المجتمع المدني والطبقة السياسية

هل من دور للمجتمع المدني؟
هل من دور للمجتمع المدني؟


لأول مرة يشارك ممثلون عن المجتمع المدني في لقاء مخصص للحوار بين القيادات السياسية اللبنانية في «سان كلو». فهل كان الأمر مبنيا على حسابات مدروسة ام انه مجرد تنفيذ لرغبة وزير الخارجية الفرنسية برنارد كوشنير في رؤية ممثلي المجتمع المدني يجلسون خلف طاولة الحوار اللبناني؟ هناك سببان سمحا لمبادرة الوزير الفرنسي بأن تسلك طريقها الى التنفيذ في اطار هندسة ناجحة «لمشهد» الحوار. الاول تمثل في انخفاض سقف التوقعات مسبقا. والثاني تمثل في درجة الاهتراء السياسي الذي وصلت اليه الامور في البلاد. وبرغم الحيثيات التي تدل على ضعف تأثير منظمات المجتمع المدني على الساحة السياسية اللبنانية، فإن ضوءا كبيرا قد جرى تسليطه بهذه المناسبة على قطاع لبناني تعاظمت ادواره بسبب الفراغ الناجم عن ضعف الاحزاب العلمانية وغياب الدولة المدنية وتقهقر دولة الرعاية تحت تأثير العولمة. ان اجتماع اسباب خطيرة كهذه في بلد من البلدان من شأنه ان يجعله مسرحا لشتى انواع الاضطرابات الاجتماعية والسياسية. لذا فقد بدا جلوس ممثلي المجتمع المدني الى جانب ممثلي الاحزاب والزعامات الطائفية مشهدا غير متجانس وغير مألوف في الحياة السياسية اللبنانية. وقد بدت المفارقة كبيرة في الصورة التي جمعت أشخاصا يمثلون مصالح سياسية متضاربة الى حد «الاقتتال»، وآخرين يمثلون رؤية «سوريالية» متفائلة تتلخص في «بناء دولة المواطنة بدلا من دولة الطوائف». ان قبول دور للمجتمع المدني ـ ولو بشكل اعلامي او شكلي ـ من قبل الطبقة السياسية اللبنانية، لهو دليل على وجود مأزق كبير يحتاج الى عناية قسم «الاغاثة والطوارئ» في الجمعيات الاهلية. فلا بأس من تقاسم المسؤولية مع شركاء جدد غير محسوبين ضمن موازين القوى الفعلية! ما يعيد الى الاذهان ان الغائب النوعي عن اجتماعات «سان كلو» (ومثيلاتها) هو الاحزاب السياسية العلمانية، وهي احزاب قليلة العدد وهامشية بسبب عودة المجتمع اللبناني الى مكوناته البدائية، وبسبب تشوهات ذاتية وخلقية تعاني منها تلك الاحزاب. وقد استبعدها الوزير كوشنير عن«سان كلو» حين حصر الدعوة بمن شاركوا سابقا في الحوار الذي جرى في المجلس النيابي العام الفائت. ولا ندري ان كان كوشنير يعلم ان الحزب الشيوعي اللبناني مثلا (وهو اكبر الاحزاب العلمانية) قد استبعد عن طاولة الحوار لأنه لا يمثل حيثية طائفية، وليس بسبب هامشيته!

ان نظرة فاحصة من خارج الاسوار اللبنانية، تُظهر للمحايد، ان اقصى طموح ممكن اليوم، هو تسوية جديدة (لعينة!!) تمنع الحرب والفوضى لعقد او اثنين. وان «المستحيل المؤجل» هو بناء الدولة المدنية، التي لا تؤخر او تقرب موعدها، اجتماعات مخصية النتائج، سواء شارك فيها ممثلو المجتمع المدني، او الاحزاب العلمانية الهامشية.. او حتى المنظمات الانسانية التابعة للأمم المتحدة. يكمن السبب في ان الطبقة السياسية اللبنانية تفضل الذهاب الى الحرب على الذهاب الى «مقبرة» الدولة المدنية. وهو موقف سياسي ينم عن عدوانية طبقية واضطراب سلوكي استعلائي سببهما الثقافة اللبنانية «الاعتدائية» التي تبيح «لمواطن مستأسد» قتل مواطن آخر من اجل خلاف على اولوية المرور! فكيف اذا ما كان الخلاف داخل الطبقة البورجوازية نفسها حول الصلاحيات والامتيازات وحقوق «الوراثة السياسية» و«البيوتات الاقطاعية» و«المقاعد المحجوزة» لهذه العائلة او تلك في المجلس النيابي؟

ان القاء اللوم على المواطنين «المتعصبين» وتحميلهم مسؤولية عرقلة بناء الدولة، هو تضليل يهدف الى تجهيل الفاعل الحقيقي. ولا بد من الاشارة الى ان وجود الدولة، كمرجعية عليا للمواطنين، يمنع الحروب الاهلية وتسلط رجال السياسة وازلامهم على الناس، ويضع حدا للتدخلات الخارجية. في كل الاحوال سيسجل لبرنارد كوشنير انه أحب لبنان اكثر من سياسييه، وانه بقي وفيا لنشأته وجذوره الاشتراكية في العمل السياسي والانساني، رغم انتقاله من اليسار الى اليمين في وقت لم تعد تعرف فيه الحدود بين الاثنين. واذا كان هناك من نصيحة يمكن توجيهها لوزير الخارجية الفرنسي مع اقتراب عودته الى بيروت، فهي ان يعمل على خطين: خط التسوية في ما يتعلق بملف الاستحقاق الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، وهو شأن يخص القوى السياسية. وخط الاصلاح الدستوري وهو شأن يستطيع المجتمع المدني ان يلعب فيه دور محامي الدفاع عن فكرة الدولةالمدنية في مواجهة محامي الادعاء المتمثل بالطبقة السياسية. واذا كان لا بد من صفقة قانونية بين الاثنين (على الطريقة الاميركية) فبالامكان «رشوة» النواب بالتمديد لهم اربع سنوات مقابل توقيعهم على مراسيم الدولة المدنية. فمن صبر على الضيم نصف قرن او اكثر، بامكانه ان يتحمل الملل اربع سنوات اخرى. غير ذلك ما هو دور المجتمع المدني على طاولة الحوار بين القوى السياسية؟

([) كاتب لبناني

تعليقات: