الآن، بدت الساحة مشرّعة أمام الثعالب فقط، اما أرانب الرئيس نبيه بري فلم تتحرك بعد، وإن يكن الكثيرون يراهنون على ان يخرج أحدها من عين التينة في ربع الساعة الأخير.

ولكن الهامش الزمني يضيق، و«حبل» المهل الدستورية يكاد يلتف حول عنق مساعي التوافق، والمشكلة أنها، ولغاية اليوم، لم يصرخ أي من الأطراف أولاً، في معركة عض الأصابع. أما صراخ الناس الذين أنهكتهم الضغوط الاقتصادية والمعيشية، فليس مسموعاً وسط صخب المشاريع الانتخابية.

لا همّ إذا كانت الاسواق التجارية راكدة، والاسعار مرتفعة، ومعدلات النمو منخفضة، والكهرباء مقطوعة، والموظفون والمعلمون في الشارع، وسلسلة الرتب والرواتب في المجهول.. هذا كله يصبح مجرد تفصيل في حضرة النقاش المفتوح حول تقسيم الدوائر ما بين كبرى وصغرى، علماً ان هناك حقيقة ثابتة وحيدة وهي ان المواطنين باتوا يشكلون جميعاً، من الارثوذكسي الى مكتوم القيد، «دائرة واحدة».. من المعاناة.

وإذا كان اهل الحل والربط سيحاولون إيجاد طريقة ما لاستنساخ أمل جديد بعد خيبة أمس، فان الظاهر، حتى الآن، هو ان الانتخابات النيابية تواجه خطرا حقيقيا، إذا بقيت المعطيات الراهنة على حالها:

ـ مشروع الحكومة المستند الى النسبية مرفوض من المعارضة.

ـ مشروع الخمسين دائرة الأكثري الذي قدمته «14 آذار» مرفوض من الموالاة.

ـ قانون الستين مرفوض من معظم «8 و14 آذار».

ـ مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» مرفوض من شرائح داخلية اساسية، وإن حصل على أكثرية نيابية.. حسابياً.

ـ اقتراح بري القائم على التزاوج بين النظامين النسبي والاكثري، جرى تحويله من حلّ الى مشكلة.

انه مأزق «الفيتوات» المتبادلة واللاءات المتصلبة، والذي يظلله توازن القوى الداخلي، إلا إذا تقرر في اللحظة الأخيرة تغيير «قواعد الاشتباك»، واللجوء الى خيار التصويت في الهيئة العامة لمجلس النواب، لترجيح كفة مشروع على آخر، مع ما يعنيه ذلك من مواجهة مع «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، بما يرمز اليه كل منهما في طائفته، وعلى مستوى التوازنات اللبنانية.

ومغامرة «النصف + واحد» تغدو أكثر حساسية عند الأخذ بالاعتبار موقف كل من الرئيس ميشال سليمان والرئيس نجيب ميقاتي العائد من السعودية، والذي سيكون شديد الحذر في مقاربة كل ما يتصل بموقع الطائفة السنية ودورها.

في العادة، كانت قوانين الانتخاب في لبنان، تأتي تتويجاً إما لتوافق خارجي هو القاعدة، (تجربتا 2005 و2009 نموذجاً) وإما لتوافق داخلي هو الاستثناء منذ الاستقلال. هذه المرة، يفتقر الاستحقاق الانتخابي الى الرعاية الاقليمية والدولية والى الحضانة الداخلية على حد سواء. تُرك اللبنانيون يتدبرون أمرهم، وحدهم، بالاتكال على قدراتهم الذاتية. يبدو الأمر حتى هذه اللحظة أشبه بطفل اعتاد على ان يحبو، ثم وجد نفسه مضطراً الى السير على قدميه، من دون مساعدة. كلما حاول ان يمشي يتعثر.

بهذا المعنى، فان أخطر ما في تجربة «الحكم الذاتي» التي يخوضها اللبنانيون انتخابياً للمرة الاولى منذ عقود طويلة،على هامش انشغال العالم بالوضع السوري، هو ان تداعيات إخفاقها ستتجاوز حدود قانون الانتخاب، لتطال مفهوم السيادة والاستقلال في جوهره، إذ ان الفشل في التوافق على هذا القانون سيثبت عدم أهلية الدولة، بمواليها ومعارضيها، لإدارة الشؤون الداخلية والوطنية، وبالتالي حاجتها الى وصاية مستمرة من الخارج.

أغلب الظن، ان معظم السياسيين لا يجرؤون على المجاهرة بضرورة إرجاء الانتخابات، تجنباً لكلفة هذا الموقف وما يمكن ان يرتبه من تأويلات، ولكن في نهاية المطاف ربما يكون التواطؤ الضمني على تأجيلها هو البديل عن تعذر التفاهم العلني على إجرائها وفق قانون توافقي.

بطبيعة الحال، لا يبدو أي فريق مستعداً للذهاب الى انتخابات تمنح خصمه الأكثرية او حتى الأفضلية، وبالتالي فان الجميع قد يجدون مصلحة في التأجيل، ما دام لم يتم بعد اختراع قانون «الباب الدوار» الذي يوحي لكل طرف انه قادر على الخروج من صناديق الاقتراع.. رابحاً.

في المحصلة.. باتت الانتخابات النيابية، وفقا لمعايير اللحظة الراهنة، في مهب المجهول، إلا إذا كان المطلوب ان تشتد الأزمة حتى يصبح تقديم التنازلات مبرراً ومبللاً بـ«ماء الوجه».. وعندها تنفرج.

تعليقات: