المطار الحربي الانكليزي في سهل مرجعيون.. المهبط طريق مغلقة
مرجعيون –
طالما احتلت المنطقة الحدودية موقعاً جيوستراتيجياً مهماً عبر التاريخ القديم والحديث، فمقوّماتها الجغرافية والطبيعية شكلّت دوما عامل جذب لكثير من الدول والشعوب التي تناحرت من أجلها وعلى أرضها مخلّفة وراءها آثارا لا يزال بعضها ماثلاً حتى يومنا هذا.
من هذه الآثار ما بقي شاهداً على الحرب العالمية الثانية التي نالت المنطقة نصيبا منها، اذ كانت مسرحاً لفصول من المواجهة بين الحلفاء من جهة والألمان من جهة أخرى. واعتُبرت المنطقة آنذاك خطاً دفاعياً، أو خطّاً خلفياً بالنسبة للحلفاء، فكان بناء التحصينات والدفاعات ضرورياً، وخطّة بديلة في حال تقدّم الألمان من جهة مصر الى فلسطين، وصولاً الى لبنان وسوريا.
ويتناقل أهالي القرى الحدودية المسنّون أن معارك ضارية دارت في المنطقة، خصوصاً في سهل مرجعيون. فهذه النقطة كانت محورية ومهمّة جداً، وعرف أهميتها الحلفاء مسبقاً، فكان بناء التحصينات فيها، من مستشفى ميداني تحت الأرض (عند مدخل بلدة الخيام) ومطار عسكري جنوبي السهل، اضافة الى حفر الخنادق وبناء عوائق من الحجار والاسمنت (جنوب الخيام وقبالة سردا) ورصفها في شكل يعوق حركة تقدّم الآليات العسكرية... كل هذه التحصينات بنتها سواعد أبناءالمنطقة الذين وجدوا فيها فرصة عمل لسنوات عديدة، كلّ بحسب قدرته وبنيته الجسدية.
المهندس جلال عبدالله من بلدة الخيام يجمع تاريخ المنطقة، وأمكن له، رغم شح المعلومات المتعلّقة ببعض الحقبات التاريخية، أن يوثّق بعض الحوادث التي جرت على أرضها، وأبرزها الحرب العالمية الثانية، وما بقي من معالم تدلّ اليها. وذكر لـ"النهار" أن الخط الدفاعي الذي أرادته قوات الحلفاء، وخصوصاً انكلترا من هذه المنطقة، هو تحسّب للخسارة في مصر، فكان المطار والمستشفى وغيرهما من التحصينات، مشيراً الى أنّ المهندس الذي أشرف على عملية بناء المطار الماني منشق عن النازية، ويُقال انّه نتيجة استفزازه من الحلفاء صمّم المطار في شكل صليب معقوف، أي شعار النازية، ولا يمكن تبيان ذلك الا من الجو، مشيراً الى أن الحجار التي اسُتخدمت في بنائه تمّ اقتلاعها من تلّة الحمامص المقابلة.
إهمال
جنوبي السهل لا تزال مرائب الطائرات قائمة حتى يومنا هذا وعددها ثمانية، تتوزّع في محيط مهبط الطائرات الذي يبلغ طوله أكثسر من كيلومتر، من الجنوب الى الشمال. ورغم أن الإهمال وعوامل الزمن أخفت بعضا من معالمه الا أنّه لا يزال واضحا، ولو صحّ له الكلام، لروى مشاهداته عن الطائرات الحربية التي حطّت به أو تلك التي سقطت نتيجة المعارك. وفي هذا الإطار يروي أبو غازي أبو حمد من القليعة أن السهل شهد سقوط طائرات عدّة، ولا يزال يذكر حين كان في العاشرة من عمره أن طائرة فرنسية سقطت في السهل في تلك الحقبة، وبعد فترة أُنشئ المطار في المنطقة عينها. واستعان الفرنسيون والانكليز بأبناء المنطقة وكانوا ينقلونهم بشاحنات أو "ريو" كما هو متعارف عليه. وذكر أبو حمد أن الفرنسيين كانوا يستقدمون معهم مغاربة وتونسيين من مستعمراتهم، والانكليز اوستراليين. ويتناقل بعض أبناء البلدة أن وجود بعض الأفارقة معهم كان يثير استغرابهم، ويروون طرفة عن أحدهم أنّه كان يقترب مساء من أحد الأفارقة ليرى اذا كان الجوّ الحار وارتفاع درجات الحرارة يذيبان لونه الأسود!
وفي بلدة كفركلا يروي أبو أحمد، علي محمد شيت (85 عاما) الكثير من تفاصيل بناء المطار والتحصينات، ورغم صغر سنّه في تلك الحقبة الا أن ذاكرته لا تزال تضخ صورا ومشاهدات خصوصا أنّه من الذين عملوا فيه رغم أنّه كان لا يتجاوز العاشرة من عمره. وذكر لـ"النهار" أنّه كان من سكان آبل القمح وهي أحدى القرى السبع، وأنّ الانكليز قصدوا والده كما العديد من أبناء المنطقة وطلبوا منه أن يرسل ابنه للعمل معهم. وقال: "حال الفقر التي كانت تعيشها المنطقة ساهمت بفتح مجالات جديدة للعمل في بناء التحصينات العسكرية للحلفاء". وعن طبيعة عمله تحديداً قال: "كلّفوني بتعبئة المياه من عين المطلة في "القفف" فيما آخرون ينقلونها الى العمّال، وكانت أجرتي اليومية 25 قرشاً". وذكر شيت أن عدداً من اليهود كان يشرف على الأشغال ولا يزال يذكر إسم "جبلي" الذي كان يشرف مباشرة على عمله. وعن طريقة معاملة الإنكليز للعمّال قال: "كانوا عادلين جداً، ويظهرون دوماً رغبة في مساعدة الناس عبر تأمين العمل لهم، حتّى أنّهم كانوا يتغاضون عن التدقيق في لوائح أسماء العمّال الذين كان بعضهم يسجّل اسمه ولا يعمل ويقبض راتبه الاسبوعي"، قالها مبتسماً.
وبعد الانتهاء من المطار ساهم أيضاً ببناء "الركائز" التي كانت تُستخدم عوائق للآليات الثقيلة، اضافة الى حفر الخنادق وبعضها لا يزال حتى اليوم، مشيراً الى أن نسبة لا بأس بها من الأفارقة كانت تُستقدم من بلادها للمساعدة في الاشغال، وكان الحلفاء ينصبون الخيم لهم في المطلة مع حراسة مشدّدة وحين يحضرونهم للعمل يكبّلون أيديهم خوفاً من أن يهربوا. هؤلاء الأفارقة أنفسهم هم من حفروا الطريق التي تُعرف بـ "باب التينة – المطلة".
"أرض اليهود"
بنى الحلفاء، ومعهم اليهود، المطار على أرض تعود ملكيتها للشركة الاستيطانية اليهودية، وهي تُعرف اليوم بـ"أرض اليهود". وفي هذا الإطار ذكر عبدالله أن اليهود حرصوا في تلك الحقبة على أن يتم بناء المطار على أرض تعود ملكيتها لهم، وذلك تحضيراً لضم تلك الارض رسمياً عند أعلان دولتهم التي كانوا يحضّرون لها، مشيرا الى أنّه عند ترسيم الحدود في المنطقة أصرّت فرنسا على منح السهل للبنان ليكون كيانا قابلاً للحياة يفاد منه كأرض زراعية، مثل سهل البقاع وكمصدر غني بالمياه أيضاً. وبذلك خسر اليهود الرهان وتحوّلت ملكية الأرض، وبالتالي المطار، الى الدولة اللبنانية والمسؤول المباشر عنها القائمقام، علماً أنّها تتبع عقاريا لبلدة الخيام.
الإهمال والنسيان هما الصفتان الاصح لحال المطار اليوم، الذي لو قُدر لدولة أو لوزارات معنية الاهتمام به لكان معلماً سياحياً عالمياً الى جانب المستشفى وغيرها من التحصينات العسكرية التي تعود لتلك الحقبة. اما اليوم فقد تحوّلت مرائبه حظائر للماشية والمهبط طريقاً مهملة تكسوها الأعشاب، يفيد منه فقط المزارعون.
تعليقات: