كوكبا: مملكة مطمورة ومعاصر تدور في الذاكرة

مقابر محفورة في جبل كوكبا (شوقي الحاج)
مقابر محفورة في جبل كوكبا (شوقي الحاج)


تأمل بلدة كوكبا في قضاء راشيا، أن تصنّف على الخريطة السياحية في لبنان، لما تزخر به أرضها من معالم أثرية وحضارات تاريخية، وقد حوّلت بلديتها بعض المساحات الجبلية الغنية بالآثار وببقايا الحضارات القديمة إلى مناطق أثرية، لا سيما المنطقة الجبلية المقابلة لجبل الشيخ، في قرية كانت تُعرَف تاريخياً باسم الشعيري، والتي تفرق سكانها إثر تعرّضها لهجوم في عهد مملكة شبيب التبعي، حيث تمّ حرقها وتدمير منازلها، ولا تزال بقاياها شاهدة على حقبة غنية من تاريخ وادي التيم.

تتنوّع معالم المنطقة من حفر في الصخر إلى مغاور ونووايس وآبار مائية محفورة في الصخر أيضاً، إلى بقايا جدران حجرية قديمة متداعية. ويرجح الكاتب رفيق أبو غوش أن تكون تلك الآثار عائدة إلى الحقبة الفينيقية، مستنداً إلى أشكال النووايس داخل المغاور الصخرية الشبيهة بتلك الموجودة في مدينة جبيل، فيما نمطا الحفر الصخرية والعمارة يشيران إلى بقايا آثار يونانية، حيث سكن الإنسان القديم هذه المغاور الواسعة المحفورة في الصخر، لا سيّما أنه يوجد قربها بعض الآبار المحفورة لحفظ الماء بارداً ونظيفاً، ولعل أكبر تلك الآبار ما يعرف اليوم ببئر المصاطب في منطقة تدعى خلة السماقة، وهو دائري الشكل، بعمق ستة أمتار وقطر أربعة، تحيط به مصاطب تشبه المدرجات الرومانية.

ويلفت أبو غوش إلى وجود آثار عربية، تعود إلى مرحلة الفتح العربي، وتأثير الأمويين، من خلال التنقيبات التي أجريت في ثمانينيات القرن الماضي، والتي دلّت على وجود فخاريات ومسماريات وزجاجيات ترتبط بالحضارة العربية، مشيراً إلى وجود مشنقة معلقة في الصخر، يرجح أنها تعود إلى المرحلة التي عاش فيها شبيب التبعي (من أصل يمني) في المنطقة، إذ بنى الأخير قصراً له في قمة جبل الشيخ. ويُعرَف هذا القصر باسمه أو باسم قصر عنتر، حيث كانت منطقة الشعيري المقابلة لجبل الشيخ تابعة لنفوذه، وكان ينفذ أحكام الإعدام بالمناوئين له على المقصلة المستديرة الشكل، وفق عدد من المراجع ومنها «تاريخ بيروت» لصالح بن يحيى التنوخي، قبل أن تتعرض المنطقة لهجوم كبير لإخراج الملك شبيب منها، في أواسط القرن التاسع للهجرة، فأحرقت البيوت ودمّرت، ولم يبق منها سوى بعض الآثار الدارسة، والتي كشف النقاب عنها بعد تنظيفها واستطلاعها.

ويرى أبو غوش أنّ تلك المنطقة ذات موقع استراتيجي تاريخياً، كونها تطل على معبر القوافل في واد يقع بين جبلين، يعرف بطريق الحرير، أو كما هو متعارف عليه اليوم وادي دمشق الذي يربط راشيا بالبقاع الغربي عن طريق كوكبا - سحمر.

ويُلاحظ أن ثمة مغاور تحتاج إلى مغامرين لاكتشافها، منها مغارة تمتد تحت الأرض وفي قلب الجبل نحو عشرين متراً، وهذه المسافة ظاهرة جلياً، ويقدّر أنها تمتد إلى المقلب الآخر من الجبل المطلّ على بلدة مجدل بلهيص، وتحتاج إلى فريق مختص ومجهّز لدخولها واكتشاف دهاليزها.

رئيس بلدية كوكبا عقل مغامس يلفت إلى أن جبل كوكبا الغني بآثاره المتنوعة، بات على خريطة مديرية الآثار، بعدما تقدمت البلدية بطلب تصنيف المنطقة على الخريطة السياحية أثرياً وتاريخياً. ويوضح أنه وبناءً لقرار المجلس الأعلى للتنظيم المدني محضر رقم 8 في 22 شباط 2012، وبطلب من وزير الثقافة بكتابه تحت عدد 626 في 11 شباط 2012، والمتعلق بإحالة جميع طلبات الترخيص والتصريح لإقامة الأبنية بناءً أو إعادة بناء أو ترميم أو استصلاح أراض في منطقة كوكبا العقارية لا سيما في نطاق الشعيري، الخرايب، الخلالي، جل الحايك، المراحات، قلاع أبو طبيخ، السماقة، خلة الرمانة واللبونية، سهم المغارة وحنينة، كي تتمكن مديرية الآثار من إبداء الرأي الفني، قبل البت النهائي بإعطاء التراخيص من جانب «المديرية العامة للتنظيم المدني».

مدينة مطمورة؟

ويلفت مغامس أنه وبنتيجة الكشف الأثري الذي قامت به «المديرية العامة للآثار»، عبر مهندسين مختصين، بناءً لكتاب وزارة الداخلية والبلديات، رقم 5327 في 17 نيسان 2010 وكتاب وزارة الثقافة، رقم 5246 في 3 تشرين 2011، تبين وجود مجموعة من المغاور الدفينة وغيرها من المعالم الأثرية والإنشاءات العمرانية المميزة والفريدة من نوعها في خراج كوكبا، ما يقتضي الحفاظ عليها وحمايتها، فضلاً عن ضرورة مراعاتها في كل مشروع منوي تنفيذه، وعليه فإن وزارة الثقافة، و«المديرية العامة للآثار» في صدد استكمال الأعمال اللازمة، لإدخال الجبل في لائحة الجردة العامة للأبنية التاريخية.

وإذ ينوّه بما تم إنجازه على مستوى تصنيف المنطقة من أجل حمايتها، يشدد مغامس على ضرورة استكمال اكتشاف هذه الآثار وإظهارها وإدراجها في قائمة الأماكن السياحية، داعياً وزارتي الثقافة والسياحة إلى إبراز معالم تلك المنطقة وتخطيطها فنياً وهندسياً، بهدف الإضاءة على هذه المعالم التاريخية، وكشف ما هو غامض من التاريخ الحضاري لهذه المملكة التي كانت قائمة آنذاك، لتصبح مقصداً للسياحة التاريخية والأثرية، إلى جانب كونها أصلاً منطقة متميزة بسياحتها البيئية، لوجود أشجار السنديان العتيقة والكبيرة وأحراج الملول وغيرها من أنواع الشجر الموزّع بطريقة متقنة منذ مئات السنين، اضافة إلى كونها منطقة غنية بطيورها المتنوعة ونباتاتها الفريدة، ما يجعلها محمية طبيعية.

ويلفت مغامس إلى ضرورة أن تساعد وزارة الأشغال العامة والنقل عبر تأهيل الطريق الرئيسة وبعض الطرق الفرعية التي تربط قرية كوكبا بالجبل، لاستكمال ما تم إنجازه، بمساع من وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور، حيث انتعشت الأراضي الزراعية، إضافة إلى أن المقلب الآخر من الجبل يوجد فيه مشروع إنشاء بئر ارتوازية، لجر المياه الى البلدة.

ويوضح أنّ كشف النقاب عن تاريخ تلك المنطقة يسلط الأضواء على تاريخ أساسي للحضارات التي تركت بصماتها في وادي التيم، وبالتالي فهناك إمكانية لإنعاش البلدة اقتصادياً ومعيشياً ومعنوياً.

من جهته يتحدث ابن كوكبا أمين مغامس عن رابط قوي يجمع بين آثار جبل كوكبا المتنوعة وبين آثار موجودة في البلدة، لا سيّما وجود قلعة كبيرة إلى جانبها معصرة حجرية قديمة منحوتة في الصخور يرجح أنّ سكان الشعيري كانوا يستخدمونها لعصر العنب وصناعة الدبس، فيما استخدمت منذ عشرات السنين في سلق القمح بآوانٍ نحاسية واسعة، إضافة إلى استخدامها في تصنيع الدبس قبل أن تتوقف عن العمل منذ نحو عشرين عاماً.

ويُعرب عن اعتقاده بوجود بقايا مدينة قديمة مطمورة، تبعاً لوجود سور بطول أكثر من 300 متر ووجود حجارة كبيرة مربعة ومصقولة، وعلى مقربة منها مغاور فيها مدافن صخرية، تتألف من مدفنين يعتقد أنها تابعة للملك، وإلى جوارها مدافن بحفر عدة يعتقد أنها لعامة الناس، ووجود أماكن لغسل الموتى، إضافة إلى دلائل حسية لمكوّنات المدينة، من خلال كثرة الآبار ووجود محكمة، لارتباطها بمشنقة تنفيذ الأحكام، وجدران حجرية، ونواويس، علاوة على وجود آثار مشابهة ممتدة إلى جبل المحيدثة، وما يعرف بمنطقة جوزات الكفير، وصولاً إلى آثار بلدة كامد على السلسلة نفسها.

وبانتظار أن يدخل قرار تصنيف المنطقة أثرياً حيز التنفيذ، تستمر مغاور الشعيري تحاكي صداها، وملاذاً آمناً للضواري، وتبقى آبارها مغمورة بالأشواك وتسيجها العناكب، أما مدافنها فأشباح، ومعاصرها حجارة تدور في الذاكرة.

تعليقات: