قواعد السياسة الإقتصادية وهاجس الإمساك السلطة


تتجاذب القوى السياسية على الساحة اللبنانية موضوعي تشكيل الحكومة العتيدة وإقرار قانون للإنتخابات النيابية القادمة، ويغيب عن إهتمام هؤلاء تماماً الشأنين الإقتصادي والإجتماعي والأمني ولا يحتل في سلم أوليوياتهم سوى هاجس الإمساك بالسلطة السياسية والتفرد بإدارة شؤون البلاد.


السياسات الإقتصادية والإجتماعية بعد تسوية الطائف

مارست الحكومات المتعاقبة منذ ما بعد تسوية الطائف ولغاية اليوم سياسات إقتصادية وإجتماعية عقيمة وكارثية طالت بنتائجها شرائح واسعة من أصحاب الدخل المحدود، وقضت على ما تبقى من آمال لدى اللبنانيين بقيامة حقيقية تعيد بناء ما هدمته الحرب. فخطة النهوض الإقتصادي اليتيمة التي وضعت منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي من أجل الإصلاح الإقتصادي وإعادة إعمار ما هدمته الحرب وبناء بنية تحتية قادرة على سد حاجات المواطنين من ماء وكهرباء وهاتف واستشفاء وغيرها، إنما تم تقزيمها في ما بعد وحصرها بمشروع إعادة إعمار الوسط التجاري في بيروت، على أن يكون ذلك مقدمة للنهوض الإقتصادي العام في البلاد. إلا أن هذا المشروع تحول نعمة للأغنياء والطامعين، ونقمة على الفقراء وأصحاب الحقوق الاساسيين. وإن من يتحمل المسؤولية في ذلك هم مجمل الطبقة السياسية الحاكمة وأصحاب النفوذ والوصاية، والذين كانوا يسيطرون تماماً على المفاصل السياسية والأمنية والإقتصادية للبلاد، ولكن غلقاء المسؤولية على هؤلاء لا ينفي أو يقلل من حجم الكارثة الإقتصادية والإجتماعية التي أغرقت اللبنانيين في مستنقع آسن لا خلاص منه.


القواعد التي بنيت عليها السياسات الإقتصادية والإجتماعية

لقد قامت السياسات الإقتصادية والإجتماعية التي طبقت منذ ما بعد إتفاق الطائف على قواعد ثلاثة:

القاعدة الأولى أعطت لأصحاب السلطة السياسية الحق الشرعي في وضع وتنفيذ خطة للنهوض الإقتصادي والإجتماعي وتوجيه الإقتصاد الوطني، مما يعني عملياً تسخير المال العام قانوناً في خدمة تنفيذ هذا المشروع.

القاعدة الثانية أعطت للسلطة السياسية صلاحية الهيمنة على الإدارات والمؤسسات العامة والتحكم بأهدافها وعملها، وهو ما أدى إلى تخصيص الوظائف العامة فيها للأزلام والمحاسيب، وليس لأصحاب الخبرة والكفاءة، بل وأعطيت السلطة حق وراثة المواطنين وإدارة أملاكهم ومصادرتها باسم القانون.

القاعدة الثالثة قضت بإعطاء أصحاب المشروع السياسي لأنفسهم الحق في إصدار التشريعات والقوانين واتخاذ ما يرونه مناسباً من إجراءات لإنجاح سياساتهم ومشاريعهم.

إن أول من ذهب ضحية هذه القواعد والسياسات هم الفقراء والعمال من أصحاب الدخل المحدود، وجرى ضرب نقاباتهم ووحدتهم النقابية، وتم تنفيذ ذلك كجزء أساسي من مسلسل ضربات إستباقية لتمرير المشاريع المشبوهة وتصفية معارضيها بأشكال وأساليب مختلفة تراوحت بين الإبعاد وشراء ما يكفي من الذمم، وإلى غسل ما يكفي من الأدمغة، وإلى تعميم ثقافة الفساد والرشوة واستسهال الكسب المجاني. وبلغت شراسة المواجهة إلى حد تنفيذ عمليات إغتيال سياسي وإجتماعي لشخصيات مرموقة من البيوتات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي جاهرت بمعارضتها لهذه المشاريع.


المقدمات السياسية للكارثة

كانت الأمنيات كبيرة على الورق إنما النتائج كارثية على أرض الواقع، فقد أغرقت السياسات الإقتصادية والإجتماعية الدولة ببحر من الديون التي لا قدرة لها على سدادها والتخلص من براثنها بقدراتها ومواردها الوطنية والذاتية، فظهرت هشاشة السلطة السياسية على حقيقتها، وظهر فشل إتفاق الطائف في تغيير وإصلاح النظام السياسي اللبناني وفي إنقاذ بنيته القانونية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والإدارية والأمنية والقضائية من الفساد والترهل، وتبين من خلال التطبيق أنه تم تعميق أزمة النظام السياسي وطائفيتة، وأتيحت الفرصة لأمراء الطوائف وأصحاب النفوذ المالي والسياسي والإقتصادي لنسج التحالفات والتفاهمات فيما بينهم، وتحت رعاية وإشراف سلطة الوصاية السورية وبمباركة وتواطؤ قوى إقليمية ودولية، للإمساك بعنق النظام وتقاسم المغانم والسلطات والصلاحيات. وإن الخطيئة التي إرتكبها هؤلاء، بالشراكة مع شركاء إقليميين ودوليين، قد رتبت على الدولة عبئاً كارثياً عجزت عن مواجهته، واستسلمت لنتائجه ومفاعيله المدمرة.

لقد تمددت بقعة زيت الفساد وتوسعت في بيئة طائفية حاضنة، وتعددت وسائل النهب المنظم لمقدرات الدولة وأملاكها، وتجذرت الكيانات السياسية والطائفية والأمنية التي نشأت على هامش الدولة وحسابها، وجرى كل ذلك ويجري تحت عين القانون وحمايته.


نتائج السياسات الإقتصادية والإجتماعية

شكلت السياسات الإقتصادية والإجتماعية والأمنية المتبعة، بيئة حاضنة للطبقة السياسية الفئوية والطائفية الحاكمة، والتي سخرت وسائل إعلام ضخمة لخدمة هدفين أساسيين من أهدافها: أولهما أن يم تجاهل أخطاء وممارسات السلطة السياسية ونقدها، والثاني أن يمجد إنجازاتها. ونجح الإعلام الممول من جيوب الناس في مهمته وفي رفع أصحاب هذا المشروع إلى مرتبة القديسين، وغابت الحقيقة خلف ستار كثيف من المعارك الوهمية التي دفعت الناس خلف غرائزهم وهواجسهم وزعاماتهم الطائفية، فظهرت النتائج الكارثية على حقيقتها ليقف المواطن الأعزل أمام معضلة وطنية مستفحلة، يصعب حلها بالوسائل والطرق العادية، ومن أبرز نتائجها:

ضرب الطبقة العاملة وشل حركتها النقابية كقوة عمالية وطنية تقدمية تقف على النقيض من الخطاب الطائفي والفئوي السائد، وجرى تهميشها وتفتيتها عبر التدخل في إنشائها وتنظيمها وهيكليتها وعلاقاتها ومصادرة حرياتها، ومحاصرة القوى الحية فيها من خلال القوانين الجائرة التي ضربت بعرض الحائط كافة التشريعات والأتفاقيات ومعايير العمل الدولية والوطنية، وقضت على حرية العمل النقابي واستقلاليته وديمقراطيته وفعاليته، وحرمته من المشاركة والمساهمة في وضع السياسة الإقتصادية والإجتماعية للدولة، وحرمت فئات واسعة من الموظفين في القطاع العام من الإنخراط في النضالات النقابية والوطنية.

تدهور الإدارة العامة بسبب النزف المتواصل والمستمر في كوادرها، وتشتيت ولاءاتها وانغماسها في ممارسات مشوهة، وإلى التساهل في إستثمار المال العام وتسخيره في خدمة المصالح الشخصية والمشاريع الإقتصادية والإجتماعية المشبوهة، وفي ظل تغييب شبه كامل للهيئات الرقابية وللنيابات العامة.

حلول الإقتصاد الريعي وتجارة الاموال مكان الإقتصاد الحقيقي الذي يقوم على الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، وتراجع القدرة التنافسية للمؤسسات المنتجة للسلع والخدمات القابلة للتداول، وغلو الحكومات المتعاقبة في دعم أصحاب العمل ورؤوس الأموال ومنحهم منافع وتقديمات تعزز أرباحهم على حساب المالية العامة للدولة والقطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية فيها.

إنعدام خطط النهوض الإجتماعي والخدماتي للمواطنين من إسكان وتعاونيات ونقل وماء وكهرباء، وخدمات صحية وإستشفائية، وتأمين فرص العمل، والتعليم الرسمي المجاني والإلزامي، ورفع مستوى التعليم العالي الرسمي وتأمين مجانيته...

إهمال القطاع الزراعي وغياب سياسة الدعم والحماية، وغياب مشاريع الري والسدود المائية، وهو ما أدى إلى تدني الإنتاج وانحسار مساحات الأراضي المزروعة وغزوها بالباطون المسلح.

تدهور الصناعة اللبنانية واستنكاف الحكومات عن حمايتها ووضع سياسة ضريبية ملائمة لها وتأمين الوسائل والبيئة الصالحة لتطورها وازدهارها وتشجيع الإستثمارات فيها.

غرق المواطن في لوثة القروض المصرفية وارتفاع الفوائد المصرفية على هذه الديون وعجزه عن تحمل تغطيتها، وخاصة أولئك الذين وظفوا قروضهم في القطاعين الزراعي والصناعي لمحدودية أرباحهما على المدى القصير.


كيف سنتعامل مع الثروة الطارئة من النفط والغاز

قد يكون من نعمة الله علينا إكتشاف كميات تجارية هائلة من النفط والغاز قبالة السواحل اللبنانية والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، ولكن يبقى السؤال هل سنتعامل مع هذه الثروة الطبيعية كما تعاملنا مع مواردنا البشرية وثرواتنا الطبيعية الأخرى؟ وهل سنكون أمام فرصة أخرى ضائعة لنغير في نظامنا السياسي وننتقل إلى الدولة الديمقراطية المدنية التي تحترم الإنسان وحقوقه وحرياته؟ وهل ستكون هذه الثروة الطبيعية نقمة أم نعمة علينا؟ كل هذه الأسئلة المشروعة وغيرها تضعنا أمام التحدي الحقيقي لإثبات إستحقاقنا لهذا الوطن، ولكن أن نواجه هذا التحدي بهذا النظام السياسي الطائفي والفئوي السائد وبأدواته السياسية والإدارية والقضائية والأمنية، وبسياساته الإقتصادية والإجتماعية نكون قد حكمنا على أنفسنا بالهزيمة وبفتح أبواب وطننا أمام كل طامع. وعلينا أن ندرك تماماً بأن الصيغة المستحيلة والخرافية التي عشنا في ظلها طويلاً لم تعد تنفع للحفاظ على الوطن، وهي أن نكون دولة من دون جيش ومن دون سياج يحميها ويصونها، وهي صيغة طبقتها إقطاعيات إلتمست الحماية تحت مظلة جيوش غيرها ولكنها لم تتأخر في أن تجد نفسها واقعة تحت وصاية هذه الجيوش. وإذا كان من المفيد أن نعتبر لبنان سويسرا الشرق لكن لا يجب أن يغيب عن بالنا أن سويسرا تملك أكفأ جيش دفاعي في التاريخ الحديث.

وعلى المنظرين والمتذاكين أن يعلموا بأن النهوض الإقتصادي والإجتماعي مرتبط بشكل جذري بديمقراطية النظام، وبإشراك النقابات وقوى المجتمع الحية في إتخاذ القرارات على الصعيد الوطني العام، فهؤلاء منتشرون على كامل مساحة الوطن وفي مرافقه وإداراته ومؤسساته العامة والخاصة، وهم أكثر إلتصاقاً بالواقع الإقتصادي والإجتماعي وأكثر معرفة بحاجاتهم ومطالبهم. وعلى المعنيين أن يتيقنوا بأن تغيير المجتمعات وبناء الدولة الحديثة الديمقراطية يتطلب تغيير الإقتصاد والسياسات الإجتماعية والحقوقية أولاً، وأنه يتعين على هؤلاء تغيير قناعاتهم وتعاملهم مع هذا الوطن وأهله، وأن يكفوا عن التصرف بخيراته وكأنه مزرعة ومحمية لإمتيازاتهم الشخصية والعائلية.


* أحمد حسّان

تعليقات: