الحرمان من الحرية: مكتب المخدّرات يرتكب جريمة موصوفة

عمد المكتب الى سوق الموقوفين لديه دفعة واحدة بعد تصاعد احتجاجات بعض القضاة (مروان بو حيدر)
عمد المكتب الى سوق الموقوفين لديه دفعة واحدة بعد تصاعد احتجاجات بعض القضاة (مروان بو حيدر)




كلّما أتى ضابط إلى رئاسة مكتب مكافحة المخدّرات المركزي في قوى الأمن الداخلي، ابتكر مخالفات فظيعة للقانون، على مرأى ومسمع من القضاء، من النيابة العامة التمييزية وصولا الى محاكم الجنايات والتمييز. وكل ذلك من دون أن يتحرّك أحد من المعنيين في السلطة القضائية لردع هذا الفلتان الواقع في غير محلّه القانوني، والضارب بحقوق الإنسان عرض الحائط

لأسباب غير مقنعة، وعلى مدى أكثر من أسبوعين، رفض ضبّاط مكتب مكافحة المخدّرات، سَوْق الموقوفين لديهم إلى القضاء لمباشرة التحقيق الاستنطاقي معهم، واتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية بحقّهم، مدعين بأنّهم ليسوا مكتب سَوْق، وبأنّهم غير معنيين على الإطلاق، بإحالة الموقوف، أو مجموعة الموقوفين، على القضاء العدلي تحديداً.

ولا يعني هذا التصرّف، سوى استمرار التوقيف لدى مكتب مكافحة المخدّرات في نظارته، إلى وقت غير معلوم، فيما يفترض أن يكون التوقيف مغطّى بإشارة من النيابة العامة عند حصول التوقيف، ومن ثمّ بمذكّرة توقيف وجاهية من قاضي التحقيق. وخلاف ذلك، يعتبر التوقيف افتئاتاً على حقوق الموقوف الذي يفترض أن يمثل أمام قاضي التحقيق في غضون 48 ساعة كحدّ أقصى منذ توقيفه، ويحال على سجن رومية المركزي على سبيل المثال، بعد استجوابه وإصدار مذكّرة توقيف وجاهية بحقّه، وإلّا يصبح التوقيف مخالفاً للقانون، وقد يقرّر القاضي ترك الموقوف المُسْتَجْوَب بسند إقامة، أو إخلاء سبيله، وبقاءه لدى مكتب مكافحة المخدّرات من دون استجواب قد يؤجّل هذه العملية القانونية، ويصبح التوقيف حجزاً للحرّية فهل هذا المكتب قادر على تحمّل هذه المخالفة؟

المادة 107 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تتحدّث، وبشكل واضح، عن أنّ استمرار احتجاز الشخص الموقوف أكثر من أربع وعشرين ساعة من دون أن يُحْضَر إلى النائب العام، هو عمل تعسّفي، ويلاحق الموظّف المسؤول عنه بجريمة حرمان الحرّية الشخصيّة، وقد أبقى مكتب مكافحة المخدّرات، الموقوف أو مجموع الموقوفين لديه، أكثر من هذه المدّة، ليصبح عمله ليس مخالفاً للقانون وحسب، وإنّما جريمة تقتضي ملاحقة القائم بها والمسؤول عنها، وهي جريمة موصوفة اسمها «الحرمان من الحرّية الشخصيّة».

والمسّ بجوهر التوقيف الاحتياطي للانسان، ليس بالأمر السهل، فهل يعقل أن يزيد ضبّاط هذا المكتب مدّة التوقيف ويطيلوه من عندياتهم وبدون مسوّغ قانوني؟ وهل أراد هذا المكتب الحلول مكان القضاء في الإدانة والتجريم، أو أخذ دور ليس مصمّماً على مقاسه؟ فهو مجرّد ضابطة عدلية ليس إلا، يعمل بإمرة القضاء، وليس القضاء من يعمل تحت جناح هذا المكتب الذائع الصيت في «جمهورية المخالفات» على حدّ توصيف قاض في مجلس ضمّه وزملاء له في إحدى الغرف المكيّفة في قصر عدل بيروت.

تحظّر الفقرة الثالثة من المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، على مساعدي النيابة العامة من الضبّاط العدليين احتجاز المشتبه به في نظارتهم إلا ضمن فترة لا تزيد على ثمان وأربعين ساعة تمدّد لثمان وأربعين ساعة أخرى بناء على موافقة مسبقة من النيابة العامة، فهل التزم مكتب مكافحة المخدّرات بنصّ هذه المادة القانونية وهو الذي أبقى موقوفين لديه مدداً طويلة بحجج واهية؟

لا لم يلتزم. ولكن يبدو أنّ هناك من نصح مكتب مكافحة المخدّرات بتسوية الامر كيفما كان، فساق كلّ الموقوفين لديه، أو معظمهم، دفعة واحدة إلى دائرة التحقيق في بيروت يوم الاثنين في 2 أيلول 2013، في محاولة يائسة لتصحيح ما ارتكبه من مخالفات لا يمكن السكوت عنها وتجفيف تداعياتها، لئلا تتكرّر في المستقبل، خصوصاً أنّنا معتادون في لبنان على تمرير المخالفات من دون محاسبة، وهو ما يتنافى مع مبادئ بناء دولة القانون والمؤسّسات، كما أنّ وقوع لبنان في مهبّ السيّارات المفخّخة، ومصيدة الفلتان الأمني، لا يعني أن يتمّ التغاضي عن مخالفات جهاز أمني عادي، فكيف إذا كان من الضابطة العدلية؟.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ بعض الأجهزة الأمنية يُبْقون الموقوف، أو الموقوفين لديهم في ملفّات حسّاسة، فترة زمنية تتجاوز اليومين، وذلك إلى حين شفائهم من آثار الجروح والندوب الظاهرة على أجسادهم نتيجة تعرّضهم للضرب المبرح، والتعذيب العاصف، خلال التحقيق الأولي معهم. وهناك قضاة تحقيق رفضوا في السابق استقبال موقوفين مُدَّمين في دائرتهم، على الرغم من سوقهم إليهم، وكان يتدخّل قضاة أعلى منهم درجة ومنصباً، وخصوصاً في سدّة النيابة العامة التمييزية، ويطلبون منهم استلام الموقوف بوضعه المؤلم الذي يرثى له، وذلك بحجّة «مصلحة الدولة العليا»!، فيلبّي بعضهم قسْراً ورغماً عنه، ويتمسك بعضهم الآخر بالرفض الشديد، لئلّا يتحمّلوا أيّة مسؤولية غير قانونية تنتج عن هذا التعذيب، كما أنّ قبولهم بالموقوف كما هو، يعني تغطية ضربه وتعنيفه وتعذيبه قانوناً، وهو أمر لا يقبل به إلا من اعتاد على الخلود إلى وسادته، وضميره يؤنّبه على ما اتخذ من قرارات، وأصدر من أحكام.

واستهجن محامون كيف أنّ هناك قضاة جاروا مكتب مكافحة المخدّرات في سلوكه غير القانوني، بصمتهم وتغاضيهم عن هذه التجاوزات، وبدلاً من أن يتعاملوا بشدّة وحزم، مع رفضه اقتياد الموقوفين للتحقيق معهم لديهم، لمس المحامون تهاونهم معه في تواطؤ مريب عن طريق الاكتفاء بتكرار طلب السَوْق كمن يتفرّج على فريسة تذبح حقوقها أمامه وبيده قرار منع التعرّض لإنسانيتها، فيما هو قادر على أن يفعل أكثر من ذلك بكثير، لاسيّما وأنّ زمام القيادة بيده، والقضاء برسالته وعدالته، أسمى بكثير من سلوكيات أيّ جهاز أمني يحاول فرضها عليه.

ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ وردت يومياً، وطوال فترة امتناع مكتب مكافحة المخدّرات عن الالتزام بالقانون، ادعاءات بموجب «ورقة طلب» من النيابة العامة، على قضاة التحقيق المناوبين في العطلة القضائية الصيفية في بيروت على سبيل المثال، طاولت أشخاصاً موقوفين لدى هذا المكتب، وقام المساعدون القضائيون بواجباتهم، بالاستفسار عن مكان توقيف الشخص المحال عليهم، وأجروا الاتصالات الهاتفية بمكتب مكافحة المخدّرات الذي يبدو أنّه حفظ لازمة واحدة لم يتوان عن تردادها كمحطّ كلام: «نحن لسنا مكتب سَوْق»، ثمّ رفع نبرة صوته مهدّداً: «اتصلوا بالمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي»، أيّ أبلغوها بما يفعله المكتب، وكأنّ هذا المكتب لا يأبه لمديريته، ولا مرجعية أمنية له توقفه عند حدوده، وتلزمه بتقدير القانون واحترامه. وكان المساعدون القضائيون ينقلون الجواب النهائي لمكتب مكافحة المخدّرات إلى قضاتهم، فيلتزمون الصمت الجارح، وبعضهم هزّ رأسه امتعاضاً، مكتفياً بهذا التأفّف، وهو أضعف الإيمان.

وهذا الفعل الجرمي بحقّ حقوق الإنسان الذي هو بريء حتّى تثبت إدانته قضائياً وليس بتحقيق أولي ينظّم في كهوف الأجهزة الأمنية، استدعى سلسلة أسئلة لمنع تكرارها.

فماذا يقول مسؤولو مكتب مكافحة المخدّرات، وماذا تقول مرجعيته الرسمية المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ووزير الداخلية، إزاء هذا التصرّف الشاذ، فضبّاط المكتب وعناصره عُرْضة للتغيير والانتقال إلى مراكز أخرى ضمن تشكيلات معتادة، فهل يحملون معهم التصرّف نفسه برفض سَوْق الموقوفين ومعاملتهم بهذه الطريقة المهينة؟ أليس من حقّ الموقوف أن يمثل، بعد انتهاء التحقيق الأولي معه، أمام القضاء؟ ومن يتولّى عملية السَوْق إذا كان الموقوفون موجودين لدى مكتب مكافحة المخدّرات؟ في السابق كان مكتب المخدّرات يقوم بسوق الموقوفين لديه، فلماذا ارتأى تغيير هذا النمط؟ وهل يريد المكتب المذكور أن يقوم القاضي بسَوْق الموقوف بنفسه إلى دائرته فيلعب دوراً ليس له ولن يكون؟ وهل يتحمّل هذا المكتب مسؤولية إبقاء موقوفين لديه إذا ما أصابهم مكروه أو ماتوا؟ ولماذا تنفّذ بقيّة وحدات الضابطة العدلية ما يطلب منها بسَوْق الموقوفين لديها إلى القضاء، وأحياناً لا تخلو هذه المهمّة من مخاطر ومشقّة بفعل المسافة المطلوب إيصال الموقوف فيها إلى الجهة القضائية المعنية، فيما يحاول مكتب المخدّرات أن يخالف النظام العام، وأن يخطّ نهجاً جديداً وعلى حساب حقوق الموقوفين؟ وكيف يقبل القضاء واقفاً كان أم جالساً، بأن يملي جهاز أمني وضابطة عدلية أسلوب العمل عليه وطريقة التفكير؟ ألا يعتبر القضاء متخلّياً عن مسؤوليته بإحقاق الحقّ في حال انقاد لدور الشرطي؟ كما أنّ التذرّع بعدم وجود آليات لسَوْق الموقوفين، ضعيف وباهت، والمسافة بين العدلية ومقرّ مكتب مكافحة المخدّرات المركزي في «مجمّع حبيش» في محلّة الحمراء، قصيرة ولا تستغرق أكثر من ثلث ساعة قابلة للانخفاض بإطلاق العنان لبوْق السيّارة، ويمكن تدبّر آلية سَوْق، وسيّارة عادية وجيب عادي، وهو أفضل من موت إنسان في نظارة التوقيف على ما يرى محامون.

لقد عرف المعنيون في القضاء بفعلة مكتب مكافحة المخدّرات، فلماذا سكتوا؟ وإن لم يصل الأمر إلى أسماعهم فتلك مصيبة، مع أنّ مخالفة مكتب المخدّرات الصريحة والواضحة كانت على بساط الكلام بين عدد من القضاة في مجالسهم.. وفي الحالين، كان الإنسان يدفع الثمن وغالياً ومن حرّيته وحقوقه، فهل هكذا تبنى الدولة العادلة والقادرة؟.

تعليقات: