أزمة إدارية وضياع في وزارة الخارجية اللبنانية

فوزي صلوخ
فوزي صلوخ


عودة الوزير المستقيل أو لا عودته تثير أزمة وضياعاً إدارياً في وزارة الخارجية

صلوخ يلغي قرار متري، ارباكات وتعقيدات والسفراء لا يلتزمون!

هل الهدف الإمساك بالوزارة مجدّداً عشية استحقاقات مصيرية؟

ماذا يجري في وزارة الخارجية؟ السؤال يشغل اللبنانيين بعد العودة المفاجئة لوزير الخارجية المستقيل (والعائد من دون أن يعود) فوزي صلوخ. فالوزراء المستقيلون التابعون لحركة "أمل" يصرون على استقالاتهم ويعتبرون الحكومة "غير شرعية"، وكلما استحقت تعيينات أو تشكيلات يعتبرون أن من واجبهم تصريف الأعمال استنسابيا، فتضيع الصلاحيات بين وزير أصيل مستقيل ووزير وكيل ويعرّض الوزراء المستقيلون مصالح لبنان العليا للتجاذبات. فماذا في التفاصيل؟

في 26 تموز الماضي أصدر وزير الخارجية المستقيل فوزي صلوخ قرارا قضى بإبطال التعيينات التي كان وزير الخارجية بالوكالة طارق متري قد أقرها قبل أسابيع. وقبل الدخول في تفاصيل الأسماء، لا بد من الإشارة الى أن هذه التعيينات هي بالتكليف، لأن تعيين السفراء في المراكز المعنية يجب أن يتم بمرسوم يوقعه رئيس الجمهورية الذي يصر على عرقلة كل شؤون البلاد حتى الساعة.

وفي حيثيات الموضوع، فإن مجلس الوزراء كان أقرّ التشكيلات الديبلوماسية في جلسة برئاسة الرئيس إميل لحود قبيل استقالة الوزراء الشيعة. ثم رفض لحود توقيع مراسيم التعيين بعد استقالة الوزراء. وبقيت التشكيلات معلقة الى أن اضطرت الحكومة الى إرسال السفراء الى مراكز عملهم في الخارج من دون مراسيم تعيينهم، وذلك بصفتهم رؤساء البعثات الديبلوماسية اللبنانية في الدول المعنية انما برتبة قائمين بالأعمال حتى توقيع مراسيم تعيينهم. وقد تفهمت كل الدول المعنية الأمر واستقبلت السفراء. وكان لافتا في هذا الاطار استقبال وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس السفير اللبناني المعين حديثا في واشنطن أنطوان شديد بصفته سفيرا من دون أن تعلق أهمية على موضوع المرسوم.

إذاً، بمغادرة السفراء الذين تسلموا مراكزهم الجديدة، وبعودة عدد من السفراء من الخارج الى وزارة الخارجية بموجب الأنظمة التي تلزم السفراء بأن يخدموا سنتين في لبنان بعد كل 10 سنوات خدمة في الخارج، تشغر مراكز أساسية في وزارة الخارجية ما يوجب ان يعاد ملؤها بالسفراء العائدين من الخارج.

استشارات متري وتعييناته

وزير الخارجية بالوكالة طارق متري، وهو الذي يقوم بمهمات وزارة الخارجية منذ أشهر بفعل استقالة الوزير فوزي صلوخ، أصدر مجموعة قرارات في الأسبوع الأول من تموز عيّن بموجبها 12 سفيرا في 12 منصبا شاغرا في الخارجية، وعمل على مراعاة التوزيع الطائفي بين المسيحيين والمسلمين، كما اهتم بالتوزيع الطائفي بين المذاهب قدر الامكان، لأنه في أحيان كثيرة ثمة استحالة لتأمين التوزيع الكامل والسليم بين المذاهب، بفعل أن الوزير يكون ملزما السفراء العائدين ليوزع المراكز عليهم.

متري اعتمد طريقة لائقة في التعيين، إذ اجتمع بجميع السفراء العائدين مناقشا وإياهم تخصصهم والمراكز التي يرغبون في ملئها. وبناء على استشاراته وبعد مراجعة مختلف المراجع السياسية جاءت قراراته بالتعيين التي أرضت جميع السفراء، بحيث لم يحتج أو يعترض أحد، وتسلموا مسؤولياتهم الجديدة وباشروا عملهم.

فجأة، وبعد 3 أسابيع على قرار متري، يصدر صلوخ قرارا ينقض قرارات متري ويعيد إجراء التعيينات بشكل عشوائي، ما خلق إرباكا وذهولا كبيرين في وزارة الخارجية وفي الأوساط الديبلوماسية اللبنانية.

ففي الشكل جاء قرار صلوخ ليرسم علامات استفهام كبيرة حول "عودته" المفاجئة تحت شعار تصريف الأعمال. وسأل كثيرون: لماذا لم يقم صلوخ بتصريف الأعمال منذ اليوم الأول لاستقالته؟ ولماذا تمنع عن زيارة مقر وزارة الخارجية طوال الفترة الماضية وحتى حين قام بتعليق وسام على صدر السفير المكسيكي المغادر لبنان باسم رئيس الجمهورية إنما فعل ذلك في منزله وليس في مكتبه، وهو أمر شاذ في الأعراف الديبلوماسية؟

مفاعيل سلبية

وفي المضمون جاء قرار صلوخ ليثير الريبة بفعل عاملين اثنين: الأول هو أن قراره أدى الى تهميش منصب مسيحي أساسي في وزارة الخارجية، وهو منصب مدير الشؤون الادارية والمالية لمصلحة الطائفة الشيعية. كما أنه عرّض وزارة الخارجية لفراغ إداري إذ عيّن السفير ريمون بعقليني الذي يتقاعد بعد شهرين مديرا للشؤون السياسية والقنصلية، ومن يشغل هذا المنصب يحل مكان الأمين العام للخارجية السفير هشام دمشقية الذي يتقاعد أيضا بعد شهرين.

وتاليا فإن صلوخ عمد بتعيينه السفير الشيعي حسن برو في مديرية الشؤون الادارية والمالية الى جعل برو يحل تراتبيا في المرتبة الأولى في السفارة على الصعيد الاداري بعد شهرين، بفعل شغور منصبي مدير الشؤون السياسية والقنصلية والأمين العام بفعل التقاعد. هكذا يكون صلوخ ضرب عصفورين بحجر واحد: عيّن شيعيا في مركز يشغله تاريخيا مسيحي (9 سفراء مروا على مركز مدير الشؤون الادارية والمالية منذ استحداثه بينهم 7 مسيحيين ومنهم 6 موارنة) كما جعل هذا السفير الشيعي يتسلم إداريا وزارة الخارجية والمغتربين في أدق ظرف ديبلوماسي يمر به لبنان (مناقشة الأمم المتحدة لملف الحدود اللبنانية- السورية، موضوع إنشاء المحكمة الدولية، متابعة القرار 1701... وغيرها من الملفات الديبلوماسية التي يتابعها لبنان عبر وزارة الخارجية).

في المقابل تسلح صلوخ بذريعة أن منصب مدير الشؤون السياسية والقنصلية يجب أن يعود الى ماروني في حين أن متري عيّن أرثوذكسيا هو السفير ويليام حبيب. فعمد صلوخ الى تعيين السفير ريمون بعقليني الماروني في هذا المنصب و"أهدى" الشيعة منصب مديرية الشؤون الادارية والمالية الذي يجب أن يعود الى المسيحيين.

متري شرح لـ"النهار" الأمر على هذا النحو: "منصبا مديرية الشؤون السياسية والقنصلية ومديرية الشؤون الادارية والمالية يجب أن يعودا الى المسيحيين، وتحديدا الى موارنة، بفعل ما هو قائم تقليديا في وزارة الخارجية. لكن، وضمن السفراء العائدين هناك مارونيان فقط، وهما السفيران ريمون بعقليني وغرامي أيوب. بعقليني يتقاعد بعد شهرين وهو رفض أن يتسلم منصب مدير الشؤون السياسية والقنصلية. وأيوب كان في إجازة مرضية على أن تنتهي في شهر أيلول المقبل ويلتحق بعدها بالوزارة. فرأيت أنه من الأفضل عندها تعيين بعقليني في منصب مديرية الشؤون الادارية والمالية، وهو الأمر الذي رحب به السفير، على أن يعيّن السفير غرامي أيوب في هذا المنصب بعد تقاعد بعقليني. ووجدت أن السفير ويليام حبيب هو الأصلح بين المسيحيين بفعل الأقدمية وخبرته الطويلة ليشغل منصب مدير الشؤون السياسية والقنصلية. وبذلك نكون حافظنا على المنصبين للمسيحيين. وهذا ما شرحته لغبطة البطريرك صفير مار نصرالله بطرس صفير ووافق عليه".

أما صلوخ، وبقراره، فإنه أعطى الشيعة مركزا للمسيحيين على الفور، وهو يلغي عمليا المركز الثاني بفعل استقالة السفير المعيّن بعد شهرين، وتحديدا في 13 تشرين الأول!

خطوة صلوخ أثارت امتعاضا كبيرا بين السفراء المعينين جميعا. اشارة الى أن التعديلات في التعيينات شملت 8 من أصل 12 مركزا. وهذا الامتعاض عبّر عنه السفراء بالاصرار على تنفيذ قرار الوزير متري والامتناع عن تنفيذ قرار صلوخ. وهم لذلك لا يزالون يقومون بالمهام وفق تكليف متري.

السفراء لن يلتزموا

مصادر في وزارة الخارجية مقربة من السفراء المعنيين اعتبرت أن ما قام به صلوخ غير مبرر "فالوزير متري اتصل بكل الأطراف السياسية قبل إصدار التعيينات ولم يعترض أحد. لا بل إن كريمة الرئيس نبيه بري تابعت عبر قنوات خاصة مع متري قضية التعيينات من دون أي اعتراض. وبالتالي فإن جميع السفراء تسلموا مراكزهم من دون أي اعتراض. أما تعيينات صلوخ فأثارت موجة اعتراضات لن تهدأ. فإضافة الى الإجحاف الذي لحق بالمسيحيين، فقد منح صلوخ مستشارا لقب سفير، كما أنه عيّن السفير نقولا الخواجا رئيسا للدائرة القنصلية، في حين سبق أن استدعاه من مركز عمله في الخارج الى وزارة الخارجية بسبب وجود ملفات بحقه. فكيف يعينه اليوم في مركز حساس وهو لا يزال أمام التفتيش؟"

وتضيف المصادر أن "السفراء المعنيون هم سفراء فئة أولى خدموا ويخدمون لبنان منذ عقود، وهم ليسوا كرة تتقاذفها أهواء السياسيين ومصالحهم. وبالتالي فإن على مجلس الوزراء واجب معالجة قضيتهم بالطريقة المناسبة وليس إخضاعهم لأهواء وزير مستقيل. فالسفراء الذين طالتهم تغييرات الوزير صلوخ يشكلون حوالى 75 في المئة من التعيينات وعملية نقل المراكز لا تتم بهذا الاستسهال، وخصوصا أنه تم تعيينهم في مراكز لا يرغبون فيها وليست من اختصاصهم".

وتصر المصادر على أن "السفراء وإن كانوا ليسوا حراسا لطوائف، لكنهم لا يمكنهم إلا أن يروا خلفية مذهبية واضحة لتصرف الوزير صلوخ، لأن الحجج التي تذرع بها للإقدام على خطوته واهية ولا تقنع أحدا. وما حصل يجري للمرة الأولى في وزارة الخارجية. فإن أحدا لم يعترض على تعيينات الوزير متري، في حين أن الأكثرية الساحقة من السفراء تعترض اليوم على قرار صلوخ. ونستغرب اليوم محاولات التعرض لعدد من السفراء في وسائل إعلام معروفة التوجهات وموالية لسوريا تحديدا، إذ يتم التعرض لسفراء معينين لمحاولة تحطيمهم أمام الرأي العام. وبالتالي فإن كل السفراء المعنيين متضامنون اليوم باستثناء سفير أو سفيرين".

وتؤكد المصادر أن "مستقبل هؤلاء السفراء الوظيفي لم يعد مهما لأنهم اليوم في القمة ويمكنهم أن يستقيلوا حفاظا على كرامتهم، لكنهم يتصرفون على اساس أن مصلحة لبنان العليا قبل كل شيء".

وتختم بالاشارة الى تمسك السفراء بتنفيذ مضمون قرارات الوزير متري بخصوص التعيينات مع رفضهم التام لقرار صلوخ "وهم لا يخافون من أي تلويح باحالتهم على المجلس التأديبي لأنهم زملاء سابقون للوزير صلوخ، ويتمنون أن يحالوا على أي إطار للمساءلة ليظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود".

من جهته أكد صلوخ لـ"النهار" أن "الأمور في وزارة الخارجية تسير على خير ما يرام، وقراري بخصوص التعيينات سيتم تنفيذه من دون أدنى شك. ونحن نسيّر الأمور بترو حفاظا على الوزارة".

صلوخ الذي رفض الإجابة عن عدد من الأسئلة أكد أنه وقبل أن يصدر متري قرارات التعيين كان أرسل لائحة بالأسماء للتعيينات الى الأمين العام للوزارة. وأكد أن أي اتصال بمتري لتوضيح الأمر لم يتم.

نماذج أخرى

وإذا كانت قضية هذه التعيينات أثارت بلبلة كبيرة، فإن خطوات سبقتها تثير أكثر من تساؤل. فقبل أشهر انتدب رئيس الجمهورية الوزير صلوخ لتمثيله في حفل تنصيب رئيس جمهورية السنغال عبدالله واد. وللرئيس الحق في انتداب من يريد لتمثيله، إنما يرسله كممثل شخصي وليس كوزير. وصلوخ قرر أن يصطحب معه المدير العام للمغتربين هيثم جمعة (المنصب كان للمسيحيين قبل أن يشغله السفير جمعة الذي يجاهر بانتمائه الى حركة "أمل") ومدير المراسم السفير مصطفى مصطفى ومدير الشؤون الادارية والمالية يومها السفير قزحيا الخوري (سفيرنا اليوم في فيينا).

وطلب مدير التشريفات في القصر الجمهوري السفير مارون حيمري من الأمين العام للخارجية إجراء المقتضى لسفر الوفد. ولكن إرسال أي وفد يحتاج الى قرار من مجلس الوزراء لدفع النفقات والتكاليف. ولا يحق لأي وزير أن يشكل وفدا. طُلب من صلوخ إرسال كتاب الى مجلس الوزراء للموافقة عليه فرفض. وتم إبلاغ السفراء أنهم إذا سافروا فإنهم يخالفون القوانين وأنهم سيسافرون على نفقتهم الخاصة. ولكن الرحلة تمت وأول ما فعله صلوخ بعد "عودته" الأخيرة أنه أرسل كتابا الى مجلس الوزراء يطلب فيه تسوية هذه المسألة. فلماذا كان لا يعترف بمجلس الوزراء وصار اليوم يعترف به؟

وحتى حين تمنع الرئيس لحود عن توقيع مراسيم تعيين السفراء في مراكز عملهم في الخارج أرسل وزير الخارجية بالوكالة كتبا الى وزارات خارجية الدول المعنية شرح لهم فيها واقع الأمر، طالبا استقبال رؤساء البعثات اللبنانية الجدد بانتظار تسلمهم مراسيم تعيينهم. ولم يعترض صلوخ ولا المرجعيات التي ينتمي إليها، ومن بين السفراء المغادرين عدد من السفراء الشيعة.

والأدهى من ذلك كله بحسب مصادر متابعة، أن عودة صلوخ لم تثر مشكلة في موضوع التعيينات فقط، بل تتعداها الى موضوع التشكيلات في صفوف ديبلوماسيي الفئة الثالثة الذين يتم تشكيلهم بقرار من وزير الخارجية ولا يحتاجون الى مراسيم. وبالتالي فإن إمساك صلوخ بهذا الملف ضروري ضمن المنفعة السياسية للجهات السياسية التي ينتمي إليها. وهنا تسقط كل اعتبارات الاستقالة أو ادعاء "لا شرعية" الحكومة، ويصبح تصريف الأعمال "صحوة ضمير" ضرورية أيا تكن الشعارات.

متري يؤكد لـ"النهار" أنه سيحيل الملف على مجلس الوزراء لمعالجته واتخاذ القرارات المناسبة في شأنه.

أما الأسئلة الباقية عن "مدى" عودة صلوخ الى ممارسة مهماته فتبقى خاضعة للتناقضات السياسية التي لا يفهمها الرأي العام. فهل يدخل في نطاق حسابات الوزير المستقيل أن تصريف الأعمال يشمل استقبال وزير خارجية البرتغال الآتي بعد أسبوعين الى بيروت؟ وهل يستقبله صلوخ الى جانب الرئيس فؤاد السنيورة في السرايا؟ نشير أخيرا الى أن وزير "حزب الله" المستقيل محمد فنيش اعتبر أكثر من مرة في أحاديث صحافية أن تصريف الأعمال لا مسوغ قانونيا له وأن الاستقالة عمل حر واختياري، وأن الوزير مسؤول سياسي لا يحتاج الى قبول الاستقالة ليصبح مستقيلا. فأي لغة سيعتمد الوزراء المستقيلون؟


تعليقات: