\"وُلدتُ شيخاً, وأم"/>

بعض ما جاء في كتاب غرنيكا الخيام

الكاتب الدكتور يوسف غزاوي أمام جدارية الزنزانة - ملتقى الخيام 2001
الكاتب الدكتور يوسف غزاوي أمام جدارية الزنزانة - ملتقى الخيام 2001


نزق الطفولة

"عندما لم نعد أطفالاً نُصبح موتى"

برانكوزي


"وُلدتُ شيخاً, وأموت طفلاً"

حسين مروّة


في تلك البلدة ُولدتُ ونشأتُ وترعرعتُ. أسمياني والداي يوسفاً تيمناً بالنبي "يوسف" (عليه السلام) بعد أن فتحوا القرآن المجيد, فصُودف سورة "يوسف" التي حسمت الأمر باختيار هذا الإسم.

ولدتُ في أوّل شهر تشرين الثاني, في عيد جميع القدّيسين. لكني لستُ قدّيساً, بل فناناً يحمل رسالة أودعها الله داخله عبر موهبة الفنّ. فمن هذا المنظور نرى أنّ القداسة والفنّ صنوان لا يتباعدان أو يفترقان, بل يتعانقان. والفنّ عبادة استثنائية من نوع خاصّ, إن لم نقل أنّه أكثر قرباً إلى الخالق من القداسة أو أكبر منزلة منها لأنّه لا ينتمي إلى طائفة أو دين معيّن بل هو لكل الأديان والأزمان والأمكنة والناس. ثمّ أنّ الفنان يخلق من اللاشيء شيئاً. فالخالق هو من قال لشيء لم يكن "كن" فيكون. هذا ما يفعله الفنّان بوسيلة وبقدرة من الخالق تُدعى "موهبة". فالفنّان عند الشعوب المتحضّرة شيء استثنائيّ ومميّز وليس مخلوقاً خارجاً عن قانون المجتمعات المتخلفة والعادات والأفكار المنحوتة على صخر الوهم. حُكِيَ أنّ وزيراً فرنسياً زار الرئيس الفرنسيّ الأسبق "شارل ديغول" أحد الأيام مُعاتباً إيّاه على فعل معايدته للفنان "موريس شوفالييه" أثناء مرضه, في حين أنه لم يقم بهذا الشيء معه أثناء مرضه! أجابه الرئيس الفرنسيّ, بروحه وفكره العملاق المتألّق: "إنّ مرسوم تعيين الوزراء هو رئاسيّ, أما مرسوم تعيين الفنّانين فهو إلهيّ"... فليتّعظ القيّمون والمسؤولون في بلدنا, عن أمور السياسة والفنّ والثقافة والناس, من هؤلاء الكبار في فكرهم وتطلعهم...

قبل الغوص في أمور الفنّ والحياة لنقف على بدايات طفولتي وما بعد الطفولة في بعض مراحلها وفتراتها ومحطّاتها...

أعود الى ذكرياتي الطفوليّة على أرضها المعطاء. لقد عرفت طفولتي أريجها ومداها في هذه الأرض, وعليها صالت تلك الطفولة وجالت محمومة الحركات, ذاهبة تعدو على مداها متوثبة, تنام متوسّدة الغيوم والحجارة والأشجار, وتصحو ملتصقة بها, راقصة معها, مرتوية بقطر الندى المبلّل. لقد عرفت حاراتها وبيوتها مجوننا ولعبنا الطفولي وشقاوتنا الحادة. ولست هنا بصدد سرد طفولتي بقدر ما أودّ عرض حبّنا للأرض وجمالاتها, والوقوف على ذكريات لم يبقَ منها إلا ما ندوّنه ونسرده إذا ما أسعفتنا تلك الذاكرة المقهورة.

عشتُ القسم الأكبر من طفولتي في ربوع الحدائق والبساتين وكروم العنب والتين والزيتون, ولا سيّما أثناء العطلة الصيفيّة, حيث يعمد الأهل لاستئجار "كرم تين" (بستان) في منطقة المرج لنقوم باستثماره ببيع غلّته عبر إرسالها إلى أسواق بيروت. كان هذاالكرم يتطلّب رعاية وحراسة من عبث العابثين وسرقاتهم وحمايته من أنياب قطعان الغنم والماعز والبقر, التي كانت كثيرة آنذاك قبل أن تتحوّل الخيام الى مدينة في وقتنا الحالي. نحفر أسماءنا على جذوع الشجر الذي يبكي ألماً أبيض لفراقنا, فتختلط الأسماء المتكاثرة؛ أسماء صبية وأحبة عاشقين بسهامهم التي تخترق القلوب المرسومة على هذه الجذوع الباكية الدامعة الموشاة بعلامات الزمن وأخاديد الآلات الحادة.

كنا نذهب إلى منطقة المرج سيراً على الأقدام, وفي أحيان كثيرة كنتُ أقطع تلك المسافة, التي تعدّ بمئات الأمتار, ركضا كالسهم المنطلق أو كدولاب تدحرج من أعلى تلة نحو الأسفل, بل كنتُ أشبه بحيوان "الكنغر" الذي يقفز بخفّة ومهارة على قائمتيه الخلفيّتين للتنقل السريع, فلا يلامس الأرض بقدر ما يلامس الفضاء والهواء. لم أكن أحسّ بالتعب أو ببعد المسافة, كنتُ أتأمل رجليّ اللتين تتطايران في الفضاء كعصفورين فرحين متحابّين يلعبان لعبة السباق. كان شعوراً جميلاً, وكثيراً ما لازمني هذا الشعور في منامي حين كنتُ أحلم بأني أجلس على مخدّة وأطير فوق المرتفعات والسهول كالسجادة الطائرة في بعض الحكايات العربية القديمة. كم كنتُ أفرح بتلك اللحظات البريئة المنعشة!

كنتُ أقضي قسطاً من النهار في السباحة في بركة الدردارة أو في القناة المتفرّعة عنها التي كنا نسمّيها "القنا" الممتدة على طول سهل المرج بعد أن نحقن المياه, أنا وأترابي, في أحد الأمكنة, فيرتفع مستواها ونقوم بالسباحة منتعشين بحلاوتها وبهذا المستوى للمياه الذي يسمح لنا بالغوص دون أن تلسعنا برودتها التي تتحملها أجسادنا الغضّة الطريّة والعارية كلياً. كنا نقفز في الماء فتتطاير شظاياه وأصوات الارتطام فوق العشب المجاور. نرمي بأنفسنا في أحضان الماء الذي يتلقفنا كحبيبة مشتاقة, فيتعالى صراخنا الممزوج بالضحك الصاخب. ما زالت رائحة الماء الزكية, المختلطة برائحة الأعشاب المنوّعة التي تغطي ضفاف القناة التي يطغى عليها الحبق البرّي ذو الرائحة المميّزة, لا تغادر أنفي أبداً. إنها لحظات يمكن أن نحياها ونعيشها في الجنّة التي وُعِدَ بها المتّقون.


- كتاب "غرنيكا الخيام"‎ للكاتب الدكتور يوسف غزاوي متوفر حالياً في الخيام لدى محلات عبد الأمير عيسى وإبراهيم عساف

- سيجري لقاء مع د. يوسف غزاوي على شاشة تلفزيون لبنان في برنامج "صباح الخير يا بيروت"، صباح الخميس 14/3/2013، العاشرة صباحاً. أما الموضوع فهو كتاب "غرنيكا الخيام...".

من وحي الخيام للدكتور يوسف غزاوي
من وحي الخيام للدكتور يوسف غزاوي


تعليقات: