افتتاحيات نشرات الأخبار اللبنانية.. بدعة محلية بامتياز

تختلف افتتاحيات النشرات بحسب توجه المحطة
تختلف افتتاحيات النشرات بحسب توجه المحطة


يتنافس من خلالها رؤساء التحرير على تسجيل المواقف وتفضح توجهات القنوات السياسية علنا.

بيروت:

كل ما يتطلبه الأمر هو "كبسة" زر ليجول المشاهد بين افتتاحيات نشرات الاخبار على المحطات التلفزيونية اللبنانية بين السابعة والنصف والثامنة مساء، فيستطيع رسم صورة شاملة لمواقف الفرقاء السياسيين من آخر الأحداث اليومية. ويطلع بعد استماعه الى هذه الافتتاحيات على الاختلاف التي تسود الساحة السياسية وتناقضاتها وألفاظها ومواعظها ومصطلحاتها الجديدة و "الغريبة" في بعض الأحيان. وكما تعكس افتتاحية الصحيفة المحلية تحليل رئيس التحرير وقراءاته للتطورات وفق توجهات منبره الاعلامي تمثل مقدمة النشرة مدخلا لقراءة مباشرة أو غير مباشرة لما بين سطور الأخبار أو الأحداث الأمنية وارتباطها بكل الصعد المحلية والاقليمية والدولية وفق التوجه السياسي للمحطة.

من هنا، تكفي مقولة "المكتوب يعرف من عنوانه"، أو في هذه الحالة "المقروء يعرف من عنوانه"، لوصف دور استهلالية نشرات الأخبار اللبنانية. فغالبيتها تخطت دورها المعهود لاعلام المشاهد بأبرز الأحداث لتبث مواقف واستنتاجات وتحليلات وخطابات قبل البدء باطلاع المتلقي على مجريات الاحداث. وفي ضوء المحاصصة السياسية للاعلام المرئي تحرص كل محطة على استغلالها جذب المشاهدين واضفاء صبغة أو هوية محددة تنفرد بها وتميزها عن منافساتها بطريقة خاصة أصبحت واضحة لدى الجمهور من مختلف الانتماءات. وخلال هذه الفقرة الاخبارية لا يمكن اغفال اندفاع المذيع المبالغ به في بعض الأحيان كأنه يحاول بتعابير وجهه ونبرة صوته اقناع المتلقي بصدقية معلوماته.

ويجمع العديد من المتخصصين في مجال الاعلام على أن المقدمة التحليلية هي ابتكار لبناني محض أخرجت نشرة الأخبار من سياقها الجامد وأعطت ادارة المحطة فرصة التعبير عن توجهاتها السياسية. لكن وإن تشابهت الأساليب والاطار العام الذي توضع فيه مقدمة النشرة ، يبقى الاختلاف واضحا في خصوصية كل محطة، انطلاقا من تحديدها أولويات الأحداث وفقا لتوجهها السياسي وحرفية صياغتها. أما النتيجة فهي تختلف بين نشرة وأخرى، ففي ظل غياب الموضوعية المطلقة عن كل المحطات اللبنانية، يمكن القول إن بعض القنوات استطاعت أن تخطف اهتمام المشاهدين نحوها للاطلاع على كيفية استقرائها للأحداث، آخذين بعين الاعتبار هامش الموضوعية الذي لا تزال محافظة عليه مقارنة بغيرها من وسائل الاعلام المرئية. وأمام الانقسام السياسي والاعلامي الحاد، أصبح بامكان اللبناني التنبؤ بما ستعلنه كل محطة في افتتاحية نشرتها وفقا لتوجهها السياسي، اذ قد تتفق كل من "LBC" و"المستقبل" الى حد بعيد في قراءتهما للأمور، في حين تعارضهما قنوات "المنار" والـ "NBN" و"NTV". وقد لا يقتصر الاختلاف على القراءة السياسية فحسب، بل يصل الى درجة التناقض، ففي حين يرى الفريق الأول إيجابيات وآمالا تعقد على حدث معين يرى الفريق الثاني أن هذا الحدث هو مصدر خطر يهدد سلم لبنان واستقراره والعكس صحيح.

فعلى سبيل المثال ألقى الفريقان الضوء على زيارة رئيس الحكومة اللبناني فؤاد السنيورة لفرنسا في مقدمات نشرات الأخبار مع اختلاف واضح في التحليل، إذ رأى الفريق الأول في لقاء السنيورة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ورئيس فرنسا ساركوزي واشادة الأولى به وبأدائه الحكومي دلالات إيجابية لمستقبل لبنان السياسي، يفسرها الفريق الثاني بأنها تدل على تشجيع السنيورة لرفض المبادرتين الفرنسية والسعودية.

يقول الأستاذ في كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور جورج كلاس: إن اذاعة الـ "BBC" البريطانية هي أول من بدأ العمل بما يسمى استهلالية النشرة وذلك في العام 1944 وتبعتها بعد ذلك الاذاعة اللبنانية الرسمية والاذاعات العربية. المقدمة كما يعرفها كلاس هي آخر ما يكتب في النشرة وأول ما يقرأ على الهواء مختصرة أهم الأخبار والأحداث بعد أن تتم صياغتها بطريقة معينة تعكس سياسة المحطة ونظرتها الى الأمور وموقفها من الأحداث الحاصلة.

ويضيف: "الاستهلالية كالمقال اليومي في الجريدة، خصوصا "المانشيت" الذي يعبر عن توجه المؤسسة من دون أن يحمل توقيع شخص محدد، وهي احاطة عامة بكل مضامين النشرة تهيئ المشاهد الى تقبل ما سيرد في سياق النشرة التي قد تتشابه أخبارها بين محطة وأخرى، انما يبقى التمايز في موقف المحطة السياسي الذي لا يظهر بوضوح الا في المقدمة، اذ يبرز دورها في محاولة اقناع المشاهد بمعلوماتها وفي بعض الأحيان السيطرة عليه". ويشبه كلاس مقدمات النشرات الاخبارية اللبنانية بخطوط تماس اعلامية جديدة تتمترس وراءها كل محطة لإعلان موقف سياسة الفريق الذي تمثله. مدير الأخبار في محطة "المستقبل" عماد عاصي يقول" إن استهلالية الأخبار في القناة تهدف الى عرض بانوراما شاملة وسريعة بعيدا عن التحليل، انما مع لمسة خاصة تعكس سياسة المحطة. وذلك لأننا نعرف ان عقل اللبناني قادر على التمييز بين الصح والخطأ والتحليل لاتخاذ القرار المناسب. لذا نحاول إلقاء الضوء على أبرز الاحداث اليومية وفقا لأولوياتها، وقد نشير في بعض الأحيان الى أحداث سابقة، إذا كانت ذات صلة بالأحداث الآنية، وقد نجمع في الوقت عينه أحداثا محلية واقليمية ودولية مترابطة في ما بينها وذات دلالات سياسية مهمة".

ويؤكد مدير الأخبار في قناة "المنار" محمد عفيف "أهمية مقدمة النشرة بالنسبة الى المحطة"، ويقول: "تستقطب مقدمة نشرتنا أعلى نسبة مشاهدة في لبنان، لأننا نطلق من خلالها موقف الجهة السياسية التي نمثلها، ونعتمد في صياغتها على معايير محددة أهمها أن تكون مكثفة ومختصرة ومعبرة عن هوية المحطة السياسية وبما يتوافق مع طبيعة الجمهور الذي نتوجه اليه".

ويعتبر كلاس "أن هناك مبالغة في تحميل هذه المقدمة مواقف سياسية اضافة الى الطريقة التي يعتمدها المذيع في قراءتها، وهي تشبه الى حد كبير الاعلان التسويقي، علما أن قانون الاعلام اللبناني يمنع مقدم نشرة الأخبار من القيام بأي اعلان نظرا لقدرته في التأثير على الناس". وينتقد مقدمات نشرات الأخبار الطويلة، ويقول: "المتلقي الجيد يمكن أن يتلقى 18 كلمة في 15 ثانية لحد أقصى، لذا يجب أن لا تتعدى استهلالية نشرة الأخبار الدقيقتين كي يستطيع متابعتها من دون نفور أو ملل".

وعن التقنية المتبعة في المحطة اللبنانية للارسال (LBC) لكتابة مقدمة نشرة الأخبار، تقول الملحقة الاعلامية سنا اسكندر "إن مهمة صياغة المقدمة تقع على عاتق رئيس تحرير النشرة الذي يعطيها النفس والاتجاه المناسب، مع الحرص على الالتزام بالحس الوطني العام وباعطاء الخبر الأبرز حقه في المقدمة". وتؤكد "أن المطلوب من المقدمة أن لا تتجاوز ثلاث دقائق وأن تحمل بين سطورها رسالة سياسية أو أكثر، فالنشرة بكاملها تعتمد على تقديم أخبار باحتراف وبطريقة مهنية وبمصداقية مطلقة، أما المقدمة فهي متحررة أكثر من مضمون النشرة وتفاصيلها، لذا من الممكن تضمينها رأيا أو تساؤلا أو تحليلا أو بعبارة أدق قراءة خاصة وليس موقفا سياسيا".

من جهة أخرى، يقول كلاس "ان المدرسة الاعلامية الجديدة المتبعة مثلا في محطتي "CNN وEURO NEWS" والتي تعتمد على مبدأ تقديم المعلومة وتترك للمتلقي حرية التحليل والاستنتاج، هي أفضل من تلك التي تبدأ بمقدمة معينة لأنها تحترم الخبر والقارئ على حد سواء" . وفي ما يتعلق بالمقدمات التي تزخر بها المحطات اللبنانية يرى كلاس "أنها منتجة بطريقة جيدة ومحترفة وبنسبة متفاوتة من الحيادية، وتكون المقدمة جيدة ولافتة اذا لم تتعلق بسياسة المؤسسة، عندها تحلل الأحداث بموضوعية، من هنا نطلب المعلومة النظيفة التي تفي بغرضها بعيدا عن الآراء الشخصية ذات المصلحة الخاصة".

ويقول عفيف "المقدمة هي زبدة النشرة، لذا نحرص على التركيز من خلالها على أبرز الأحداث، انما قد تختلف أولوياتنا مع محطات أخرى، اذ قد نلقي الضوء على خبر مهم تفردنا به، خصوصا اذا كان اجتماعيا يتعلق بهموم الناس وان كان هناك حدث آخر سياسي مهم". ويعطي مثلا على ذلك أن المحطة لم تعط الأولوية في مقدمة نشرتها المسائية يوم زيارة أمين عام الجامعة العربية لبنان الى هذا الحدث بل ركزت على تقرير أعدته عن النفايات التي ترمى في بحر لبنان بعدما صورت مشاهد في قعر البحر لعرض اثباتات عن معلومات كانت قد أعلنتها سابقا عن هذا الموضوع.

ويشدد عفيف على حرص المحطة على التعبير عن موقفها السياسي من خلال المقدمة انما بطريقة مهذبة ولائقة مع المحافظة على المهنية الاعلامية وعلى البعد الاخلاقي من دون تجريح قد يسيء الى الأشخاص.

أما التحليل السياسي فهو يدخل بشكل غير مباشر في التقارير الاخبارية التي تبث خلال النشرة.

وعن المبالغة التي تظهر على تعابير وجوه بعض الاعلاميين في محطة المنار خلال قراءتهم النشرة، يقول عفيف "هذا الأداء قد ينزعج منه فقط المعارضون لسياسة المحطة، ولا انكر أننا نشكو من بعض المبالغة التي يظهرها بعض الاعلاميين، لكن هذا لا يعني أن تخلو القراءة من الانفعال مع الأحداث، بل يجب على الاعلامي المحترف أن يخلط بين القراءة الصحيحة والاثارة في الأداء لجذب المشاهد".

وتعلق مديرة الأخبار في محطة تلفزيون الجديد (NEW TV) مريم البسام على الموضوع، "ننتظر الساعات الأخيرة قبل موعد النشرة لكتابة المقدمة لنعلن فيها أبرز الأحداث اليومية، وما يرافقها من اشارات سياسية اضافة الى موقف المحطة من كل ما يجري، مشيرة الى أن NTV تذهب الى البعيد في اتخاذ مواقفها الجريئة بعيدا عن الحسابات الخاصة التي تتقيد بها المحطات الأخرى، ليس لدينا محاذير أو خطوط حمراء أو جهة سياسية تضع لنا حدودا نعمل وفقها، نكتب ما يتوافق مع المصلحة العامة". لذا فالمقدمة بحسب البسام ليست خبرا عاديا "انما يجب أن تتضمن تحليلا وموقفا مما يجري لذا فقد ينتقدها من يعارض موقفنا السياسي. لذا على الاعلامي أن يتمعن في قراءة المقدمة بعيدا عن التمثيل ومع التشديد على كل كلمة معبرة تحمل معاني هامة ودلالات لإيصال الفكرة بطريقة واضحة".

وتعتبرالبسام "أن تكثيف الأحداث في المقدمة في بعض الأحيان ضرورة لا بد منها، والربط في ما بينها على الصعيد السياسي أو حتى على الصعيد الاقليمي والدولي تعبر عن حرفية مهنية عالية. من هنا يمكن اعتبار مقدمة الأخبار "بدعة لبنانية جميلة" شرط ان ترتقي بالمتلقي الى مستوى معين ولا تجنح الى مستوى متدن مثل الخطاب السياسي السائد اليوم في لبنان وتقديم مفردات جديدة لتبرع وتلمع وتترك بصمة مميزة في ذاكرة المشاهد".

وفي ما يتعلق بتحديد أولوية الأحداث تقول اسكندر "لا يمكن تحديد الأولويات مسبقا، فهي تأتي تلقائيا بحسب أهمية الحدث السياسي أو الأمني، ليأتي الموقف بعد ذلك منسجما مع الخبر وسياسة المحطة في الوقت عينه". وتضيف "من الأفضل أن ترتكز المقدمة على حدث واحد، أما اذا كان هذا الحدث مرتبطا ومتداخلا مع سلسلة من الأخبار والأحداث، فلا بد عندها أن يأتي النص مشابها للواقع وتداعياته ليعطي صورة أوضح وأشمل للحدث المهم في سياق تحليلي يربط بين هذه الوقائع".

وعما اذا كان هناك أسلوب أو أداء معين على الاعلامي أن يتقيد به في قراءته للنشرة، توضح اسكندر " فظاعة الخبر أو الحدث هي المحرك الذي يدفع الاعلامي نحو أداء معين عند قراءة المقدمة، فهو انسان يتفاعل مع المستجدات ولا يمكنه ضبط مشاعره في بعض الأحيان ولو كان على قدرة عالية من الاحتراف، لكن بشكل عام نحرص دائما على أن تكون المقدمة بعيدة عن الانفعالات الشخصية واظهار المزيد من المهنية الاعلامية".





تعليقات: