إنها جثة !

فواز مهنا حسين
فواز مهنا حسين


اسعدتم أوقاتا

انا ابن قرية حرفيش جارة رميش

اتصفح دوما موقعكم (خيام دوت كوم) وأحيي فيكم حبكم لبلدتكم

ارسلت اليكم مقالة علمية عن منطقة الجليل وقصة "انها الجثة"

اطلب اليكم نشرها واعدكم بالمزيد من القصص والخواطر

شكرا/ باحترام فواز حسين


إنها جثة

قال من سبقنا قد يكون النسيان نعمة أحياناً؛ بيد أن الإنسان قد تمر عليه أحداث جسام أو أحداث مؤثرة, منها ما هو غريب؛ ومنها العجيب؛ ومنها الحدث العادي الذي يمكن أن يحدث معنا جميعاً؛ ولكن تُغْرس في مخيلتك وتُطبع في ذاكرتك مآثر أصدقاء، والأقوال المأثورة، وبعض المواقف المعينة.

ومن خلال تجربتي الشخصية؛ ومما رأيته بأم عيني أردت أن أُطلع عليه الآخرين هو هذه القصة التي حدثت معي؛ وتستطيع عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة أن تضع/ ي هذه الحادثة في الخانة الملائمة لك؛ وفي المكانة التي ترتئيها.

حدث ذلك في العام 1973 بعد أن أكملت تعليمي الثانوي؛ حينها فكرت كثيراً ماذا بعد !؟ وما الذي سأفعله ؟ فوجدت طريقين لا ثالث لهما؛ وهما: إما الخدمة في الجيش؛ أو مواصله الدراسة؛ وعندئذ فرضت الظروف نفسها؛ فكان لزاماً عليّ أن أعمل قليلاً لتوفير بعض المال كي استطيع الالتحاق بالجامعة.

بدأت العمل في مقتبل العمر لدى مقاول ابن قريتي؛ وكان ذلك في أعمال صيانة للشريط الحدودي الشمالي؛ وفي مواقع للجيش؛ وفي أحد الأيام الخريفية الباردة؛ كان الجو مشحوناً والفترة ساخنة أمنياً على الحدود الشمالية؛ وعملت برفقة مجموعة كبيرة؛ وإذ بي وأنا أمارس عملي استمع لحديث يدور بين هذه المجموعة قد جذب انتباهي؛ وكان فحوى الحديث يدور عن فدائيين فلسطينيين قدموا من لبنان؛ ودخلوا الأراضي الإسرائيلية؛ وسمعتهم يقولون: إن هدفهم (الفدائيون) كان تعكير الحياة في المستوطنات الشمالية؛ وإدخال الرعب في قلوب الأهالي؛ وتنفيذ عمليات خطف؛ وقتل للأبرياء من المدنيين.

كنا نعمل في تلك اللحظة كفريق عمل؛ وتناهى إلى مسامعي حديث الجنود الحرس الذين كانوا في المكان؛ واستطعت أن أفهم منه الحديث التالي:

أنه حدث قبل ذلك بيوم أو أكثر؛ وبالقرب من مستوطنة دوفيف مواجهه فعلية بين فرقة من الجيش ومجموعة فدائيين أسفرت عن مقتل أحد الفدائيين على مقربة من ذلك المكان.

ارتعدت فرائصي عند سماع هذا الخبر, وانتابني القلق؛ وتأثرت كثيراً لسماع أنباء الموت والقتل؛ يا الهي ما هذا الذي أسمعه؟ كيف يتحدث الناس بكل هذه البساطة عن القتل وفقدان الأرواح؛ وبدأت تتوارد أفكار متفرقة إلى ذهني:

فمن الذي قتله!؟ ولماذا قتل؟ ومن الذي أرسله إلى هنا ؟ وما السبب!؟ أليس من المؤسف أن تقطف زهرة شبابه هكذا؟ وأين ذهبت أحلامه الفتيه؟ ثم هل هناك من سيدفن جثته؟ وهل هناك من أخبر عائلته بهذا المصاب !؟ وكيف سيتلقى أهله وذووه هذا الخبر!؟

ثم راودتني أسئلة أخرى: ماذا عليّ أن اعمل أنا بعد أن سمعت ما سمعت !؟ فهل أستطيع أن أمُر على قصة كهذه مرور الكرام !؟ تعكر كل يومي الذي بدأ بهذا الخبر المشئوم؛ خبر الدم والقتل؛ سيطر علي الإحباط الشديد؛ يا له من صراع أليم عقيم؛ وما هذه هذه النزاعات ؟ وكم هي رخيصة حياة الإنسان؛ أخلقنا البارئ لكي نَقتُل أو نُقْتَل !

فكرت ملياً في الحدث؛ قلت لنفسي يجب أن أصل إلى الجثة؛ وأن أراها بأم عيني, مهما كلفني الأمر قريبة كانت أم بعيدة، كنت شاباً يافعاً حينذاك؛ نعم ساورني الخوف، ولكن دفعني حب الاستطلاع لتتبع الحدث؛ وأردت أن أقوم بما أقدر على فعله؛ وكنت لا أريد أن أغيظ المقاول لئلا يطردني من العمل؛ فكرت في ذريعة لمغادرة العمل كي أصل إلى الجثة؛ فطلبت من المقاول إذناً للذهاب لقضاء الحاجة! فسمح لي؛ وقال: بإمكانك فعل ذلك, ولكن كن حذراً ولا تبعد كثيراً؛ وتذكر أننا الآن على الحدود.

ركضت سريعاً نحو الشرق؛ بحثت عيناي عن الجثة, نعم انه السر الذي لم أبوح به لأحد؛ وما هي إلا لحظات وإذ بي أجد نفسي أمام جثة هامدة ملقاة على قارعة الطريق, وكانت لشاب في ريعان شبابه؛ وكان مستلقياً على خده, ومرتدياً بزة عسكريه بلون التربة؛ وكان يعتليه بعض الوحل والتراب.

أدركت انه قد مر على مقتله ليلة بطولها أو أكثر, وأن النهار بشمسه قد تجاوزه؛ وأن الليل بظلمته قد غمره؛ وعصفت به الريح وأحاط به البرد، فهذه الجثة افترشت الأرض والتحفت السماء، فكانت جثة ملقاة في الخلاء... فيا للعجب ! أهذه هي قيمة الإنسان؛ أهذه هي نهايته؛ ثم هل سيترك للطيور الجارحة وللحيوانات المفترسة ليكون وليمة العشاء !؟

قلت لنفسي لن أترك هذا الأمر بهذه الصورة؛ نظرت حولي لم أجد شيئاً يمكن أن استخدمه؛ فلم أعثر على فأس؛ ولم يكن لدي مجرفة؛ تأخرت عن عملي؛ والمقاول سوف يلومني إن تأخرت أكثر؛ وقفت وحيدا وخائفا أترقب؛ وانتابتني الأسئلة والأفكار؛ كل هذا مر في ذهني؛ ولكني لم أستطع التهرب من واجبي الأخلاقي والإنساني الذي يُحتم علي أن أعمل شيئا....

حدثتني نفسي بأن عائلته وذويه لا يعرفون بما حدث؛ ولن يتم دفن الجثة حسب الطقوس المتبعة؛ واستحضرت حينها وفي تلك اللحظات القليلة قصة "قابيل مع هابيل"؛ وكيف أن قابيل وارى سوءة أخيه المقتول بالدفن.

ولكي أرضي ضميري - وهذا ما استطعت فعله في تلك الظروف المحرجة – قمت بأخذ بعض الحفنات من التراب؛ ووضعتها على أماكن مختلفة من هذه الجثة لعلي أستطيع تقديم ما يكرم به الإنسان؛ أي إنسان ! ومن هول الحدث؛ نسيت عملي ! وما أن تذكرته حتى سارعت بالعودة إلى مجموعة العمل وتوجهت نحو الناحية الغربية، ولكني واصلت النظر خلفي إلى تلك المنطقة.

لقد حُفرت هذه القصة عميقاً في ذاكرتي؛ وما زلت أتذكرها بين فترة وأخرى؛ وما زالت قدماي حتى يومنا هذا تحملاني وتجراني إلى أقرب نقطة من ذلك المكان؛ فأجلس مع نفسي هنيهة لأذكر وأتذكر وأترحم على روحه.

بقي أن أقول أن هذه القصة بقيت سراً في خاطري حفظته لنفسي؛ ولم أُفضِ به إلى أحد؛ إلا لأقرب المقربين مني؛ وكتبتها الآن علني أجد متنفساً؛ وأجد حلاً بعد هذا العمر للسؤال الذي راودني حينها: لماذا وكيف وهل !

فلماذا تنشب الحروب والخصومات؟

وكيف سيكون الحل؟

وهل سيسود الأمان والسلام! وهي أسئلة طرحتها وما زلت أطرحها؛ وما زالت تراودني...

* فواز مهنا حسين - حرفيش

البريد الالكتروني: aboanze@walla.com

تعليقات: