مهنة مقنّعة يتنصل منها أصحابها.. لا أحد يحب السماسرة

في مكتب عقاري: لا أحد يحب السماسرة
في مكتب عقاري: لا أحد يحب السماسرة


كل مواطن سمسار. هذه تقريباً المعادلة. لا يحتاج السمسار، كما هو عندنا، إلى مكان، أو واجهة تعلن عن وجوده. يكفيه أن يملك أذنين، وأن يسمع بهما. إذ يبدو، في أحاديثهم، السمع وحده أداة شغلهم. يقولون إنهم سمعوا عن بيت هنا، أو أن فلاناً يريد استئجار بيت بمبلغ كذا.

هذه وظيفة للعموم. لا اختصاص ولا إجازات من أي نوع. يمكنك أن تكون سمساراً لأنك سمسار.

وهم، في التزامهم هذا الشغل، لا يقدمون توصيفاً موحداً عن أنفسهم. لكنهم، إلى هذا الحد، ينفرون من تسمية السمسار. مفهوم تماماً. نعرف من يومياتنا المدلول السيئ للكلمة. وهذه التسمية، في محاولتها تحديد الفعل، لا تأخذ جانبه الوظيفي، إنما، مخالفة المفترض في التسميات، تذهب إلى غاية أحادية منه حصراً. نقول إن الرجل يسمسر، بدلاً من توسطه بين طرفين. وهذا ما لا تخفى دلالته. لا يعترض حسن عميران (أبو أحمد) مباشرة على التسمية. لكنه في حديثه يقول: «نسمى وسطاء عقاريين». وهو، في تدعيم رأيه، ينظر إلى مجالسيه على الرصيف، مكانه اليومي. يهزون رؤوسهم طبعاً. تدرب نفسك، بعدها، بتلقائية على استعمال لغته. هكذا، «باعتباركم وسطاء عقاريين ماذا تفعلون؟». إذ يبدو تلميحه إلى التسمية، من خارج سياق حكيه، أقرب إلى التحذير. لكنه يعرف، في الغالب، أن الاستدلال إليه لا يتم إلا بتسميته سمساراً. إذ إنه لا يملك محلاً ثابتاً. مَن يدلك إليه يقُل إنه إلى جانب قصر آل سلام في المصيطبة.

«عداوة كار»

لا محل ولا لافتة تدل إلى الوسيط العقاري. والرجل، صاحب محل الزيتون والمخللات، حين تسأله عن سمسار قريب، يدلك إلى محل ساعات. المحل بالكاد يتسع لصاحبه. لكن الحاج أبو أحمد ليس صاحبه أيضاً. يقول إنه لعمه، لكنه يساعده. وكان العم معنا على الرصيف أيضاً. السمسرة لا تحتاج إلى مكان. وهو في شرح مهنته يحول يده إلى هاتف. ويرفعها إلى أذنه. «يتلفنون لي، ويسألون». أو «أتلفن وأخبرهم». وهذه اليد الهاتفية مشتركة بين العاملين في المجال. وهي تبدو أقرب إلى التبرؤ من مأسسة المهنة. كأن التوسط بين الناس يحصل من تلقاء نفسه، وليس عبر تدبير معين. هكذا، لا يقبل الخبير العقاري وليد أن يُنسب إلى السماسرة. انه ملتزم لدى المحاكم. ليست وظيفة رسمية. بل أقرب إلى استشاري تستعين به المحاكم. ولا يُحصل على اللقب من غير امتحان.

يفصل الخبير بين الخلافات. ويقدم تقارير إلى المحاكم، بعد أن تنتدبه لمهمة محددة. ليس سمساراً. لكن الخبير يتحول، تلقائياً، إلى سمسار. هذا في الغالب. يرفض وليد الفكرة، في البداية. يرفع يده مثل الهاتف. ثم يقول إن توسطه بين الناس يحصل بالصدفة. «يقولون وأقول لهم». كأنها خدمة لصديق، مثلاً. لكنه، لاحقاً، في حديثه عن السماسرة ينزلق في خطاب «عداوة الكار». وهو في الغالب يسميهم بـ«سماسرة الشنطة»، تقليلاً من شأنهم. لا هوية لهم ولا مكان. يتنقلون في الشارع، فحسب. وهو إذ يجرب أن يفصل نفسه عن سمعتهم، يدلل إلى استخدامه الأوراق. يعني، يسجل العقود بينه وبين الزبون. ويعرف كيف يقرأ الخرائط. ويقدر، أكثر من ذلك، على تثمين دقيق للأبنية وتحديد عامل الاستثمار في كل منطقة. «هذه مسائل لا يعرفها أغلب السماسرة الذين يضربون ضربات، من دون شغل احترافي».

مراتب

والسماسرة مراتب. والخبير، ربما، في المرتبة العليا. مكتب وسكرتيرة لطيفة. هذا ما لا نجده دائماً. وهو إذ يبدو غير مقدر للسماسرة الصغار، إلا انه متعاون معهم. يمكن أن نذكر أم علي. وهذه، وفق وليد، سيدة ثمانينية. سمسارة. يستفيد من الكشف الذي تجريه للمدينة. تدور وتعرف ما هو معروض. شقق أو أراض، بيع وإيجار. يقول إنه لا يثق بمعلوماتها. «لكني آخذ منها الفكرة، على الأقل». وهذه لن تكون، حتماً، بلا عمولة. وهناك فيكتور. وهو صاحب محل حلاقة في شارع الحمرا. لا يريد فيكتور أن يتحدث في هذه المسألة. أصلاً هو ينفي أنه يشتغل سمساراً. لكنه يسمع، من زبونه مثلاً، ويساعده. عادي. وهو يعلق، للمفارقة، ورقة على واجهة محله «نشتري عقارات».

وهذا ليس مـــــزاحاً. إذ يمكن الزبـــــائن أن يكتشفوا، في آخر الوساطة، أن السمسار نفســــه صاحب الشقة الــــتي يرغبون في شرائها.

لا ينفي الحاج أبو أحمد تعاونه مع سماسرة آخرين. إذ تصير خريطة المعروضات أوسع. هكذا، يأخذ كل سمسار من الطرف الذي يمثله عمولته. وهذه، في العرف، يجب أن تكون 2 ونصف في المئة. «لكن لا أحد يلتزم بها، تقريباً»، يقول. وحين تسأله عن المنفعة المادية من هذه الشغلة، يبتسم. ويقول إنه لن يكذب ويقول إنها لا تربِّح. وهذا ما لا يبدو وليد بعيداً منه. لكن الأخير، مثلاً، يسخر من اهتمام السماسرة بربح «هذه الـ500 دولار». كأنها لا تعني شيئاً. هكذا، تبدو السمسرة شبكة، بعناصر متنافسة، لرسم الخرائط.

مماطلة

نركن إلى تنميط سائد. هكذا، نعرف أن أحداً لا يحب السماسرة. ووليد يجرب أن يحملهم كل ما يشاع عن الوساطة. مثلاً، «هم مَن ساهموا في الرفع الوهمي لأسعار العقارات، وليس الكبار». يلعب السمسار على زبونه. ينصحه برفع الأسعار فيخسر الطرفين. يدعي أن لديه زبوناً يدفع ما يُطلب منه. لكنه يختفي. «تركب في رأس صاحب العقار، فيرفع السعر. هكذا، ترتفع أسعار العقارات المجاورة». لا نجد هجوماً مضاداً عند السماسرة. تسأل الحاج أبو أحمد عن الخبراء العقاريين. يقول إنهم الكبار ولا شأن لنا بهم. «يلعبون على كبير»، تحديداً. وهو الذي بدأ السمسرة، أو الوساطة، لمساعدة أقربائه المهاجرين في شراء عقارات في بلادهم، في آخر التسعينات، يصر أنه لا يزال يعمل على نطاق ضيق. لا يتهرب من السمعة السيئة. يحمل الناس المسؤولية، طبعاً. إذ أنهم يحبون أن يوفروا. لكنه يقول إن بعض السماسرة يهمهم أن «تمشي الأمور بأي طريقة، من أجل العمولة». لكنه ليس منهم. «نعمل على المصداقية. ولا نغش أحداً».

يماطل السمسار. هذا أقرب توصيف إلى سلوكه، تقريباً. إذ انه يرغب دائماً في تعليق الزبون عنده. كأن قوله إنه لا يعرف خروج عن قواعد المهنة. يجب أن يكون دائماً متمكناً من طلبات الزبون. ولو في الوهم. هذه حكاية واحدة كمثال. زينب شيراوي طالبة جامعية. تبحث، منذ شهرين، عن بيت مشترك مع رفيقاتها. لجأت إلى سمسار. أخذها إلى بيت. أعجبها وقال إنه سيفرغ بعد أيام. اتفقا، في المبدأ. اتصلت به مجدداً، كما اتفقا. قال إن البيت سيتأجل إخلاؤه شهراً إضافياً. لا مشكلة، طالما أن الموعد الذي حدده يسبق بداية السنة الدراسية. لكـــــنه في اليوم المحدد أخذها إلى شقة أخرى. وهو لم يمتنع عــــن وعود جديدة تؤجل الحسم إلى أيام مقبلة. والبيت مسكـــــون. وحين سألت قال لها جيران إن البيت لن يخلى قريباً.

لا نقابة

لا شيء ينظم هذه المهنة. لا توجد نقابة، مثلاً. ولا يمكن، في غياب عقود، أن يُحاسب أحد. تحصل الأمور «على السمع». وإذا تلقيت، يوماً، اتصالاً يسألك صاحبه عن رغبتك في بيع منزلك، لا تُفاجأ. الــــشائعات كثيرة. صــالون الحلاقة مكان مثالي. لا يريد أن يصرح فيكتور. لكن صديقه تحدث عنه. بدت، في سياق الحكي، كأن شغل السمسرة تهمة. وهو، من باب دفعها عن صديقه، قال إن البــــلد كلها يشتغل بالسمسرة. «والســــماسرة الكبار هم الزعماء والوزراء والنواب». وهـــــذا الكليشيه الوطنــــي يصلــــح خاتمة. أو لطــــشة يليها تصفيق الجمهور.

لمرة واحدة

كان حسن سمساراً لمرة واحدة. وكلته قريبة له، مسافرة، أن يؤجر شقتها في بعبدا. استعان بإحدى صحف الإعلانات الأسبوعية. وكانت قريبته قد أخبرته بالسعر الذي تطلبه. وتركت له إضافة عمولته على المبلغ. هكذا، وبعد اتصال عدد من الزبائن ولم يتوصل مع أحد منهم إلى اتفاق، وقع العقد مع سائح. حصّل بمجهود قليل تقريباً 1300 دولار. وهذه الوساطة، الأقرب إلى الصدفة، تعبر عن حجم المنفعة. أو المبلغ الذي يمكن توفيره في حال كانت العلاقة مباشرة بين الطرفين. وهذا ما يمكن أن يقوم به «الفايسبوك» تقريباً. برزت من فترة طويلة مجموعة «Apartments in Beirut (for Renters and Rentees)» التي تضم أكثر من 7 آلاف عضو. إذ يعرض المالك مواصفات شقته وصورها. أو يحدد الزبون طلبه في المنطقة وعدد الغرف والسعر. لكن السماسرة لا يغيبون هنا أيضاً. إذ يبدو واضحاً تسخير بعضهم المجموعة لتسويق ما يملكون.

الخبراء العقاريون

ينتظم الخبراء في نقابة تدير شؤونهم. وتجري امتحانات الانتساب إلى المهنة كل أربع سنوات. المرشح يجب أن يكون مجازاً أو يملك، على الأقل، خــــبرة عشر سنوات عمل في العقارات، مثل وليد. ولا تفترض المهنة، في توصيفها، ما له العلاقة بالسمسرة. لكن العادة حكمت.

إذ يمكن تخيل أول الخبراء العقاريين في هذا العالم قد قرر استعمال معرفته ونفوذه في الوساطة بين الناس. وهو ما يلتبس عند الناس. والخبير استشاري لدى المحكمة. وفي الغالب يكون لتقرب الخبير من القاضي دوراً في انتدابه دون غيره في تقديم تقارير تخص الصراعات العقارية. هكذا، يصير الخبير مسؤولاً أمام الناس والقضاء. ويمكن أن ترفع عليه الدعاوى في حال مخالفته لأصول العمل. لكن هذا كله لا علاقة بالسمسرة طبعاً.

تعليقات: