الطاحونة السّورية والغلّة اللبنانية


ما يجري في سوريا اليوم من أحداث مأساوية دامية ومن مجازر وحشية متنقلة، وما تشهده البلاد من خراب ودمار شامل، لا يصح تشبيهه إلا بالطاحونة العمياء التي تطحن الدولة السورية بجيشها وشعبها ومعارضتها واقتصادها ونسيجها الإجتماعي والثقافي والتاريخي والحضاري. ولم يقتصر عمل هذه المطحنة على الدولة السورية، بل جذب رحاها التنظيمات الإرهابية والتكفيرية والسلفية من خارج الاراضي السورية، وجذب أيضاً قوى المقاومة في المنطقة وأدخلها في ملحمة الجنون السورية وحرف نضالها عن مقاومة العدو الإسرائيلي إلى مكان آخر وساحات معارك أخرى لم تكلف أعداء المنطقة عناء تقديم نقطة دم واحدة، ولا رصاصة واحدة، ولا حتى حبة غبار...

أمام هذا الخراب والدمار والضحايا والدماء التي تسقط يومياً يصبح من العبث البحث عن الأسباب وإلقاء المسؤوليات، لا تهيباً من ذلك، بل لأن صورة ألاهداف الحقيقية من كل ما يجري أصبحت واضحة، وأن اللاعبون الفعليون هم انفسهم (وإن كثر الوكلاء)، والمستفيديون أيضاً. ولكن ماذا عن الضحايا؟ وما هو مستقبل المنطقة؟ وما هي الإرتدادات المأساوية التي ستنعكس علينا في لبنان؟ كلها أسئلة ملحة تتطلب إجابات لن تكون واضحة المعالم في ظل غبار المعارك الميدانية المتصاعدة، ولكن الشيء الثابت والوحيد هو أن هذه الحرب تستنزف الإمكانات البشرية والمادية والأخلاقية والحضارية لشعوب هذه المنطقة، وهي تستهدف القضاء على روح الوحدة والمقاومة فيها، وليس من الصدفة بمكان أن يسود الصمت عن تدمير الحاضرات والعواصم التاريخية العربية والإسلامية في سبيل تحقيق ذلك، فها هي بغداد عاصمة الخلافة العباسية قد دُمرت على يد مغول العصر، وها هي دمشق عاصمة الخلافة الأموية تُدمر على رؤوس أهلها، وها هي القاهرة عاصمة الفسطاط والخلافة الفاطمية توضع على حد المقصلة، وها نحن أصبحنا أكثر بعداً عن فلسطين مهد السيد المسيح وأرض الإسراء والأقصى وقبلة الديانات السماوية.

أمام هذا الدمار الكبير، قد يصبح السؤال عن موقف القوى الحية في هذه المنطقة ملحاً وضرورياً، وكذلك السؤال عن مصلحتهم في كل ما يجري، فالنتائج الأولية للمأساة السورية، بعد المأساة العراقية، تشي بخسائر فادحة تتعدى عشرات الآلاف من القتلى والمصابين، وبملايين النازحين والمشردين، ومليارات الدولارات من الخسائر المادية المباشرة، هذا بالإضافة إلى الخسائر الفادحة التي منيت بها الدول المجاورة والمشاركة في الحرب السورية العبثية والتي تتحدث عن أرقام مخيفة تتجاوز عشرات المليارات التي تصرف سنوياً، وخاصة من قبل السعودية ودول الخليج العربي وإيران، ثمناً للسلاح والذخيرة ودعماً للجهود الحربية للأطراف المتقاتلة، وكل ذلك على حساب شعوب هذه الدول ومستقبلها، وعلى حساب مشاريعها وخططها التنموية والإقتصادية والإجتماعية...

ماذا عن لبنان؟

قد يكون لبنان أكثر الدول المتضررة من جراء المأساة السورية، وذلك لقربه الجغرافي منها، وللعلاقات العائلية والأسرية والإقتصادية والتاريخية والثقافية بين الدولتين. ولبنان قبل هذه الأزمة كان يعاني من دفع تكاليف باهظة لسد حاجات المواطنين اللبنانيين من الخبز والماء والكهرباء والتعليم والطبابة والبنية التحتية والخدمات، وكان يعاني أيضاً من نسبة مرتفعة من العاطلين عن العمل، والذين تجاوزت نسبتهم الفعلية ال 20 بالمئة من القوة العاملة. أما اليوم فإن نتائج هذه الأزمة الكارثية قد أدت إلى سقوط مئات الضحايا البشرية من اللبنانيين، وإلى وقوع خسائر إقتصادية تتجاوز بحجمها الهائل والمباشر مئات الملايين من الدولارات، وإلى تفاقم الأزمة المعيشية للبنانيين بوجود مئات آلاف النازحين السوريين الذين لا ذنب لهم في كل ذلك سوى أنهم أبرياء وقعوا ضحية مؤامرة دولية وتنازع على النفوذ بين الدول الإقليمية والدولية، وهم يدفعون الثمن على يد أدوات محلية، من النظام والمعارضة على حد سواء، والذين لا يجمع بينهم سوى المشاركة في تدمير الوطن.

إن إمكانيات الدولة اللبنانية محدودة جداً أمام نتائج هذه الكارثة الإنسانية، وهو لن يقوى على الصمود طويلاً أمام هذا العبء البشري والإقتصادي والإجتماعي والأمني، وهو أصبح معرضاً للإنفجار بسبب تعقيدات الوضع العام للمنطقة وتعقيدات التركيبة الطائفية والسياسية والفئوية اللبنانية، وأن تأثير الأزمة السورية لا يقتصرعلى الناحية الإقتصادية والإجتماعية فقط، بل تجاوزها أيضاً إلى تعميق المأزق السياسي اللبناني وانكشاف الدولة أمام فراغ هائل في مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والامنية والإدارية، فلبنان يُحكم اليوم بمجلس نيابي (غير شرعي) ممدداً له، وبحكومة تصريف أعمال، وبرئيس جمهورية عاجز ينتظر التمديد له أو الذهاب إلى المنزل، وبمؤسسات قضائية وأمنية وإدارية بدون رأس، وبمسؤولين سياسيين لا يجيدون إلا لغة المهاترات والتهرب من المسؤوليات.

لقد أصبحنا دولة تستوفي كافة المعايير العلمية للدولة الفاشلة، ودولة لا تبالي بحكم المؤسسات وسيادة القانون ومبادىء العلم الدستوري والإداري، وأهله لا يملكون أن يولوا عليهم مسؤولاً شرعياً واحداً يلتزم بمبادىء الحرية والعدالة والمساواة، وأن مؤسساتهم إنقسمت بين الطوائف والفئات، وأن جيشهم الذي لم يزل حتى اليوم المؤسسة الوحيدة التي يُجمع عليها اللبنانيون، اصبح هدفاً لسهامهم الطائفية والفئوية والحزبية الضيقة...

إلى متى ننتظر الإنفجار القادم إلينا من الشرق؟ وإلى متى سنرضى بأن نسلّم شؤوننا الحياتية ومستقبل وطننا وأبنائنا إلى هذه الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة بمصائرنا؟ وما العمل أمام كل ذلك؟. قد يكون من السذاجة بمكان أن ننتظر الإجابة على هكذا أسئلة من هكذا نخبة سياسية وحزبية أو نقابية تفتقد في ممارستها إلى روح الديمقراطية والمسؤولية، ولم تحسم خياراتها بعد في تعاملها مع الوطن إن كان هو ساحة للعيش، أم هو دولة - تسوية تتصارع فيها الأقليات، أم هو وطن نهائي لكل أبنائه وله إستقلاله وسيادته.

وإلى أن نحسم خياراتنا سنبقى عرضة لتأثيرات الرياح العاتية التي تهب على المنطقة، وسنبقى نجهل نوع الغلّة التي ننتظر حصادها...

أحمد حسّان

تعليقات: