مفهوم السيادة والدولة الفاشلة

الكاتب أحمد حسّان
الكاتب أحمد حسّان


النموذج اللبناني

يرتبط مفهوم السيادة بتطور الدولة الحديثة، وتعتبر السيادة إحدى أهم المقومات الأساسية التي تبنى عليها نظرية الدولة في الفكر السياسي والقانوني وفي تنظيم العلاقات بين الدول وتحديد حقوقها وواجباتها، وكما أن الشعب هو مصدر السلطات، كذلك هو المصدر الوحيد لسيادة الدولة.

مفهوم السيادة

السيادة مفهوم قانوني – سياسي له علاقة مباشرة بوجود الدولة وممارسة دورها وصلاحياتها وعلاقاتها بمواطنيها وبغيرها من الدول، فهي أحد أهم الخصائص الرئيسية للدولة، وهي الشرط الأساسي لاعتبار الكيان السياسي دولة، فلا دولة بدون سيادة، ولا سيادة بدون إستقلال. والسيادة هي التي تعطي للدولة الحق بالتشريع وإصدار القوانين والمراسيم وتنفيذها على إقليم الدولة، وهي التي تخول الدولة بعقد الإتفاقات والمعاهدات الدولية وإنشاء السفارات وتعيين الممثلين الدبلوماسيين، وهي التي تضمن المساواة مع غيرها من الدول وتمنع هذه الدول من التدخل في شؤونها الداخلية والخارجية.

نشأة مبدأ السيادة وتطوره

ظهر مبدأ السيادة مع ظهور الدولة القومية الحديثة في أوروبا منذ نهايات القرن السادس عشر، متأثراً بفلسفة العديد من الفلاسفة والكتاب الذين تناولوا مفهوم السيادة بالشرح والتفصيل ومن أبرزهم (جان بودان و توماس هوبز ومن بعدهما جان جاك روسو و جون أوستن...) وتبلور هذا المبدأ بشكله القانوني في معاهدة "وستفاليا" التي أنهت الحروب الدينية في القارة الأوروبية وأقرت مبدأ "سيادة الدولة" على إقليمها. وجاءت معاهدة "مونتفيديو" في العام 1933 المتعلقة بحقوق وواجبات الدول، ومن بعدها ميثاق الأمم المتحدة الموقع في العام 1945 للتأكيد على هذا المفهوم ولتحديد المبادىء التي يقع على عاتق الدول الاعضاء في المنظمة التقيد بها وهي مبدأ المساواة في السيادة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، ومبدأ الإمتناع عن التهديد أو إستخدام القوة ضد وحدة وسلامة واستقلال أية دولة.

مظاهر السيادة في الدولة

تتجلى مظاهر السيادة في أية دولة من الدول عبر مظهرين أساسيين: المظهر الخارجي للسيادة، والمظهر الداخلي لها.

المظهر الخارجي للسيادة: ويقوم على تنظيم العلاقات الخارجية للدولة مع غيرها من الدول وضمن إطار المبادىء العامة للتشريعات والمعايير الدولية والوطنية، ووفقاً للمعايير السياسية والإقتصادية والإجتماعية للدولة.

المظهر الداخلي للسيادة: ويتجلى ببسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وتطبيق القوانين والتشريعات على جميع المواطنين وبشكل عادل ومتساوي ودون تفرقة أو تمييز.

ومن أبرز خصائص السيادة أنها وحدة واحدة لا تتجزأ، وأنها غير منقوصة، ولا يمكن التنازل عنها، وإن تعدد السلطات في الدولة لا يعني أبداً تقاسماً للسيادة وإنما هو تقاسم للإختصاص والوظيفة، ولا يمكن لأي سلطة أو مجموعة ضمن الدولة بأن تدعي السيادة وتمارسها. وبالرغم من أن السيادة القانونية للدول أصبحت مقيدة بتطور العلاقات الدولية وما رافقها من ثورة في تكنولوجيا المعلومات والإتصالات وترابط المصالح المشتركة للمجتمع الدولي، إلا أنها لم تزل إحدى السمات والخصائص الأساسية للدولة التي تميزها عن باقي الكيانات السياسية.

السيادة ومصطلح الدولة الفاشلة

نشهد في عالمنا اليوم، نتيجة لتطور العلاقات الدولية وانتشار مفهوم العولمة وتقلص سلطات الدول ووظائفها العامة، تدخلاً متزايداً للدول الصناعية الكبرى والمنظمات الدولية في شؤون الدول، وتمارس هذه القوى تدخلها عبر استخدامها للشرعية الدولية والإزدواجية في تطبيق تشريعاتها ومعاييرها إلى حد بات هذا التدخل يهدد سيادة بعض الدول (الفقيرة والصغيرة) ويهدد وحدتها واستقرارها ويظهرها بمظهر العاجزة عن تحمل تبعات إدارة الدولة وممارسة السيادة عليها. وهذا ما أدى حديثاً إلى ظهور مصطلح الدولة الفاشلة، بحيث أصبح يستعمل هذا المصطلح بكثرة من قبل السياسيين وعلماء الإجتماع والمنظمات الإنسانية والدولية ووسائل الإعلام للتعبير عن الدولة التي تعجز عن ممارسة سيادتها على كامل أراضيها وعلى حماية مواطنيها ورعاية مصالحهم، وتحقيق الإستقرار الأمني والسياسي والإقتصادي والإجتماعي لهم، وعجزها عن احترام الإتفاقيات والمعاهدات وقرارات الشرعية الدولية.

وبالرغم من أن مصطلح "الدولة الفاشلة" حديث ويصعب تحديد القواعد القانونية والسياسية التي تحكمه، إلا أنه ظهر من يحاول وضع معايير عامة يمكن إستخدامها كوحدة قياس للدولة الفاشلة ومن هؤلاء مؤسسة دعم السلام (the fund for peace) ومجلة السياسة الخارجية الأميركية (foreign policy) حيث وضعا مؤشراً عالمياً لقياس "فشل الدولة" ويتضمن المؤشر إثني عشر مؤشراً فرعياً موزعة على أربع مجموعات إجتماعية وإقتصادية وسياسية وثقافية، وهذه المؤشرات هي:

المؤشرات الإجتماعية:

الضغط الديمغرافي السكاني (سوء التوزيع، زيادة السكان، النزاعات...)

الضغط السياسي الإقتصادي والإجتماعي (الفقر، غياب العدالة والمساواة، هيمنة أصحاب النفوذ، الفساد، المحسوبية، غياب فرص العمل، الغلاء، غياب الإستقرار والأمن والأمان، القضاء...)

ج- الهجرة ( هجرة الشباب والعقول، هجرة رأس المال، هجرة اليد العاملة الفنية، هجرة النخب الوطنية...)

د- تسيب الحدود واللجؤ العشوائي.

المؤشرات الإقتصادية:

غياب التنمية الإقتصادية

الإنحطاط الإقتصادي الحاد (الدخل القومي، الميزان التجاري، تدني قيمة العملة الوطنية، البطالة، الديون...)

-المؤشرات السياسية:

ضعف شرعية الدولة وازدياد التدخل الخارجي في شؤونها (فساد النخبة الحاكمة، غياب الشفافية والمحاسبة السياسية، ضعف الثقة بالمؤسسات العامة والسلطات الحاكمة، هيمنة أصحاب النفوذ الطائفي والسياسي والمالي، مقاطعة الإنتخابات وعدم دوريتها، العصيان المدني، إرتباط الاحزاب والمجموعات بقوى خارجية...)

تدني مستوى الخدمات العامة (الكهرباء، الماء، التعليم الرسمي والخاص، التعليم العالي، الأمن، الطبابة والإستشفاء، الإتصالات، المواصلات...)

ج- غياب القضاء العادل وحكم القانون والمؤسسات (إنتهاك حقوق الإنسان، الحكم العسكري، قوانين الطوارىء والإعتقال التعسفي، غياب المحاكمات، العنف المدني، تقييد حرية الصحافة...)

تشتت الأمن وظهور مجموعات تهدد بوجود كيانات مستقلة داخل الدولة (الميليشيات المسلحة، هيمنة النخبة العسكرية، النزاعات المسلحة، قوى أمنية وعسكرية غير شرعية...)

المؤشرات الثقافية:

تدني مستوى التعليم الرسمي والخاص (المستوى التعليمي، البرامج، عدد الطلاب، عدد المؤسسات التعليمية، الأنشطة التربوية...)

غياب الأنشطة الثقافية (فنون، مسرح، معارض كتب، ندوات، إصدارات...)

الدولة اللبنانية وإشكالية السيادة

تعاني الدولة اللبنانية منذ إستقلالها لإشكالية سياسية تتعلق بفرض سيادتها الفعلية على كامل إقليمها، وهذا الامر له علاقة بطبيعة النظام اللبناني والتركيبة الدينية الطوائفية والتعددية لسكانه، وبالرغم من توافق مواطنيه على دستور موحد للبلاد إلا أن نظام الحكم الطائفي فيه لا يخضع لنص الدستور فقط، بل هو يخضع لدستور آخر غير مكتوب له قوة الدستور ويتعلق بميثاق العيش المشترك والذي يتم على أساسه تقاسم السلطات والصلاحيات والوظائف العامة الرئيسية فيه.

وبالإضافة إلى التعقيدات الداخلية يواجه لبنان مجموعة من المخاطر الأساسية التي تضعه في تحدي دائم لفرض سيادته على كامل إقليم الدولة، ومن أهم هذه المخاطر: - الإحتلال الإسرائيلي الدائم والمستمر لجزء من أراضيه.

- اللجوء الفلسطيني الناتج عن الصراع العربي الإسرائيلي والذي يشكل عبء سياسي وديموغرافي يؤثر سلباً على الإستقرار فيه.

- التدخل الخارجي للدول في الشؤون الداخلية له وارتباط الطوائف والمجموعات السياسية اللبنانية بالدول الإقليمية والعالمية.

- تسيب الحدود ووجود أيدي عاملة عربية وأجنبية كثيفة (شرعية وغير شرعية) تهدد الأمن والإستقرار الإقتصادي والإجتماعي.

- وجود مجموعات وقوى طائفية وسياسية وحزبية ميليشياوية مسلحة توازي في عددها وعتادها القوى الشرعية العسكرية والأمنية وتتفوق عليها.

- الإنقسام السياسي العامودي في المجتمع اللبناني والذي تبلور وتصاعد في الربع الأخير من القرن الماضي، ولم يزل مستمراً ومتصاعداً في حدته لغاية اليوم.

هل يمكن إعتبار لبنان دولة فاشلة؟

إستناداً إلى المؤشرات التي وضعتها مجلة السياسة الخارجية الأميركية، والتي ذكرناها سابقاً، إحتل لبنان المرتبة 43 بين الدول الفاشلة للعام 2011 على الجدول السنوي التي تضعه المجلة، وجاء التقييم على أساس تحليل المؤشرات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية التي يمر لبنان في ظلها. والمخيف أنه إذا أخذنا ذات المؤشرات للعام 2012-2013 التي تحكم الوضع في لبنان لتقدمنا خطوات واسعة وكبيرة على جدول الدول الفاشلة واحتلينا مراتب متقدمة جداً.

وإذا رصدنا هذه المؤشرات وقارناها بالسنوات السابقة لوجدنا أن هذه المعدلات قد إزدادت سوءاً من ناحية الفرز السكاني السياسي والطائفي، وغياب الأمن والأمان، وغياب الشفافية وتعميم سياسة الفساد والإفساد، تضرر النسيج الإجتماعي، البطالة، المحسوبية، الهجرة، إرتفاع الدين العام، تدني نسبة النمو الإقتصادي، غياب خطط التنمية الإقتصادية والإجتماعية، تدني مستوى الخدمات من ماء وكهرباء واستشفاء ودواء وسكن ومواصلات واتصالات، تدهور قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، إزدياد نسبة البطالة وخاصة بين المتعلمين وأصحاب الشهادات العليا، تدني مستوى التعليم الرسمي، تدني مستوى الجامعة الوطنية وإهمالها، إرتفاع مستوى اللجوء واليد العاملة الأجنبية والعربية غير الشرعية، فساد القضاء، غياب الأمن والأمان، الصدامات الدموية بين الفئات والمجموعات المسلحة، إحتكار أصحاب النفوذ المالي والسياسي وأمراء الطوائف للسلطة السياسية والإدارية والإقتصادية في البلاد، تآكل وضعف السلطات العامة في المناطق، إستمرار الإحتلال الإسرائيلي، زيادة حدة الخلافات السياسية والطائفية في المجتمع، تعطل الإنتخابات النيابية، شغور الإدارة العامة من كوادرها، تسيب الحدود البرية والبحرية والجوية، الإعتداءات العسكرية الخارجية المتكررة وانتهاك السيادة اللبنانية...

ما العمل؟

إن الخطوة الأولى الصحيحة للخروج من هذا النفق الذي دخلنا فيه يكون بالتمسك بوجود الدولة القوية والعادلة، الدولة التي تستطيع ممارسة سيادتها على كامل أراضيها، والدولة التي تحمي حدودها وتحمي مواطنيها وتوفر لهم الأمن والأمان ضمن حدودها المعترف بها دولياً، الدولة القادرة على سن تشريعاتها وقوانيها إستناداً إلى مبادىء الحق والعدالة والمساواة وعلى تطبيق هذه التشريعات والقوانين على جميع مواطنيها وعلى كامل إقليمها، الدولة التي يسود فيها حكم القانون والمؤسسات، الدولة التي تعيد بناء نظامها على أسس صلبة وسليمة من الديمقراطية والشفافية والمواطنة الحقيقية...

إن خلاصنا كمجتمع في دولة نفتخر بتعدديتها وتنوعها الطائفي والسياسي والثقافي والإقتصادي يكون بتوافقنا على عقد إجتماعي ونظام سياسي يحترم حرية وخصوصية وحقوق المجموعات المختلفة، ويوحدها تحت سلطة قانون مدني موحد وعادل، وبتسليم جميع أبنائه بنهائيته، خاصة أننا مررنا ونمر بتجارب داخلية وخارجية وحروب أهلية دفعنا فيها ثمناً غالياً من دماء أبنائنا وأحبائنا، وذقنا خلالها مرارة النزوح والتهجير والهجرة والالم والمعاناة، وتراكم لدينا رصيداً كبيراً من الحزن والألم الكفيل بأن يعيدنا إلى جادة الصواب، فهل سنكتفي بما أصابنا أم أننا بحاجة بعد لمزيد من التضحيات الغالية والمجانية؟

إن دولة غير قادرة على تجديد نخبها السياسية والإقتصادية وتداول السلطة معطل فيها بسبب هيمنة نخبة طائفية وسياسية ومالية على مقدراتها، هي دولة فاشلة بكل المعايير، وخلاصها الوحيد يكون بخلاصها من أصحاب النفوذ الذين يتحكمون بحاضرها ومستقبلها. وكرة التغيير غالباً ما تكون بيد الشعب، المصدر الوحيد للسلطات، فهل يكون الشعب اللبناني على قدر المسؤولية ؟ أم سنرتضي بأن نكون دولة فاشلة وعاجزين عن الإنتقال إلى الدولة – الوطن؟!

..

* أحمد حسّان

تعليقات: